الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 84

عبدالرحيم قروي

2023 / 11 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اَلنَّصُ اَلْمُؤَسِّسُ وَمُجْتَمَعُه
اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى
خليل عبد الكريم
الحلقة الثالثة

تأثير كتب التراث على القارئ

أما الأخرى الأوعر والأدهى والأنكى فهى:-
إيهام القارئ أن هذه الخزعبلات والشعبذات هى عين ما جاء به القرآن الكريم وما هدف إليه وما تغياه.
ولعل من نافلة القول أن نسطر أنه لاتوجد إساءة له أشد, إذ هو منها برئ براءة الذئب من دم الفتى الحليوة يوسف بن بعقوب, لأنها تقيم بين القارئ وبين المعطيات الصحيحة للذكر الحكيم سدًا منيعًا, وتحول دون فهمه إياها على الوجه السديد وتمنح الطروحات الزيوف سندًا مقدسًا مما يشبع الخرافات والجهل لديه وينفحه مناعة ضد قبول العلم وحصانة ضد أعمال العقل وملكة ـ إن صح هذا اللفظ ـ العيش فى خضم رمال البداوة وهضاب الجهالة وكثبان التخلف.
ونضع فى حجر القارئ علة أخرى لِخَنَس المفسر المعاصر عن النص الأصلى وهرولته إلى التفاسير التراثية يشرب منها عَلَلا بعد نهل بل يَعُبّ منها حتى يتضلع:
الكسل العقلى والإسترخاء الفكرى والبلادة الذهنية وجِماهعا متوافقة تمامًا مع حالة التردى الراهنة التى تضرب الشعوب الإسلامية عربية أو أعجمية, فباستقراء تاريخ الفكر الإسلامى نافى أنه فى عصور الإنحطاط يختفى الإبداع والإختراع والإبتكار ويشيع فيه التكرار والإجترار والإتباع.
وهو بالفعل ما حدث منذ أن بدأ إنكسار الحضارة الإسلامية وهبوط خطها البيانى با وانحداره بشدة, ونستطيع أن نذكر, مع قدر غير قليل من التجاوز, أنه طفق يتحقق منذ القرن السابع الهجرى, إذ تحول التأليف إلى تصنيف وتجميع وتوليف .... إلخ. وأطلت الرؤوس الشوهاء للحواشى والتعليقات والملخصات والشروح.... إلخ.
ومن ثم فإنه من المؤتلف لهذه السُنَّة الإجتماعية أنه لم يظهر فيلسوف بعد ابن رشد وتوارى فى الظل المجتهد المطلق بعد أئمة المذاهب الأربعة ومن لحق بهم إبان قرنين من الفقهاء ولم يبزغ فى سماء علم الكلام نجم ساطع وقمة شامخة كواصل بن عطاء والجبائيين والجاحظ والنظام, ولم نر شاعرًا مفلقًا مثل أبى تمام والبحترى وجرير والأخطل وبشار بن برد وأبى علاء المعرى.
أما فى نطاق المادة المبحوثة فقد إنتهى زمن المفسرين الأكابر: مقاتل بن سليمان والطبرى والقرطبى والرازى والزمخشرى والبيضاوى وابن كثير .... إلخ.
ثم نرجع لسياقة الدراسة: إذن إتخاذ المفسر المعاصر التفاسير التراثية أو السلفية عكازًا له مسألة طبيعية تناسب ولا تبايِن و تأتلف ولا تغاير وتوائم ولا تتنافر مع التخلف الحالى الذى تعانيه المجتمعات الإسلامية, إذ تصل نسبة الأمية فى العديد من دولها إلى أكثر من سبعين فى المائة, هذا عن الأمية الأبجدية, أما عن الأمية الثقافية فحدث ولا حرج, ويعيش شطر كبير من شعوبها تحت خط الفقر, ويكفى أن كل أربعة من عشة أشخاص فى مصر على ذات الشاكلة, وأن سكان العشوائيات فيها يجاوزون الإثنى عشر مليونًا.
ومصر تعد من الذؤابة العليا فى الدول العربية فما بالك بالتى تعدن فى مؤخرتها أو مقعدها أو عجيزتها !!.
إذن من الناحية العملية يستحيل أن تبرز التفسيرات الحديثة المعاصرة بهيئة منافرة لما تبدو بها الآن.
فالذين دبجوها هم قطعة من نسيج مجتمعاتهم المتهرئة المتردية فى وهاد التأخر والتبدى والتوحش.
ومن جانب آخر إذا إفترضنا جدلاً أن المفسر الحديث المعاصر أبدع تفسيرًا يمتاز بالإستنارة ويتسم بالعقلانية وتفوح فى جنباته روائح التقدمية, فلمن يقدمه؟, ومن يقبل على مطالعته؟.
إن البعد عن التفاسير التقليدية أو التراثية للقرآن العظيم المدون أو المخطوط أو المكتوب والمعروف بـ " مصحف عثمان" والتوجه نحو القرآن المجيد المتلو والمقروء والذى حفظه الصحابة فى صدورهم وهم الذين عرفوا بـ " القراء" والذين استشهد منهم فى اليمامة فى معركة حديقة الموت ضد بنى حنيفة المئات, وهو الأمر الذى أفزع العدوىّ عمر بن الخطاب فأشار على التيمىّ ابن أبى قحافة بجمع القرآن وتدوينه ـ عبء ثقيل على المفسر المعاصر ولا طاقة له به لأنه يحتاج لإى البدء إلى:
أفق وسيع, وقريحة متوقدة, وبصيرة نافذة, وعقلية متفتحة, وفكر جسور. كما يتطلب صبر أيوب على البحث والدراسة والنقيب والتنقير فى المصادر الأصلية فى شتى فروع العلوم الدينينة, وهذه التزامات شاقة مجهدة لاطاقة له بها, هذا إن أحسنا الظن به وسلمنا أنه تمتع بالملكات العقلية الى ألمحنا إليها فى ناصية هذه الفقرة, بقيت فقرتان رشيقتان نختم بهما هذه الفرشة: بيد أن الإضطلاع بهذه المهمة الخطيرة يكافئ ما يبذل فى سبيل تحقيقها.
الأولى: إن المفسر المعاصر / الحديث عندما إختار النقل أو الإقتباس من موسوعات ومؤلفات وكتب التفسير التراثية السلفية, علاوة على أنه آثر السلامة وفضل العافية وإنحاز لناحية الدعة فإن احتمالاً قائمًا لا نستبعده نحن, وهو أنه غير مؤهل لأن يدرك هو أن الكتب التى جاء بها البطاركة الكمل ـ لا القرآن وحده ـ ليست محتوى لغويًا فحسب, بل هى مجموعة من المحتويات منها القصصى, والإجتماعى, والسياسى, والعسكرى والحربى, والتعليمى, والفقهى ... إلخ.
وأنه مكتوب بلغة عالية وهو, وهذا خاص بالقرآن, إذ دخل فى علاقة جدلية فى شطر وسيع منه ـ مع الواقع المعاش والحياة اليومية لمن تلقوه أو استمعوا إليه ـ فإن هذه اللغة العالية هى التى أتاحت وما زالت تتيح وسوف تستمر فى نفح الفرصة أو الفرص لإعادة إنتاج خطاب آخر على هامشه وهو خطاب تفسيره وتأويله, ورقمنا كلمة " على هامشه" لأنه جزمًا وحنمًا وضرورة انتصاب فارق واضح بين النص الأصلى وهو الذكر الحكيم وبين التفسير.
ومن هنا فإن النص المقدس أو الأصلى ثابت مطلق لايتغير فيه حرف واحد, أما الخطاب الثانى , وهو التفسير, فهو نسبى متغير متحرك, لأنه يتأثر لا بالظروف الذاتية لمبدعه مثل ثقافته ومنحاه الفكرى وأيديولوجيته .... إلخ, بل وبالأحوال العامة لمجتمعه وبيئته من كافة أقطارها: السياسية, والإجتماعية, والإقتصادية, فجميعها بغير إستثناء تترك بصمات أصابعها على المنتج الثقافى البشرى وهو التفسير, وهذا علة إختلاف التفاسير على مر العصور, وهنا مكمن الخطأ المنهجى الذى يرتكبه المفسر المعاصر عندما يهجم على التفاسير القديمة وينقل منها إما بفصها ونصها وإما بمعناها.
الأخرى: هى تحليل سريع لخبر ثابت فى كتب تأريخ القرآن خاصة ومؤلفات التاريخ الإسلامى العام والسيرة والتفسير ...إلخ, وهو أن العدوىّ عمر بن الخطاب أصابه الجزع وأحس بالإضطراب عندما بلغه نبأ قتل مئات من القراء أى حفظة القرآن فى حديقة الموت على يد جنود مسيلمة الكذاب زعيم وقائد بنى حنيفة.
ما وجه هَلَع العدوىّ بن الخطاب لموت أولئك الحَفَظة وهو يعلم أن القرآن مكتوب على العظام وسعف النخيل والأقتاب والأكتاف؟ .... ولماذا إقترح جمع القرآن وكتابته وهو يعرف أنه, فضلاً عن ذلك, محفوظ فى صدور المئات فى قرية يثرب وغيرها وأنه إن استشهد من الحفاظ مئات فقد بقى منهم أضعاف هذا العدد, إذ إن حفظ القرآن شكل لديهم منقبة يفخر المسلم بها, حتى النسوة فعلنه؟.
وما هو السبب فى أن أبا بكر تردد فى قبول الإقتراح, وأن زيد بن ثابت اليثربى قاومه باستماتة ولم يرضخ إلا بعد أن ضغط عليه التيمىّ والعدوىّ؟.
لعل الإجابة على جماع هذه التساؤلات هى إعتقاد أبى بكر وزيد بن ثابت أنه من الأصلح بقاء القرآن العظيم محفوظاً فى الصدور, حتى يستمر على نضارته وبكارته وطزاجته وانفتاحه.
ويؤيد هذه الفكرة أن " سيد بنى آدم" لم يأمر بتدوينه ونقلت إلينا كتب سيرته الزكية أنه دأب على سماعه من عدد من الصحابة مشافهة ومباشرة, ولا يوجد خبر فرد أنه كلف واحدًا منهم بأن يتلوه عليه من تلك الأدوات العجيبة التى كتب عليها!.
إذن المصحف المقروء أو المتلو الذى استودعه الصحاب صدورهم واختزنوه فى ذاكرتهم ووعوه فى قلوبهم وحده هو الذي تسيد وهيمن طوال الثلاثة والعشرين عامًا, منذ واقعة مغارة حراء الخارقة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًا, ثم شطرًا من خلافة ابن أبى قحافة التيمىّ ثم دون فى صحائف وسلم إلى حفصة بنت عمر إحدى الزوجات التسع لـ " أول من تنشق عنه الأرض", ومع ذلك ظلت الهيمنة والسيادة للحفظ والتلاوة والقراءة الشفوية باقى أيام أبى بكر التيمىّ ثم طوال عهد العدوىّ عمر بن الخطاب وشطرًأ من حكم الأموىّ عثمان, فإذا حسبت هذه المدد وضممتها إلى بعض بلغت أربعين عامًا, وبداهة لاينال من سيطرة القرآن الكريم المحفوظ فى الصدور, وجود مصاحف خاصة لدى بعض كبار الصحابة على رأسهم: أبو الحسنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأُبَىّ وأبو موسى الأشعرى, ومن النسون التيمية عائشة, لأن هذه حالات استثنائية والإستثناء لايقاس عليه.
وبعد هذه الجملة الإعتراضية نؤوب إلى السياق:
علام يدل تسيد المصحف المتلو أو المقروء أو المحفوظ فى صدورهم رجالاً ونسوة لمدة نيفت على الأربعين عامًا إن فى قرية القداسة بكة أو فى قرية بنى قيلة, ويمكن أن نضيف إليهما قرية بنى ثقيف" الطائف" , مع الوضع فى الإعتبار أنها " مدة الأربعين عامًا" ليست عادية, لأنها هى التى شهدت الميلاد وعاينت التدشين وحظيت بالإنبثاق وسعدت بالظهور, وتمتعت بالشروق, والذين عاشوها شكلوا طليعة التلقى, وجماعة ميزها بالبكارة ووسمها بالنضارة وحلى صدرها بالطزاجة وزين جيدها بالانفتاح وهى بكل المقاييس حقبة مدهشة معجبة؟.
وتبعًا لذلك فإن القرآن الكريم الذى هيمن عليها ـ ونكرر أنه لايباين القرآن المجيد الذى تم تدوينه إبان حكم الأموى عثمان بن عفان فى مصحف واحد ـ هو الذى يمنح دفعة قوية للتعرف عليه والريض فى جنباته المورقة وتنسم روائحه العطرة وتذوق طروحاته الشهية.
ورأينا أن الطريق إلى ذلك هو التنقير عن أسباب النزول وعن الملابسات التى واكبت ظهور الآيات والوقائع التى حايثت شروق النصوص, لأنها من جانب هى ذاتها التى دفعت الصحاب إلى حفظها ووعيها ودسّها فى الذاكرة, لأن البدوى الأمى يعتمد عليها بالكلية بخلاف المتحضر والمتمدين, ومن ناحية أخرى لها أهمية بالغة وخطر شديد فى الكشف عن تأريخ القرآن العظيم, والإبانة عن مساره وإلقاء أضواء كواشف على خطواته.
أما الناحية الثالثة وهى مسك الختام: رفع الستار عن ذلك المجتمع وتلك البيئة فى جميع أقطارها وهو شأن يفوق فى نفاسته ويبز فى ثمانته كل ما سبقه, لأن التعرف على أحوال المجتمع والبيئة هو الرافعة اليتيمة التى لاضروب لها لاستخلاص القيم واستقطار المعانى واستخراج الدلالات التى هى ـ دون غيرها ـ المعوّل عليها فى النهوض من الكبوة والإنفلات من الوهدة والإنعتاق من القيود التى تكبِّل مجتمعنا وتمنعه من المضىّ قدمًا كيما يلحق بالذين سبقوه فى مضمار الحضارة.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت


.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق




.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با