الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزقّورات في بلاد الرافدين

عضيد جواد الخميسي

2023 / 12 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الزقورة هي شكل من أشكال العمارة الضخمة التي نشأت في بلاد الرافدين القديمة ، وبناؤها عبارة عن قاعدة مستطيلة تعلوها سلسلة من المدرّجات تنتهي بمستوى هندسي مسطّح حيث مكان المعبد الذي شُيّد فوقه . ويُفهم أيضاً ؛على أن الزقّورة هي جبل اصطناعي مُقام لعبادة الآلهة ، وسبيلاً لتقرّب الكهنة من السماء .

يُعتقد أن شعب العُبيد (حوالي عام 5000-4100 قبل الميلاد) قد نزح من الجبال إلى السهول في بلاد الرافدين و تعايش مع السومريين (أو كانوا هم السومريون أنفسهم) ، وهم أول من شيّد الزقّورات كمواقع دينية مقدّسة (مجرّد تخمين) .
وقد أُشير إلى بعض الزقّورات على أنها من الجبال وبأسماء سومرية ؛ حيث كان المعبد يُعرف في السومرية باسم " يونير unir " ، "وزيگورّاتوم ziggurratum "، أو زيگورارتو ziggurartu " في الأكدية ، وكلاهما يعني "القمة" أو "الذروة" أو "المكان العالي" ، وكانت تلك الأماكن المرتفعة بمثابة منصّات استعراض للكهنة في أدائهم للطقوس أمام جمهور المتعبدين .

خلال فترة أوروك السومرية (عام 4100-2900 قبل الميلاد) ، شُيدت الزقورات في كل مدينة تكريماً للإله الراعي لذلك المجتمع . إذ لم تكن الزقّورات أو المعابد صرحاً عامّاً للعبادة ؛ بل كانت المسكن الأرضي لإله المدينة . حيث المعبد يكون تحت إشراف رئيس الكهنة ، وتأدية الخدمات يقوم بها صغار الكهنة . وقد استمر بناء الزقّورات خلال فترة الأسرات المبكرة لبلاد الرافدين (عام 2900-2334 قبل الميلاد) ، ومن ثمّ انتقل هذا النموذج إلى كلتا الحضارتين الأكدية والبابلية وغيرهما من الحضارات في المنطقة .

كانت أشهر الزقّورات في التاريخ هو "برج بابل" المرتبط بـ زقورة بابل العظيمة المعروفة باسم "إتيمنانكي" بمعنى (أساس السماء والأرض) ، وقد جاء ذكرها في قصص التوراة "وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ . وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ ."( تكوين /الإصحاح 11 ـ 9،5،2 ) .

من أفضل الزقّورات التي مازالت آثارها قائمة إلى الآن هي زقّورة "أور" التي بدأ بناؤها في عهد الملك "أورـ نمّو" (عام 2047-2030 قبل الميلاد) ، واكتملت في عهد ابنه وخليفته الملك "شولگي أور ـ نموّ" (عام 2029-1982 قبل الميلاد) .
وكانت ثاني أفضل الزقّورات هي " چوگا زنبيل " التي شُيّدت في عهد الملك العيلامي " يونتاش ناپريشا " ( عام 1275-1240 قبل الميلاد) ، ويرجع تاريخها إلى عام 1250 قبل الميلاد ، وتقع في إقليم عربستان ـ إيران . كما توجد العديد من الزقّورات المُدَمرّة في جميع أنحاء الشرق الأدنى ، وقد فقدت الكثير من معالمها بسبب نهب أحجارها ، أو بتأثير عوامل التعرية المناخية .
وقد كانت الزقّورات في إقليم عربستان يُمارس فيها النشاط الديني منذ حوالي عام 3000 قبل الميلاد ، إلاّ أنها لم تعد صروح مقدّسة بحلول عام 500 قبل الميلاد؛ وذلك بعدما غيرّت الزرادشتية الفارسية السلوك الديني في المنطقة . والغريب في الأمر، أن الزقّورات في حضارات الأمريكيتين التي لم يكن لها أي تواصل مع بلاد الرافدين؛ يُلاحظ فيها نفس تصميم الزقورات الرافدينية .

الغرض من بناء الزقّورات
أن الغرض من بناء الزقّورات كان لارتقاء المكلَّف بخدمة الآلهة (كبير الكهنة للإله ، أو الكاهنة الكبرى للإلهة) إلى مستوى بين السماء والأرض . وكان المفهوم السائد أن الآلهة تعيش في مكان مرتفع ، ولكي تُجرى المشاورات معهم بصفاء ؛ يحتاج المرء بالاقتراب من عالمهم قدر المستطاع . وبمجرّد ما أن يتحقق ذلك ، فإن الإله قد يقضي بعض الوقت على الأرض متجسداً في تمثاله داخل المعبد الذي في أعلى الزقّورة كما كان يُعتقد .

رأى المؤرخ اليوناني هيرودوت (عام 484- 413 قبل الميلاد) ؛ " ان الهدف من بناء الزقّورات هو؛ ​​أن الإله مردوخ في بابل (الذي أشار إليه هيرودوت باسم زيوس ) ، قد نزل من السماء إلى المعبد في أعلى زقّورة المدينة ليضاجع المرأة التي تعيش هناك ، حيث لا يوجد تمثال لمردوخ في ذلك المعبد ، فقط تلك المرأة "( التواريخ 1: 181-182) .
وحسب هيرودوت ؛ هذا المفهوم كان يتماشى مع الاعتقاد السائد في أن الإله يمارس الجنس مع امرأة مختارة ، وذلك لضمان خصوبة الأرض .

من المنطقي جداً كما أشار البروفيسور "ستيفن بيرتمان" ، أن وجود الزقّورة كان لتوفير السلامة والأمان :
" في أرض يدمّرها الفيضان باستمرار، كانت الزقورة مجرّد بناء ضخم لرفع مقام مقدّس بقصد حمايته من أضرار المياه ." (ص 197)

بالإضافة الى كونها معابد ؛ ربما كانت الزقّورات أيضاً بمثابة مراصد فلكية ، وهي فكرة قدمها المؤرخ "دايودرس سيكلوس" (عام 90-30 قبل الميلاد) الذي لاحظ كيف استخدم علماء الفلك البابليون الزقّورة لتوثيق "مشاهداتهم عن النجوم التي من المرجّح في أن ارتفاعاتها ومواقعها قد تمّ تحديدها بدقة بسبب علوّ الزقورة "( التاريخ ، 2: 9 ؛ بيرتمان ، ص 196) .
ويرى البروفيسور بيرتمان أيضاً ؛ أنه كان من الممكن استخدام الزقّورات لأغراض مختلفة ، ولا يوجد سبب محدد يستبعد أيّاً من الفعّاليات الأخرى .

كان هيكل معبد الزقّورة من قاعدته في الجزء الوسطي و حتى الجزء الخارجي يُبنى مرصوصاً بالطوب الطيني المجفف بالشمس دون أي حُجرات أو تجاويف . ويُغلّف هيكل المعبد بالطوب المفخور بالنار، ومن ثم وضع النقوش والرسومات على جدرانه. ويرتفع من فناء مجمّع المعبد ساحة كبيرة للتجمعات الدينية مع مبانٍ حول محيطها بما في ذلك الجزء المخصص للزائرين . وتشمل تلك المباني منازل للكهنة ومدرسة للكتابة ، ومطبخ وقاعة طعام ، ومكاتب إدارية مُحاطة جميعاً بسور من الطوب الطيني . وكان الكهنة الإداريون يشرفون على النشاط اليومي للمجمّع وتقديم النصح والإرشاد والمساعدات الطبية ، وتوزيع فائض الطعام على المواطنين .

لم تكن الزقّورة نفسها والمعبد مكانين للعبادة العامة في بلاد الرافدين القديمة ؛ لأن المعبد كان مسكناً للإله ، وقد سهّل ارتفاع الزقّورة على هذا الإله أو الإلهة طريق الزيارة الى مسكنه أو مسكنها . وكان الناس يأتون إلى المجمّع من أجل الخدمات الدينية ، ولمشاهدة رئيس الكهنة وهو يمارس طقوس تقديم النذور والأضاحي للإله من على سطح الزقّورة ، أو يدخلون إلى المعبد في الأعلى لتلقي الوصايا والأوامر الهامة .

الملوك والكهنة
في فترة أوروك ، كان الكاهن الأكبر هو حاكم المدينة أيضاً ؛ الذي استمّد سلطته مباشرة من الإله الراعي الذي كان حامياً لها . وقد كتب العالم "مارك ڤان دي ميروپ" المقطع التالي حول هذه النقطة :
"على رأس مجتمع أوروك كان يقف رجل قوته مستمدة من دوره في المعبد ، وكثيراً ما يطلق عليه العلماء لقب (الملك الكاهن) . أمّا أسفل السلّم الاجتماعي حيث كان التابعون للمعبد ؛ هم الأشخاص المشاركون في الإنتاج الزراعي أو غير ذلك من النشاطات ." (ص 27)

كان التابعون للمعبد المعروفين باسم (سركوس )؛ هم لا أحرار ولا عبيد ، لكن ارتباطهم بالمجمع كان بصفة عمّال ومسميات مختلفة .
في البداية ، كان رئيس الكهنة مسؤولاً ومشرفاً على الأعمال الروتينية في المعبد بالإضافة إلى مهّامه الإدارية في المدينة ، لكن بمرور الوقت ، يبدو أن تلك المسؤوليات أصبحت مرهقة جداً على شخص واحد مع بضع مساعدين ، ممّا تطلّب وجود قائد علماني بصفة "ملك".

جاءت فكرة الملك من مفهوم اللوگال (الرجل القوي) ، الذي كان يرأس العشيرة أو القبيلة ، وذلك عندما أثبت أنه قائد ومحارب شجاع . وبعد تأسيس الملكية ، كرّس رئيس الكهنة نفسه بالكامل لخدمة الإله ؛ بينما أُنيطت إدارة شؤون المدينة إلى الملك ، وذلك بعد ترّسيخ سلطته من خلال الغزو والقتال ، وفرة الحصاد ، وتلبية مطالب شعبه. وكتب البروفيسور بيرتمان التعليق التالي :

"وبذلك يكون [الكاهن] مُمثِلاً لإله المدينة على الأرض ، حيث يدير شؤون المعبد والأشخاص الذين يعملون فيه مع إدارة المدينة بالكامل . إلا أنه أُستُحدث منصب ثانٍ هو منصب [الملك] أو الحاكم ؛ الذي أصبح من واجبه إدارة الشؤون المدنية ( القضاء ، السلم الإجتماعي، التجارة والتبادل التجاري ، والشؤون العسكرية) ؛ بينما استمر [الكاهن] في إدارة شؤون المعبد." (ص 65 )

يبدو أن تقسيم تلك المسؤولية قد نجح في الإدارة ، باستثناء الملك الآشوري "سنحاريب" (حكم 705-681 قبل الميلاد) الذي رفض الخضوع لأعراف وتقاليد كهنة بابل ، حيث يعمل كلاً من الملك والكهنوت بانسجام دائم .
لقد كانت انتصارات الملك في المعارك ونجاح غزواته وتطويره للمملكة ؛ دليلاً على أن الإله كان راض ٍعنه ، وطالما استمرت سلسلة نجاحات الحاكم ؛ كان على الكهنة مؤازرته . لذلك ؛ يعمل مجمّع القصر والمعبد معاً بسلاسة كـ (سلطتين مدنية ودينية ) في استقرار الممالك في بلاد الرافدين .

كانت الزقّورة التي شُيّدت في وسط المدينة تُعدّ قلب المجتمع (رمزياً) ، والقصر الذي يقع قريباً أو بعيداً عنها رأسه ( عملياً ) . وتأسس مفهوم الملكية حوالي عام 3600 قبل الميلاد ، وبحلول زمن المرحلة الأولى من فترة الأسرات المبكرة كانت (الأسرة الأولى عام 2900-2800 قبل الميلاد) جزءاً لا يتجزأ من كامل المجتمع الحضري . ومع تغيير ديناميكية الحكم من فترة أوروك إلى عصور لاحقة ، بدت الزقّورات إلى حدّ ما متشابهة من حيث الشكل الهندسي والغرض الديني ، ولكنها توسعت وأصبحت بارتفاعات أعلى لتعكس عظمة المدينة ونظام الحكم الناجح لملكها .

زقّورتا أوروك وأور السومريتين
أفضل نموذجان في هندسة الزقّورات هما أوروك ، وأور المشيّدتان على التوالي ، عام 3000 قبل الميلاد ، ما بين عام 2047 وعام 1982 قبل الميلاد . وكانت زقّورة أوروك ترتفع نحو 12 متراً فوق السهول المحيطة ، وكان يعلوها بناءً يُعرف باسم "المعبد الأبيض" بأبعاد (17 × 22 متر) ، ويتم الوصول إليه عن طريق سلالم على جانب الزقّورة . كما شُيِّد مبنىً حجري أسفل الزقّورة مباشرة ( الغرض منه غير معروف) .

تم بناء زقّورة أوروك ومعبدها من الطوب الطيني المجفف بالشمس مع سطح علوي مغطّى بالقار ومن فوقه طبقة من الطوب ، مما يوفر عزلاً للنضوح المائي وأساساً آمناً للمعبد المطلي باللون الأبيض المُشّع . وتشير عمليات إعادة البناء إلى أن المعبد قد تمّ بناؤه تقديساً لإله السماء "آنو" . وعلى الرغم من بساطته ؛ إلاّ أنه كان مثيراً للإهتمام . وبحلول الفترة التي شُيّدت فيها زقّورة أور ؛ تحول هذا النموذج إلى تصميمٍ أكثر تعقيداً .

الملك أورـ نمّو الذي هزم الگوتيين في وقت مبكر من حكمه ؛ أراد أن يقدم نفسه لشعبه كشخصية الأب الراعي . لذا فقد أمر في بناء الزقّورة كتتويج كبير لحكمه ؛ ومن ثمّ أكملها من بعده ابنه الملك شولگي . وقد تم بناء الزقّورة من الطوب الطيني المجفف بالشمس مع سلّم رئيسي يمتد من الأرض إلى الطابق الأول وسُلّمين جانبيين من اليسار واليمين . إذ يمكن للمرء أن يستقل السلّم الرئيسي ثم السلّم الجانبي ليصل إلى الطابق الثاني ثم الطابق الثالث حيث مكان المعبد .

عُثر على زقّورة أور في حالة خراب في عهد الملك البابلي "نبوـ نيد" (عام 556-539 قبل الميلاد) ، حيث يشار إليه أحياناً باسم "عالم الآثار الأول" الذي أمر بترميمها . وأن فكرة ترميم الطابق الأول للموقع كانت في الأساس بخطة من الملك نبوـ نيد ؛ بينما جاءت خطط الترميم الأخرى في العصر الحديث من الرئيس الراحل صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي . وعلى الرغم من أن هاتين الزقّورتين اللتين يمكن رؤيتهما من مسافة بعيدة ، إلاّ أن الزقّورة الأعلى والأكبر والأكثر شهرة هي "زقّورة بابل" (التي شُيّدت مابين القرنين الرابع عشر والتاسع قبل الميلاد) والمعروفة في التوراة باسم "برج بابل" .

برج بابل
وصف المؤرخ اليوناني "هيرودوت" زقّورة بابل بأنها معبد ضخم . وكان القصر الملكي يقع في واحدة من المنطقتين ، وكانت الزقّورة (التي حددها على أنها مخصصة للإله زيوس ، ولكنها كانت تقديساً للإله مردوخ) قد اتخذت لها موقعاً في المنطقة الأخرى :

" في وسط إحدى منطقتي المدينة حيث القصر الملكي محاطاً بسور طويل ومُحصّن ، وفي وسط الأخرى هناك بوابة من البرونز لمزار الإله زيوس أو بيل ، وحيث أنا واقف ؛ هناك هيكلاً مربعاً في كل جانب منه ممّرين طويلين . وعند منتصف الهيكل ، حيث برج كبير يتصل مع برج آخر له نفس الطول والعرض بواسطة ممّر ، والذي بدوره يتصل مع برج آخر. وهكذا: في المجموع ثمانية أبراج . هناك سلّم رئيسي يشق طريقه صعوداً من الخارج إلى جميع الأبراج ؛ وفي منتصف طريق أعلى السلّم حيث غرفة فيها مقاعد للراحة ، إذ يمكن للزائرين في الصعود والنزول ؛ الجلوس لالتقاط أنفاسهم . ويوجد في البرج الأخير معبد ضخم ." (I.181)

تشير تقديرات العصر الحديث إلى ارتفاع الهيكل كان يبلغ حوالي (54 متراً) ، ولكن هذا مجرّد رقم تخميني ؛ حيث كانت زقّورة بابل مُدَمرّة في زمن وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 قبل الميلاد .
لقد أصبحت الزقّورة مرتبطة مع برج بابل في سفر التكوين التوراتي ( 11: 1-9 ) ، الذي يحكي لنا قصة قيام سكان المدينة في بناء برج للوصول إلى جميع السماوات كي يصنعوا لهم مجداً ، وتاريخاً لا ينمحي من الذاكرة في زمن كان جميع العالم يتحدث بنفس اللغة .
وجد الرّب أن هذا الأمر قد سبب له استياءً ، وفكّر في أنه إذا سُمح لهم في البناء وصولاً إلى السماء ، فلن يكون هناك حدود يتوقفون فيها مستقبلاً . لذا كان قراره في أن يكون هناك لغات مختلفة ينطق بها الناس ، كي لا يفهموا بعضهم البعض ، ولا يكون اجماع بينهم ، وبالتالي يتخلّون عن طموحهم في الوصول إلى حدود السماء .

لم تحدد الرواية التوراتية المدينة على أنها "بابل" ، إلا أن البرج كان بناؤه "على سهل في أرض شنعار" ، وهو ما يُفهم على أنها أرض سومر . ولم يرد مصطلح "برج بابل" في التوراة أبداً ؛ لأن المكان الذي يزوره الرّب يسمى فقط بـ"المدينة" أو "المدينة والبرج". ورغم كل ذلك ، فلا تزال تلك الرابطة عالقة ؛ "وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ . وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ ."( تكوين /الإصحاح 11 ـ 9،5،2 ) . ولدى العلماء نظريات متضاربة حول كيفية تحوّل تسمية الزقورة البابلية "إتيمنانكي" إلى برج بابل .

خبير السومريات " صموئيل نوح كريمر " كان له رأي آخر ، كما جاء في المقطع التالي :
"جاءت قصة بناء برج بابل بلا شك في محاولة لتبرير وجود الزقّورات في بلاد الرافدين . وبالنسبة للعبرانيين ، أصبحت هذه الأبنية الشاهقة التي غالباً ما يمكن مشاهدتها في حالة يُرثى لها من الخراب والدمار .
هذا المشهد قد يوحي للمواطن العادي في أنه نذير شؤم وعدم الأمان عندما تحضر شهوة السلطة جالبة معها سيلاً من الإذلال والمعاناة التي لا علاقة له بها . لذا؛ فمن غير المرجح أن نجد قصة مماثلة لتلك عند السومريين ؛ لأن الزقّورات وُجدت كحلقة وصل بين السماء والأرض ، أو بين الإله والإنسان . من ناحية أخرى ، فإن الفكرة القائلة ؛ في زمن ما كانت فيه جميع شعوب الأرض تتكلم بـ (لغة واحدة وبنفس الكلمات) قد انتهت تلك الصدفة السعيدة بسبب إله غاضب !!؛ لذا أقول : لربما يكون لها نظير في العصر الذهبي لمقطع من الرواية الملحمية السومرية (إنميركار وإله أراتّا) " (ص 293-294)

ربما كان "الإله الغاضب" قد أوقف إكمال برج بابل ؛ لكن زقّورة بابل لاقت مصيراً مختلفاً !. إذ بعد أن دمرها سنحاريب عام 689 قبل الميلاد ؛ أُعيد بناؤها من قبل الملوك المتعاقبين خلال فترة حكم "الملك نبوخذ نصر الثاني" (عام 605 / 604-562 قبل الميلاد) ، ثمّ دُمرّت مرة أخرى وكانت في حالة سيئة. وفي عام 323 قبل الميلاد ، أمر الإسكندر الأكبر برفع أنقاضها لبناء زقّورة جديدة ؛ لكنه تُوفيّ بعد فترة وجيزة ، وتخلّى خلفاؤه عن خطط إعادة إعمار بابل . وبالتالي ؛ قام مواطنو المدينة بنهب أحجارها وموّادها ، وإعادة استخدامها لأغراض أخرى .

لاقت الزقّورات العديدة الأخرى في جميع أنحاء بلاد الرافدين والمناطق المجاورة نفس المصير بعد عام 500 قبل الميلاد ؛ عندما جعلت العقيدة الفارسية "أهورا مزدا" هو الإله الأوحد مالك القوّة والوجود ، لذلك لم يعد للزقّورات منزلة دينية في المفهوم الإيراني . أمّا طقوس العبادة ومراسيم النذور والأضاحي التي لا يزال كهنة الزرادشتية يمارسونها ؛ قد اتخذت شكلاً جديداً في عقيدتهم .

تم التخلي عن زقّورة "سيالك" في منطقة تيپي سيالك الإيرانية (حوالي عام 3000 قبل الميلاد) . و زقّورة " عگرگوف " بالقرب من بغداد التي بناها الكيشيون في عهد الملك "دور ـ كوريگالزو" (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) ودمرّها العيلاميون . أمّا الزقّورة الكبيرة " چوگا زنبيل " في عربستان ـ إيران ؛ دُمرّت ولكن ليس لأسباب دينية .

على الرغم من أن الزقّورات في بلاد الرافدين غالباً ما تُقارن بأهرامات بلاد النيل ، والجدل مستمر حول أيهما جاء أولاً ، إلاّ أن زقّورات بلاد الرافدين ليس لها علاقة بالعمارة المصرية ، وبالتأكيد أيضاً ليس لها علاقة بالهرم المصري من ناحية المغزى أو الغرض . حيث لا يوجد دليل على أن تصميم الهرم المدرّج المصري قد تأثر بفكرة الزقّورة . وعلى الرغم من هذا التأكيد ؛ إلاّ أنه يبقى مجرّد احتمال ؛ لأن الإجماع العلمي يعرّف الأهرامات على أنها محطّات للموتى في رحلتهم إلى الحياة الثانية ، بينما فكرة ارتفاع الزقّورات في بلاد الرافدين ؛ هي الوسيلة أو الأداة للتقرّب من الآلهة التي هي مبعث الحياة .

الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في الزقّورة ، سواء كان التصميم قد أثرّ أو لم يؤثر في هرم بلاد النيل ؛ هو كيفية ظهور نفس الفكرة عينها في الحضارات التي لم يكن لها اتصال مع بلاد الرافدين ، مثل حضارة المايا وحضارة الأزتك ، وثقافة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية . إذ تعكس فكرة زقّورات المايا مثل ؛ "تچيتچن ـ إيتزا" ، و" أوكسمال " ، و" تيكال " ، والعديد من الهياكل الأخرى أيضاً ؛ نموذج الزقّورة الرافدينية ؛ مما يشير إلى الحاجة البشرية الشاملة للارتقاء في التواصل مع مفهوم لسلطة أعلى وأقوى .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
جان بوتيرو ـ الحياة اليومية في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة جونز هوبكنز ـ 2001 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: تاريخهم وثقافتهم وشخصياتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ أتلانتك بوك للنشر ـ 1970 .
گيندولين ليك ـ بلاد الرافدين من الألف إلى الياء ـ سكيركرو للنشر ـ 2010 .
ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ وايلي بلاكويل للنشر ـ 2015 .
ولفرام ڤون سودن ـ الشرق القديم ـ إردمانز للنشر ـ 1994 .
هيرودوت ـ روبن ووترفيلد ( المترجم) ـ التواريخ ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة