الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مثل ديك على حبل

أبوبكر المساوي
باحث

(Aboubakr El Moussaoui)

2023 / 12 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سألت الأول:
كيف حالك؟
هز شفته العليا وكأنه يبتسم، مستهزئا من سؤالي ثم رد دون أن يلتفت إلي،
أنا أشبه بديك على حبل.
...!!!
تبين من تعابير وجهه أن جوفه ممتلئ إلى حد الفيضان، وأنه يمسك نفسه، بعدما لمح قسمات وجهي، كي لا يلطخ أجواء المرح المزيف الذي صبغت به ملامحي، وتفاديا لتكرار الشكوى وإلقاء اللوم على كل كائن حي آخر غيره وعلى كل الجمادات والأفكار والقيم والمعتقدات، واتقاء لشر لوم النفس وجلد الذات على هفوات وأخطاء كان بإمكانه تجنبها والإفلات من عواقبها، وتفاديا للتكرار كونه تكرارا و كونه مجرد إعادة لنفس الكلام بطرق مختلفة، وقد يكون أحيانا مجرد حشو وإقحام للكلام في سياقات غير مناسبة كل همه هو التنفيس والهروب من شيء ما ليس إلا، كمثل مدمن على تدخين السجائر الذي لا يتوانى عن تناول سيجارة أخرى بمجرد الانتهاء من التي كانت بين شفتيه قبل ثانية.
التكرار...
ذلك اللعين الممل الذي يرافقنا منذ زمن في الحركات والسكنات، في الزمان والمكان، فيما خفي منا وما ظهر، في التصرفات وفي الأفكار التي لابست تكويننا الجيني واختلطت به اختلاطا قد تؤول معه أي محاولة للتفرقة بينهما إلى الفشل وإلى انهيار وتمزق فكري ووجداني مدمر على المستوى الشخصي للفرد وعلى مستوى المجتمع ككل.
مثل ديك على حبل...
ترى، لماذا أسمع هذا التعبير باستمرار من هذا الشخص؟
أفي ذلك رسالة مشفرة أم هو مجرد تعبير جاف لا معنى له؟
أم أنه يدخل في خانة الحصص اليومية الضرورية لممارسة عادة التكرار؟ والتي لا غنى عنها لتفادي أي انفجار محتمل أو نزيف فكري داخلي أو هروب من فكرة الانتحار التي قد تراوده من حين لآخر.
سمعت هذا التعبير كثيرا وفي سياقات متباينة امتدادا من حدود الهزل والسخرية إلى أقصى درجات الغضب واليأس، لكني لم أعرف أبداً معناه الدقيق، أهو أشبه بديك معلق على حبل مشنقة معد للإعدام، أم أنه أشبه بديك يقوم بألعاب بهلوانية على حبل ليزرع المرح في قلوب الناس بينما قلبه يفيض حزنا وهما وغضبا على وجوده وعلى الكون بما فيه ومن فيه. المهم هو ما فهمته من نبرة صوته أنه يائس جدا ومكتئب جدا، وأنه لم يختر أن يتشبه بديك، ولا أن يكون على أي حبل أيا كان هذا الحبل، لأن كل الأوضاع التي قد تربط الإنسان بالحبل هي أوضاع غير مريحة وتنم عن وجود محنة ما أو اختبار يصعب على الإنسان تحمله، وفي لحظة من اللحظات التي كنت أنظر فيها إلى وجهه اقتنعت وآمنت أنه في مأزق حقيقي، وأنه في كل الأحوال لا يتواجد على ذلك الحبل ليرقص، مثلا، أو ليمرح.
لكن وبعد أن أفقت من حالة التنويم التي تعرضت لها بفعل نظراته الحازمة والجادة وبنبرة صوته تساءلت: هل هو فعلا في مأزق حقيقي أم أنه لابس جلباب الضحية لجذب تعاطف البؤساء أمثاله؟
جلباب الضحية ذلك المليء بالنعومة والدفء، وتعاطف البؤساء الذي يشعر صاحبه بخلو ذمته من تحمل مسؤولية التصرف وحرية الإرادة والفعل.
سألت الثاني فأجاب قائلا: والله إن الحمد لله على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله...وقد طال حديثه ولم أفهم منه جملة واحدة من شدة خلطه بين ما هو خرافي وما هو عقلاني، وكلام عن عوالم وأكوان قد لا يستقيم حتى من فم شخص أبله أو معرض لجرعة عالية من الأفيون، قد يكون هذا نتيجة تمزق فكري ومعرفي داخلي أدى إلى انعدام القدرة على الحسم والاختيار بين الخرافة والعقل.
فتعجبت من رده لأني لم أفهم إن كان يجيب على سؤالي أم أنه يؤدي صلاة من صلواته، نظرا لما ختم به حديثه من صالح الدعاء باليمن والبركات واستجداء لعواطف الكائنات الغيبية التي لا تملك له ولا للكون ولا لأنفسها ضرا ولا نفعا.
ثم سألت الثالث فكان رده أقرب إلى السريالية تركيبا ومعنى حيث قال: لا أدري إن كنت بين الفينة والأخرى أم أني بين عشية وضحاها.
لا أدري إن كان جواب هذا الأخير يحمل معنى ما أو طريقة معينة في التفكير أو فلسفة حياة مبنية على أسس واضحة محسوبة الخطوات والعواقب، أم أنها مجرد رغوة وزبد من فيض يم الخرافة التي تقر بمشيئة ومقادير الكائنات الغيبية المطلقة القدرة والمعرفة التي باستطاعتها أن تفعل ما تشاء بمن تشاء في كل وقت وحين وتسلب الإرادة من الإنسان وتفرض عليه الوصاية حتى في شهيقه وزفيره. أم أن هذا الفرد قد انهزم داخليا واستسلم للعبث وال"لامعنى" بسبب إقباله الجامح في صباه على الحياة وبسبب حجم آماله وأحلامه التي لا يسعها هذا الفضاء الضيق، والتي اصطدمت بواقع الحال وبظروف التنشئة وركام المخاوف من الفشل والإخفاق التي تكبله وتشل قدرته على مغادرة منطقة الدفء التي ينعم بها منذ زمن غير يسير.
وأخيرا سألوني عن حالي فقلت:
أنا مثل ديك أعرج عار من الريش والجناحين، واقف على حبل ممزق، موشك على السقوط على سطح مليء بسكاكين متجهة إلى أعلى مستعدة لاختراق وتمزيق أي جسم ساقط، وقد سئمت الحمد والمنة وإن كنت أظهر عكس ذلك بين الفينة والأخرى، لكني أتمنى تغييرا في الأحوال والأوضاع بين عشية وضحاها، كما أرجو أن يختفي الحبل الذي يستبد بنا ويكرهنا على اتخاذ وضعيات لسنا نملك لها حولا ولا قوة ولا نستطيع لها حلا إلا السقوط بين أحضان الخرافة والخوف المرضي لتحولنا إلى أشلاء، والاستسلام لعبث الأقدار بحيواتنا وبمصائرنا بسبب قلة زادنا المعرفي والفكري، كما أسعى إلى أن نتوصل استنادا على العقل إلى امتلاك زمام أمور الحياة والتحكم فيها بناء على ما فيه صالحنا وصالح الإنسانية، والحكم بمبدأي النفع والضرر وليس بمبدأي الحلال والحرام أو الجائز والمستحب.
منذ بدأ الإنسان العاقل بالتفكير والتفلسف وبمراقبة ما يحدث من حوله من ظواهر طبيعية وحوادث وأزمات ومشكلات تواجهه وهو يبحث عن تفسيرات لها، وربما عن حلول أو وصفات لتيسير حياته ولجعلها أسهل وأفضل، فنجح مرات وأخفق أخرى، وقد كان ذلك إما استنادا على الأسطورة والخرافة أو على التفكير الميتافيزيقي أو بناء على التفكير العقلاني، فكان من أهم ما توصل إليه أفراد من الذين نشترك معهم في الإنسانية والذي عم خيره على الكل هو مبدأ التفكير العقلاني الحر البعيد عن الخرافة، فهل يمكن اعتبار هذا المبدأ مقدمة لوصفة جاهزة يمكن تبنيها لبناء حياة أفضل مع تحمل قساوة التفكير العقلاني وقساوة تبعات الحرية؟
أم يجب أن نستسلم للسوداوية والتشاؤم والاكتئاب التي قد تدخلنا في دوامة لا مخرج منها إلا الانتحار؟ أم ندخل في دوامة الدروشة والسلبية والانبطاح الشبيهة بحالات التخدير أو بحالة المريض النفسي المسلوب الإرادة؟ أم نتعاطى فن اللامبالاة ونرتمي في أحضان الشهوة لأن العمر قصير ولا يسع النكد والهم؟ أم أن من واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه الأجيال القادمة أن نتصرف بما يمليه علينا العقل والمنطق لتحسين الحاضر وبناء المستقبل، وأن نتحمل مسؤولية اختياراتنا وتصرفاتنا مهما كان الثمن باهظا؟
أم أن الحياة خليط من كل هذا وذاك، كل يغرف منها حسب حاجته وظروفه وقدراته؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ولي العهد السعودي بحث مع سوليفان الصيغة شبه النهائية لمشروعا


.. سوليفان يبحث في تل أبيب تطورات الحرب في غزة ومواقف حكومة نتن




.. تسيير سفن مساعدات من لارنكا إلى غزة بعد تدشين الرصيف الأميرك


.. تقدم- و -حركة تحرير السودان- توقعان إعلاناً يدعو لوقف الحرب




.. حدة الخلافات تتصاعد داخل حكومة الحرب الإسرائيلية وغانتس يهدد