الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ المغربي بين الماضي والحاضر

عبد الوكيل البايعيشي

2023 / 12 / 6
التربية والتعليم والبحث العلمي


من بين الأساطير الرائجة في المجتمع المغربي هي أسطورة "الأستاذ القديم" فهذا الأستاذ القديم يشبه في الأسطورة قنينة النبيذ المعتق الذي يزداد جمالا وتدويخا كلما تقادم عليه الزمن، إن الأستاذ القديم أفضل من الأستاذ الجديد، أو على الأقل كما تقول الأسطورة، لماذا هو أفضل من الأستاذ الجديد ؟ لا جدوى من طرح هذا السؤال لأن الأسطورة لا تقدم أجوبة منطقية بقدر ما تخلق قصصا تتغنى بسحر الماضي فقط لأنه ماضي.
هذا الهوس بالأشخاص والأزمنة البعيدة موجود في جميع الثقافات وفي جميع الأزمنة، إنه ما نطلق عليه مجازا ب "الحنين" أو النوستالجيا، يتخذ أحيانا شكلا فرديا من خلال حنين الفرد لماضيه الشخصي وبالخصوص لمرحلة الطفولة وما يرافقها من سذاجة وغياب المسؤوليات وضغوطات الحياة وأحيانا يتخذ شكلا جماعيا حيث تحن جماعة بشرية صغيرة كجماعة الرفاق إلى ذكرياتهم التي مضت في مرحلة الدراسة أو في بلدهم الأصلي بعد الهجرة لبلد آخر وكثيرا ما يمتد هذا الهوس بالماضي إلى أمم بعينها وعلى وجه الخصوص الأمم المنحطة حضاريا فلا عزاء لهذه الأمم سوى العودة إلى أمجاد أجدادها سواء كانت هذه الأمجاد حقيقية أو مجرد استيهامات وخيالات رومانسية.

إن العودة للماضي هي عودة لزمن منفلث من قبضتنا، زمن لا نستطيع العودة إليه إلا من خلال خيالنا، يكمن سحر هذه العودة في الرغبة للوصول إلى شيء لم يعد حيز الوجود ولا توجد رغبة عند الإنسان أقوى من الرغبة في الحصول على الأشياء صعبة المنال الأشياء التي خرجت حيز الممكن، في فيلم "منتصف الليل في باريس" للعبقري "وودي آن" يستطيع بطل الفيلم "بيل غيندر" العودة إلى أزمنة مختلفة من الماضي عبر آلة العودة بالزمن لكن بيل في كل مرة يعود فيه بالزمن إلى الخلف كان يجد أن الأشخاص في ذلك الزمن لا يجدون أية ميزة في الزمن الذي يعيشونه ويعتبرون حياتهم مغرقة في الروتينية، بل يرون أن الزمن الذي كان سابقا عليهم هو الزمن الذهبي الذي يستحق أن يعيشوه وهكذا كل جماعة ترى أن الأشخاص الذين عاشوا في زمن سابق عليهم كانوا محظوظين بعيشهم لتلك الحقبة الماضية. لكل عصر إرهاصاته وتحدياته وأسهل طريقة للهرب من الفشل في هذه التحديات هو الرغبة في العودة إلى الخلف عوض خوض غمار الحاضر والتطلع للمستقبل.

في مجتمعنا المغربي كل مايتعلق بالماضي أفضل وأكثر جودة من الحاضر، الفنانون كانوا أكثر عطاء و "حشمة" من الجيل الحالي رغم أن الواقع يقول أن الأغاني التراثية بمختلف أشكالها كانت تعج بالصور البرنوغرافية، والسينما والأعمال التلفزيونية لا تخلو من المشاهد "الفضائحية" حسب التمثل الشعبي، والسياسة في الماضي كما في الحاضر كانت مجالا خصبا لصناعة الشعارات والوعود الإنتخابية الرنانة، والتعليم لم يكن يوما متصدرا للمشهد وخيارا استراتيجيا للتنمية فهو على الدوام لم يحظ بميزانية ضخمة ترقى التطلعات ولم يكن ترتيب المغرب يوما في مقدمة التصنيف العالمي، أما الأستاذ سواء في الماضي أو في الحاضر فهو نفس الشخص الذي يلقي الدروس على تلاميذه في فصل دراسي دونى أدنى تغييرات بيداغوجية كبرى.
فما الذي يجعل الناس يعتبرون أستاذ الأمس أفضل من أستاذ اليوم؟

لقد أجبنا عن هذا السؤال الكبير في مقدمة هذا المقال، إنها "النوستالجيا"، أستاذ اليوم غير محظوظ زمانيا لأنه يشتغل هنا/الآن أما أستاذ الأمس فقد رحل ولم نعد نعرف عنه سوى تخيلاتنا التي نسترجعها من مقاعد الدراسة أو ما نسمع عنه من صفات هنا وهناك، لم يكن أستاذ الأمس أكثر جودة من أستاذ اليوم ولا أكثر كفاءة منه، لقد عاش فقط على خلاف أستاذ اليوم في منظومة قيمية تقدسه لأنه كان وسيلة لتسلق السلم الإجتماعي، فالتلميذ وأهله راهنوا على التعليم في عصر كان التعليم عملة نادرة في ظل تفشي الأمية ومصدرا للتباهي والفخر والحصول على وظيفة تنقذ الفرد من براثن البطالة، أما اليوم فقد تعطل مصعد التعليم وكثرت الشواهد دون قيمة مضافة وأصبح التعليم بوابة مشرعة نحو البطالة، ومع هذا الوضع نزلت قيمة التعليم ونزلت معها القيمة الإعتبارية للأستاذ اجتماعيا، وهذه المعطيات الإجتماعية هي التي منحت الأستاذ في السابق ما يسمى ب "الهيبة" فالمجتمع كان يهاب الأستاذ لأن المعرفة كانت نادرة وشيء جديد ومثير للدهشة، والتلميذ كان يخشى الأستاذ لأنه صورة طبق الأصل للعنف الممارس من الأب وكان العنف مقبولا اجتماعيا من الأستاذ وهو ما يختزله المثل الشعبي "أنت اذبح وأنا نسلخ" فالأب يتمم ما بدأه الأستاذ من عنف في القسم ولا يعترض عليه، والآن فقد جردت وزارة التعليم الأستاذ من عصاه القديمة التي يرهب بها، ومنعته من استعمالها تحت مسمى حقوق الطفل، والعنف صار مرفوضا من الناحية الإجتماعية وذهب معه ما كان يسمى بالهيبة.
ما يعطي للأستاذ قيمة في مجتمع مادي هو إمكانيته المادية وما تعكسه هذه الإمكانيات من مظاهر الفخامة والإبهار الإجتماعي، فأستاذ الماضي تمتع بأجر من أفضل الأجور في الوظيفة العمومية وكان سباقا لاقتناء البدل الأنيقة والسيارات المحترمة في عصره، لم يكن مظهره مظهر موظف بسيط في إدارة عمومية بقدر ما كان مظهر موظف "سامي" في السلك الدبلوماسي، قبل أن ينحدر أجره مع مرور الزمن لأسباب سياسية وإديولوجية إلى الدرك الأسفل من الوظيفة العمومية ويتحول إلى عدّاء في مضمار سباق لا يقوى على إتمامه كل شهر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاحترام لا التقديس والترهيب
إبراهيم ( 2023 / 12 / 7 - 20:45 )
أصدق جملة في مقاله السيد البايعيشي هي: تعطل مصعد التعليم وكثرت الشواهد دون قيمة مضافة
وإذا كان السيد البايعيشي رجل تعليم، فإني ـ كأستاذ قديم ـ أترك له فرصة تصحيح عباراته:‏
‏* لأنه ماضي‎.‎
‏* إن العودة للماضي هي عودة لزمن منفلث (بالمثناة لا المثلثة)، ... للوصول إلى شيء لم يعد حيز الوجود [؟] ... الأشياء التي ‏خرجت حيز الممكن [؟]،
‏* وأسهل طريقة للهرب ... هو الرغبة
‏* لم يحظ بميزانية ضخمة ترقى التطلعات [؟]‏

لقد عاش فقط على خلاف أستاذ اليوم في منظومة قيمية تقدسه [لنقل: تحترمه كما يحترمها]. قبل أن يتعرض رجل التعليم للتشهير ‏والتحقير على يد أطراف شعبية مغرر بها، تفنّنت في الاستهزاء به على قنوات التلفزيون وأمواج الإذاعة على عهد وزير الداخلية ‏والإعلام: إدريس البصري.‏

فأستاذ الماضي تمتع بأجر من أفضل الأجور في الوظيفة العمومية. [هل أنت متيقن من معلوماتك؟]‏


مودتي وتقديري

اخر الافلام

.. متظاهرون يغلقون مداخل وزارة الأعمال والتجارة في لندن للمطالب


.. في غزة حتى الصمّ يرعبهم القصف




.. برنامج -معالم- ألقى الضوء على تفاصيل تاريخية مهمة ارتبطت بمس


.. إعلام إسرائيلي: الجيش يعتزم إنشاء منطقة آمنة لإيواء نازحي رف




.. شارك في منصة «خليجي بنك» الترويجية للفوز بجوائز فورية تصل ال