الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة المطلقة ومطلق الحقيقة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 12 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ كنت صغيرا وبدأت في ممارسة التفكير كان سؤالي الملح دوما هو، ما هي الحقيقة؟ كيف نفهم حقيقة الحقيقية مما يشابهها أو ينتسب له؟ وهل هناك فعلا حقيقية بالمفهوم المطلق أم أن الحقيقية تتبع وتنبع من فهمنا لمعرفة الأشياء بالماهيات وبالجواهر؟ في كل مرة أفشل في أن أجد قناعة لأي تساؤل يكفيني لملاحقة التفكير بها، قرأت الكثير من الأفكار والفلسفات التي تناولت الحقيقة وإطلاقها ونسبيتها ووجوهها فما زادني ذلك إلا البعد عن الصورة الواضحة عنها، حتى ألفت فكرة أن لا حقيقة في موضوع الحقيقة بقدر ما هنالك أعتباط في توصيف وتوظيف المفهوم، وإن كل ما يقال أو ينظر فيها مجرد صور وقناعات متعلقة بوجه من وجوه النظر.
لكن هذه النتيجة التي وصلت لها أيضا لم تمنحني شيئا من اليقين ولا أجد حتى فيها معنى، لذا واصلت التأمل والتفكير فيها، ولكن هذه المرة لا أضع لنفسي نهاية تتمثل في أكتشاف أو إدراك وفهم حقيقة الحقيقية، بقدر ما كان يهمني أن أعرف كيف أصل لقناعة راسخة بما أبحث سواء وجدت المعنى أم وجدت شيئا أخر، وعدت لأفكك معنى الحقيقة من مبدأ التسمية ومحتوى المعنى الأصلي لا سيما أن لي في هذا المنهج سابقة ناجحة، وأول ما فعلته عدت لمعنى الجذر اللغوي "ح ق" وإستعمالاته، فوجدت ذلك مدون في قواميس وفهارس العربية بما يأتي (الحق في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني هو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب، باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل)، إننا نجد المادة اللغوية لكلمة "الحق" تدور على معان عدة، منها الثبوت والوجوب واللزوم ونقيض الباطل والنصيب، وبذلك تعددت التعاريف التي أعطيت لكلمة الحق عند أهل اللغة من العرب..
قبل الأنطلاق في بحث المعنى الوارد هنا ايضا عليه أن أبحث عن النظير الضدي له كما قيل وهو الباطل وأيضا في نفس المدار والمحل، فوجدت الباطل (الباطِلُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن بَطَلَ الشَّيءُ يَبْطُلُ بُطْلًا وبُطْلانًا ومَعَناهُ: نَقِيْضُ الحَقِّ والصِّحَّةِ، والباطِلُ أيضًا: التَّالِفُ والضَّائِعُ مِن الأشْياءِ، يُقال: بَطَلَ الشَّيءُ: إذا ذَهَبَ ضَياعًا وخُسْرانًا، وأَصْلُ هذه المادِّةِ يَدُلُّ على ذَهابِ الشَّيْءِ، وقِلَّةِ مُكْثِهِ ولُبْثِهِ، وجمعُهُ: بَواطِلٌ، وقيل: أباطِيل)، والملخص في المعنى عن الباطل هو (الباطِلُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن بَطَلَ الشَّيءُ، ومَعَناهُ: نَقِيضُ الحَقِّ والصِّحَّةِ، وأَصْلُ الكلِمَةِ يَدُلُّ على ذَهابِ الشَّيْءِ وقِلَّةِ مُكْثِهِ ولُبْثِهِ).
من المعروف أن في اللغة هناك نقيض ونقيض له يتحدان في المعنى المتناقض ويعكسان صورة الشيء من مبدأ المعاكسة، أي عندما نقول نهار فلا بد أن يكون النقيض الليل بأعتبار أولا نتكلم عن محدد زمني هو اليوم ونتناول وجهيه المتناقضين فقط دون أن نشرك بهما مفهوم أخر، وكذلك الأبيض والأسود والحار والبارد والفوق والتحت، في مفهوم الباطل والحق نجد التركيز في التناقض هنا بينهما متعدد الوجوه، فالباطل يرد بمفهوم أوسع على عدم الصحية أو المخالفة للموجب الواجب طبيعيا، حتى في القرآن الكريم الذي هو لسان غير أعجمي يأت الباطل هكذا متعدد الوجوه والدلالات التي تعني بمجملها عدم التوافق مع الصحيح والواجب واللازم، بينما يأت الحق بمعنى واحد هو التناقض مع التمام المطلق والواجب لحال الأشياء، فالحق وفق فهمنا للقرآن وللغة هي (تموضع الشيء في محله المجعول له دون زيادة أو نقصان أو دون تعسير ولا تقصير)، أي أن الحق هنا أن يطابق الشيء وعائه المادي أو المعنوي دون أن نتدخل في ذلك لا قهرا ولا بوسيلة أخرى.
إذا الحق بهذا المعنى يعني الصحة المطلقة للتناسب بين الشيء ومحله أو موضعه أو أستعماله الخ، هذا التناسب الصادق لا بد أن يكون طبيعي أور أي لا نتدخل نحن في جعله متناسب وهنا ندخل في عملية تزوير للحق، والشرط الأخر أن لا يكون له موضع أو محل أو أستعمال أخر يؤدي نفس الغرض، فيكون للحق مكانين أو موضعين مختلفين إلا إذا أتحدا في المواصفات والماهية والجوهر أو يتحدان بالشيئية التميزية بمعنى أن يكونا واحد في كل شيء، فالتعدد في الحق يعني التعدد في المحقوق ويعني التعدد في أوجه الوصف، وبالتالي فلا يكون للحق محدد ثابت ويخضع إذا للتناسب ومني مكاني حالي ويفقد صفة التناسب المطلق مع محله أو موضعه، وهذا ما يلغي مفهوم الصحية المطلقة التي تعني أن الصح له شكل واحد والخطأ له أشكال عديدة لأنها جميعا تنتج عن مطابقة المقياس الصحيح الذي يستوجب الركون إليه.
إذا الحق هنا ليس ضد الباطل بمعنى الضد النوعي الموافق في الموضع والمعاكس في الدلالة ضده، وأن أقرب ضد نوعي للحق في اللغة يدور بين الوهم والظن وليس الصحة والتمام التي تعني مخالفتهما الباطل، فكل أمر مشكوك أو مظنون به أو نحل تردد وعدم جزم يقيني بالبرهان هو ضد الحق، والحق هو الذي لا يقبل الأحتمالات ولا التعدد ولا أي صور من صور اللا كفاية الطبيعية ولا اللا تمامية الجعلية، بينما الباطل يعتمد المفهومين ويبني وجوده من خلالهما، هذا الحال ينفي أن يكون الباطل ضدا للحق على وجه الخصوص، نعم يمكن أن يستخدم للدلالة على عدم الأحقية في موضع الشيء ولكن لا يدل كليا على أنه نقيض الحق، والدليل أن ما أشتق من الحق وهو مفهوم الحقيقة لا يستصحب معه الباطل كنقيض نوعي بقدر ما يستصحب الوهم مثلا أو الظن أو التقدير الذاتي للشيء، فلا يوجد مفهوم أسمه الباطلية مقابل الحقيقة.
نعود الأن للحقيقية مفهوم ومعنى بناء على ما ثبت من معنى الحق، وتطبيقا لمبدأ الدلالة الكلية تؤخذ من القصد الكلي بنسق موحد، فتكون الحقيقة هنا حال وليس اسم لشيء، أي أن معنى الحقيقية هو حال تطابق الشيء أو الموضوع مع مجعوله الأساسي اللازم والوحيد دون أن نلجأ لزيادة أو نقصان في الحق أو في محمول أو مجعلوله اللازم، فمتى ما تطابق الحق تماما وكاملا وطبيعيا مع محله أو موضعه أو مجعوله صرنا أمام حالة حقيقية تكشف عن تبلور الحقيقة في محال التطبيق، فالحقيقة تحضر حين يكتمل الحق بنصابة، وكل ما عدى ذلك ظن أو وهم أو مخالفة لما هو واجب ومستلزم.
إذن من هذا الفهم يمكننا أن نؤكد أن الحقيقة ليست واحدة بالوجود متعددة لكنها جميعا تخضع لمنطق واحد ومعيار واحد ونسق واحد، ومع تعدد الحقائق في الوجود لكنها جميعا تعدد أستعمالي وليس تعدد حقيقي لو عدنا لمستخلص المفهوم الحالي وجعلناه تعريفا لها، فتكون الحقيقة تعريفا هي (ما لا يمكن أن يكون إلا بما سيكون عليه على وجه الكمال والتمام)، فكل حال يمكن أن يكون بـه وضع دون مطابقة تامة وكمالية بين الشيء أو الموضوع مع محله فهو غير حقيقي ولا يمكن بوصفه بأنه حقيقة، فالحقيقة بذاتها ولذاتها ومن ذاتها الخاصة لا تقبل إلا حال واحد مثالي كمالي تمامي من غير تدخل ولا فعل خارجي، فالحقيقة هنا تلحق الشيء بذاته ويتبعها الشيء بذاته وكأنهما إكمال متبادل بين نصفين لا يعملان إلا معا.
إذا الحقيقة ليست مفهوما عائما ولا أفتراضا تأمليا لا وجود له في الواقع، الحقيقة مظهر يتجلى في العقول عندما يكون العقل حاكما بين المعيار والنتيجة، في مقارنة واقعية صارمة ليكون أقرب للمنطقية العقلانية منها للمنطقية الواقعية، فالمنطق الواقعي غالبا ما يشير إلى توهم في تشخيص الحقيقة والأستدلال عليها، لذا يقال مثلا أن للحقيقة وجوه عدة، أو أن الحقيقية نسبية بناء على تعدد المقدمات المؤسسة لمفهوم الحقيقية عند البعض، وهناك من ينفي وجود الحقيقية كمفهوم مطلق ناسبا إلى أن الوجود حركة والحركة تتنافى مع الثبات دون أن يسأل نفسه أن ما قاله بشأن الوجود حركة أنها هي حقيقة يعتمد عليها في إثبات عدم وجود الحقيقة، العقل البشري أحيانا يرى الحقيقة كاملة لكنه وتحت تأثير المنطق المتبع في طرائق التفكير لا ينتبه إلى أن وجوده أيضا حقيقة، وأن أستخدامه حقيقة بغض النظر عن النتائج لأن أستعمال العقل هو مطابقة بين الوظيفة الواجبة وبين واقع الأستعمال.
قد أكون قد وصلت لحدود أمنة في تفكيري عن الحقيقة وربما أكون قد كررت بعضا مما فكر به غيري وقبلي، لكنني متأكد أن البحث عن الحقيقة ليس بالأمر الهين، ولا يمكن التسليم بمقولات اعدها مجرد تأملات لا تلامس ما يجري في الوجود من حقائق منها الثابتة التي لا تتغير كونها مصدر لكل حركة الوجود، فأي أضطراب في حقيقة الحقيقة هنا سيعني أضطراب في حركة الوجود التي ستؤدي للفوضى واللا نظام وبالتالي المس بهذه الحقائق مسا بقواعد ومعادلات الوجوب اللزومية والمطلقة والأبدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز