الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ثلاثية العلم والعقل والحاجة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 12 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في ثلاثية العلم والعقل والحاجة بدأ الإنسان يركب من جديد وفق منطق متدرج أهم أساسيات الوجود، العلم لم يكن نتاج طبيعي لمجرد التكوين والحدوث الوجودي كظاهرة بشرية ولدت معه، قد يكون موجودا كقوانين وحقائق ولكن على شكل مجهول عند الإنسان، لكن دلائل وجوده هي التي تحرك العقل ليكتشف أوليات الأوليات اللازمة لأنتباهه، ثم تحسسه ثم إثارة فضوله للتفكير ثم التجريب ثم البحث والتقرير، ويتدرج مرحليا وفق عامل ذاتي يربطه بالوجود وهو "الحاجة" حتى يصل للمعرفة اللازمة لبداية رحلته نحو العلم، هذه الثلاثية المختصرة هي كل ما في رحلة الإنسان منذ النشأة حتى تتغير المعادلة لربما في وقت تاريخي ما، ليظهر عامل مستجد وربما بوادره حاليا لها إرهاصات بينه وهو ما يعرف " ما بعد الحاجة" أو ربما أيضا " ما قبل الحاجة"، فالعقل البشري بتركيبته الحالية وطرائق التشغيل والعمل لم يعد ذاك العقل الذي كان يعمل وفق قوانين المنطق قبل سنوات عديدة، العقل البشري اليوم صار باحثا عما بعد البعد وبعد الرؤيا والأحتمال التأملي والتنظيري ليخرق جدار العلم بمستويات عدة ومن زوايا مختلفة.
اليوم الإنسان الذي كان في وقت تاريخي ما أسير المجهول وليس بالتأكيد جاهلا كما يطلق البعض عليه جزافا، فالجاهل هو الذي لا يدرك المعلوم بما هو معلوم به مثل الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة مع إمكانية طبيعية أن يتعلم، الأمي هنا جاهل ولكن قبل أن يكون ذلك متاحا طبيعيا لم يكن جاهلا بل أسير مفهوم مجهول، هذا الإنسان الذي كان أسيرا لواقع لم يكشف الكثير من أسراره تحول مع ثورة العقل المعاصرة والعقل الحداثي الذي صنع الثورة وقاده إلى ما يعرف بأسير العلم، فهو يتحرك في مجالات كثيرة كلها مفتوحة الأبواب الآن لتقدم له المزيد من العلم والمعرفة التي تدفعه للحاق بحركة تصاعدية وتوسعية في كل الأتجاهات، حتى أن العلم أصبح تقريبا مرضا عقليا سيطر على تفكير الإنسان ووجوده ليحوله إلى دوامة حركة مستمرة لا تهدأ من الفعل والإنفعال الدائم.
هذا التحول ليس في الحقيقة تغير في مسارات المنطق الوجودي بقدر ما هو تغيير في طريقة فهم الإنسان لقيمة المعنى الذي يسعى له من خلال وجوده، فهو حصيلة سعي كوني منذ الوجود ولليوم بدأ بطيئا رتيبا ثقيلا ونشط عبلا الحقب التاريخية عندما راكم التجربة وصنف ورمز وصف المعلومات ليحولها إلى مجموعات ثم إلى أقسام ثم إلى تخصصات ثم إلى تخصصات أدق مستمرا بهذا المنهج ليكون فاعلا خالقا مبدعا يبحث في كل زوايا الوجود وبعمق هذه المرة وبحرية فوق المطلقة، إذا علينا أن نتوقع تغيرات بنيوية في نظامنا التعاملي مع الوجود وربما حتى طريقة التعاطي مع المفاهيم والأفكار والنظريات الحديثة والقديمة، أنا أرى أننا فعلا على بوابة ثورة علمية هي الأكبر بعد ثورة أختراع الحرف والكتابة والتي منها تولدت كل الثورات والتحولات الوجودية التي عاشها الإنسان، منذ أن عرف أنه يستطيع ان يستخدم عقله بشكل فعلي.
الثورة العلمية الأولى التي تمخضت بولادة الحرف وبداية الكتابة هي التي نقلت الإنسان من مرحلة الصورة الذهنية إلى مرحلة التجسيد المادي، أي حولت الوجود البشري من مرحلة التصورات العاجزة عن التغيير تحو الأنتقال والتنقل المعرفي إلى دائرة المشاركة متعددة الأطراف والمحتوى، هذا التحول كان العقل فيه باحثا عن ذاته وعن معنى لوجوده، وبقي العقل البشري في هذا الإطار دائرا مثل فلك يكتشف ما تقع عليه بصيرته بحسب الظروف والفرص، أما في الثورة التي نعيش ولادتها الآن أصبح العقل البشري يسبق الإنسان في الرؤية ويبحر قبله ويطير في سماء الوجود، يقتنص كل ما لا يمكن أقتناصه طبيعيا بحسب الطبع التقليدي الكلاسيكي للبشر.
لذا فأنا أتوقع بل أجزم أن الناس سيجدوا أنفسهم في يوم من الأيام أمام إشكالية جديدة لا تشبه كل إشكالياته السابقة حسب طريقة البحث عن العلم والمعرفة، سيبنى العالم الحديد على مبدأ الأحتواء العلمي للقوة أو قوة الأحتواء العلمي المسبق، لم يعد للمال والقوة العسكرية قيمة الثروة التي لا تنفذ، الثروة والثورة في الأستثمار بالعلم الحر العلم الغير مفيد بالحاجات ومرتبط بها، هذا التحدي ليس في مجال العلوم الصرفة أو ما يعرف أيضا بالعلوم الطبيعية، بل سيقود من حيث لا نعلم إلى كل زوايا المعرفة البشرية ودروب الإنسان القديمة ومنها إشكاليات الوجود المزمنة، الدين والأخلاق والتاريخ والفن وحتى اللغة ليخرج من دورته القادمة بمحمول علمي معرفي قد لا يحمل معه الظنون والشكوك.
وقبل أن نبشر في هذا المجال لا بد لنا أن نفتح كأفراد ومجموعات جهودنا الفردية وكلا حسب ما يتيسر له في حدود ما يعلم ويختبر ويبدع، أبوابا على العالم القادم العالم الذي فيه العقل مع حقائق الوجود هما المعيار الأساسي لنجاح أو فشل الإنسان وجوديا، قد يكون للدين أهمية أقل ولكنها لازمة ومهمة للتخفيف من غلواء المادية المفرطة، ولدوره في إرساء قيم أخلاقية تضبط الجموح المتوقع نحو الحرية الموسعة، الحرية التي تأخذ شكلا أوسع من دورها في المساعدة على تيسير الحركة الطبيعية في مفاصل الوجود، فيضطرب عندها التوازن بين اللازم والملزوم في خط سيرورة وجودية منضبطة بقواعد تحصينية من الفوضى.
إذا ومن هذا الباب أقدم قراءات متنوعة نها ما هو تخصصي ومنها ما هو تثقيفي عام ومنها ما هو أصولي في مجال الدين، الرابط بينها جميعا هو المحاولة اللازمة للخروج من دائرة النمطية المعتادة في تناول مواضيع شغلتنا وأشغلتنا لفترات طويلة وشكلت معلما من معالم النكوص والنهوض في أن واحد بواقع بحاجة إلى تجديد مستمر نستثمر فيه ما نقدر وما يمكن ان نتجاوز حتى القدرة الذاتية المحدودة، فطاقات العقل البشري ما زالت لم تستغل بالشكل الأمثل، وما زال العقل يحمل في طيات عمله الكثير من المحير الذي لو تأملناه في زمن أخر قد نظنه شيئا من المحال أو اللا معقول، من هنا فكل ما أطرحه في هذه المجموعة من الدراسات وإن كان يبدو للبعض أنها خليط غير منسجم في أصول البحث العلمي والمعرفي، لكنني أؤكد من خلاله أن العقل بحاجة إلى تحرير أكثر من حاجته إلى شيء أخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد مع فراس وراند.. مين بيحب التاني أكتر؟ | خلينا نحكي


.. الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟ • فرانس 24 / FRA




.. تكثيف الضغوط على حماس وإسرائيل للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النا


.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف إطلاق النار في قطاع غز




.. هل يقترب إعلان نهاية الحرب في غزة مع عودة المفاوضات في القاه