الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة98

عبدالرحيم قروي

2023 / 12 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اَلنَّصُ اَلْمُؤَسِّسُ وَمُجْتَمَعُه
اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى
خليل عبد الكريم
الحلقة السادسة عشر

[ 9 ]
سرايا بنى الرحمة
لماذا أقدم المصطقى على إنفاذ السرايا ثم بعث الغزوات ولم يمر على مقانه ببلدة الأثاربة سوى شهورر قليلة.
هنلك بواعث عديدة لَبَكَ بعضها بالبعض واختلط أحدها بالآخر وأنشب أولها بمنتهاها والتبس المجلى " السايق" بالمصلى " اللاحق له" ومن ثم يتعذر ترتيبها, منها النشأوى " من النشأة" والنفسى والسياسى والاقتصادى, ولذا فسوف ننسخ طرفًا منها بهيأته المتشبكة ونحاول على قدر الطاقة والوسع تصنيفها:
1 ـ من استقراء المعالم التاريخية والأنساق الإجتماعية ندرك أنه لدى عربان شبه جزيرة العرب الميمونة فإن الغارات ومداهمة العدو وغزوه وتصبيحه وحياطته فى عماية الصبح وهو مستغرق فى نوم عميق, يشكل شطرًا وسيعًا من تكوينهم النفسى ومساحة عريضة من بنيتهم الوجدانية ومكانًا رحبًا من سمتهم الشعورية, فضلاً على أن ما تدره هذه الهجمات من عائد يتمثل فى الأسلاب والغنائم هو مصدر دخل على درجة من الأهمية والاستمرارية معًا حتى إنه من المتعذر أو المستحيل تصور وجود مجتمعهم إذا صفر من الغارات أو خلا من الغزوات أو تجرد من المنهوب أو خوى من المغضوب وهو مَعْلَم مُتوافق تمامًا مع أوديتهم غير ذات الزرع و جهالتهم التى تحول دونهم ومعرفة استخراج المعادن التى لاتقوم بدونها الصناعة.
2 ـ إن الأخذ بالثأر عرف مستقر لديهم وعادة مركوزة فى نفوسهم وتقليد راسخ فى وجدانهم حتى إنهم عندما دعسوا أرض الكنانة بخيولهم المبروكة !!! وغزوها واستوطنوها واستعمروها ونهبوها بقيادة عمرو بن العاص ـ ذلك الذى فعل الأفاعيل فى مصر المحروسة هو وجنوده الأعاريب ـ جلبوا معهم هذه العادة الحضارية الرائعة ـ يا للأسف ـ وما زالت رغم ذهاب أكثر من أربعة عشر قرنًا مُعششة فى الأقاليم التى استوطنوها بحد السيف ثم عدنوا فيها مثل الصعيد ومحافظة الشرقية.
إذا تجاوزنا التنظير إلى التطبيق العملى أو بعبارة مقاربة إذا أنزلنا المبادئ على ما وقع فعلاً , نجد أن " المنصور بالرعب مسيرة شهر" علاوة على أنه ابن بجدتها فإنه أثبت ـ ودائمًا ـ أنه سياسى محنك وقائد فاذ وعسكرى طويل الباع واقتصادى خبير.
أطبق طواغيت مكة على أن ينزح منها تبعه ( = النبى الأمين ) مليطين لا يملك أحدهم شروى نقير حتى دورهم وضعوا أياديهم النجسة عليها فوصلوا قرية اليثاربة وقد صفرت أيديهم حتى من الفلوس " العملات الصغيرة" وليس من بينهم من يعرف مهنة أو حرفة أو صناعة إلا النادر الذى لايقاس عليه إذ من المعروف أن قريشًا قوم تجار والمال هو شريان البيع والشراء وبدونه يتحول التاجر إلى صعلوك. [ فيما بعد وصف " سيد ولد آدم" أحد صحبه وفى ذات الوقت صهره بأنه صعلوك ومن الغريب أنه بعد أقل من ربع قرن تولى هذا الصعلوك ولاية الشام لعشرين عامًا ثم خليفة عشرين أخرى ].
ولولا أن بنى قيلة اظهروا كرمًا وآووا المنازيح لتفاقمت أزمتهم ولغدوا فى وضع بئيس وانطلاقًا من نشأته الرائعة وعبقريته التى لا ضريب لها ألفى أن إرسال صحبه فى سرايا سوف يحقق له ولهم أهدافًا عديدة منها:
أولاً: الموجهة لإعتراض قوافل صناديد قريش:
أ ـ الراحة النفسية الكاملة التى ستشملهم بأن تشفى صدورهم وتريح قلوبهم وتدخل السرور على أفئدتهم من الذين أخرجوهم من بلدتهم الحبيبة وقلوعهم من دورهم واحتازوها واستولوا على نشبهم وتجاراتهم وجِماعه تم ظلمًا وعدوانًا وجورًا واعتصابًا إذ كل جريرتهم فى نظر طواغيت مكة أنهم اعتنقوا الديانة التى أفشاها " سيد بنى هاشم".
ب ـ الخناق الإقتصادى الذى سيضرب أفراد الملأ القرشى الذين لا هم لهم إلا جمع المال من أى طريق بغض النظر عن الوسيلة فهم يتعاملون بالربا الفاحش. [ من بين أكابر المرابين العباس بن عبد المطلب عم الرسول وخالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله المسلول قبل إسلامهما ].
واستحلال عرق العبيد بل وأفخاذ الإماء والجوارى, فقد نقلت إلينا مدونات السيرة المحمدية الفياضة أن بعضًا من أكابرهم تملك البغايا اللاتى عرفن بـ " صواحب الرايات الحمر" , فقد سمحت أخلاق أولئك المرازبة الجحاجح أن يغدو الواحد منهم ديوثًا ولا يرى فيه مسبة أو عيبًا أو نقيصة أو مما يحل بالرجولة أو يخدش الكرامة أو يمس الحياء.
ج ـ الغنائم والأسلاب التى يفوز بها الصحاب بعد كل هجمة وإثر كل غارة وعقب كل كبيسة وعزوة ستعدل أحوالهم المالية وتجعلهم أقل اعتمادًا على بنى قيلة مما يمنحهم استقلالاً فى الرأى وحرية فى اتخاذ القرار وطلاقة فى التصرف.
د ـ تخلف فى قلاية القداسة عدد من ضعفة المسلمين الذين منعتهم ظروفهم النزوح إلى يثرب وعندما يتيقن طواغيت قريش أن " سيد البادى والحاضر" أمست شوكته قوية ويداه ذواتى طول وذراعه لها قدرة فلاشك أنهم سيكفون آذاهم وسيرفعون رذالاتهم عنهم, لأن هؤلاء العرب الأجلاف يخبرنا تاريخهم المجيد ؟؟ بل يؤكد أن الجبن طبيعة فيهم والخسة غائرة فى حنايا نفوسهم والنذالة من مقومات تكوينهم ولا تردعهم إلا القوة ولا يعملون حسابًا إلا للغلبة فهم لا يستأسدون إلا على النحيف الأعجف المهزول, أما إذا لاحت لهم أى بارقة منعة فإنهم يولون الأدبار.
هـ ـ القبائل حول مكة وقرية الحرتي المتربصة المنتظرة عندما ترى أن " صاحب الزوجات الطاهرات ؟ " فثأ شدة المكاكوة وكسر حدتهم ووهن جمعهم وألحق بهم الخسائر وأزال مهابتهم ومرّغ كرامتهم فى التراب فإن القبائل الجافية المتبدية ستعيد حساباتها, فإن وجد حلف يربطها بهم فسخته أو موالاة أنكرتها أو إيلاف ضربن به عرض الحائط أو عقد نبذته.
وليس بمستغرب على الأعاريب فهم كما وصفناهم, ثم يرقلون إلى التقرب إلى " سيد الناس جميعهم عربًا وعجمًا" وإلى طلب وده والعمل على نوال رضاه انتظارًا للأسلاب والغنائم والإنتقام من صناديد قريش.
ثانيًا: عن السرايا التى أُرْسِلَتْ إلى القبائل:
أ ـ يأتى فى البدء الظفر بالغنائم فهو قاسم مشترك مع الأول " التعرض لقوافل أهل مكة" والعنصر المادى عامل فى غاية الخطورة ويتوجب أن يتوافر للمنازيح فى أقرب آونة, لأن المليط من النشب الصفر اليدين من المال, الخالى الوفاض , المملق تراه زائغ البصر, مشوش الفكر, نفسيته محمومة ووجدانه مضطرب, ومثله لانفع منه فى شأن دينى ولا رجاء فى أمر دنيوى .. خاصة أنهم ( = المنازحين ) جرثومهم من " أى أصلهم وأسّهم" من سخينة. [ هى قريش, هكذا وصفها كعب بن مالك فى إحدى هجائياته للمكاكوة وقد أعجب الحبيب بهذا الوصف وهذا الشعر وقال له: ما نسى ربك وما كان ربك نسيًا شعرًا قلته ـ انتهى. ومالك أحد شعرائه المدافعين عنه مثل حسان بن ثابت وكعب بن زهير ـ دلائل إعجاز القرآن: لعبد القاهر الجرجانى ـ قراءة وتعليق أبو فهر محمود محمد شاكر ـ ص 17 ـ طبعة سنة 2000 ـ مكتبة الأسرة ـ الأعمال الدينية ـ الهيئة المصرية العامة ].
وقد وصف الذكر الحكيم بنى سحينة أنهم: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [ سورة الفجر: 19, 20 ].
ب ـ نشر الديانة الإسلامية التى جاء بها " النذير", ففى حديث محمدى لامطعن عليه ورد فى صحبح مسلم أن أُمِر أن يقاتل لناس حتى ينطقوا باشهادتين فإن فعلوا عصموا دماءهم وأموالهم, وكذا آية السيف { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 191 ]. التى هى باتفاق مدنية وهناك من رأى أنها أشرقت فى رحلة النزوح ما خلا بضع آيات.
ونحن ملزمون باحترام اتفاق العلماء الأثبات على أنها مدينة إذن هى باستنطاق وقائع السرايا والمغازى والبحوث .. قد هلّت قبل تحريكها أو تسييرها أو استنهادها, ومن ثم قرأنا فى أخبار بعضها لا كلها أن قائد أو أمير وأعضاء السرية ملزم بدعوة المغزوين أو المصبحين " بفتح الباء مع التشديد" أو المهاجَمين " بفتح الجيم" إلى الدخول فى دينهم ـ دين الإسلام, فإن فعلوا شملتهم عصمة الأبشار والأموال وإن استكبروا أعملوا فيهم السيف فقتلوا رجالهم عن بكرة أبيهم وأسروا من استأسر " رفع الراية البيضاء" واسترقوا ذراريهم وفتياتهم ونسونهم فإما استبقوهن للمتعة أو الخدمة وإما باعوهن فى أسواق النخاسة واستوفوا أثمانهن.
وفى كلتا الحالتين هم الكاسبون فإن لم يذعن المغزون فى عقر ديارهم وأبوا الإيمان بعقيدتهم غنموا الأموال والأسرى " الرجال" والنساء الفتيات والذرية أما إن أسلموا فعليهم بالظعن إلى أثرب لأن الإسلام لم يتم إلا به , فهذه قاعدة أصلها حديث محمدى شريف فى غاية الصحة, وهنا يغدو الرجال قوة تضاف إلى جيش المسلمين ويفرز اتساعًا لرقعة الإسلام كما يؤدى إلى موازنة تدريجية بين عدد المنازيح وعدد الأثاربة وفيه ترسيخ لمركز " خيرة خلق الله" وهو يعمل بهمة قعساء على إنشاء دولة قريش ـ حلم أجداده قصى وهاشم وعبد المطلب.
ج ـ إشعار القبائل فى كافة أنحاء الجزيرة العربية المباركة بأن نجم بنى سخينة أو المكاكوة أو طواغيت قريش فى أفول ومنعتهم فى طريقها إلى الضمور وضوءهم فى ذبول ومكانتهم فى انحدار, ومن ثم فعلى كل قبيلة تحكيم عقلها فلا تختار الجانب الذى يتدحرج بسرعة نحو الهاوية.
د ـ فى صفحات السير المحمدية العظيمة بضعة أخبار عن عدد من زعماء القبائل ممن راودته نفسه الأمارة بالسوء ووزّه طموحه الأرعن ودفعه شيطانه المريد أن يسيطر على الجزيرة العربية فيسمى هو عميدها وسيدها وملكها وينافس " ذروة سنام بنى إسماعيل".
بيد أن توالى السرايا والغزوات والبعوث والفرق ومهمتها التصفية الجسدية للمناوئين يقطع دابر أحلام أولئك الطائشين ويقنعهم بأنها مجرد أضغاث أحلام أو هى رؤى يقظة لا صلة لها بالواقع وأن وشيجتها بالحقيقة مهترئة وحبلها بالأوضاع الرواهن ذائب.
هـ ـ هناك حصيلة مؤكدة من الغزوات والسرايا والبعوث وهى أسر نسون وفتيات الأعادى الذين لا يستسلمون ولا يسلمون بل يظلون على عنادهم ويتشبثون بكفرهم , ومن بين هاتيك المأسورات الحسناء والوضيئة والفائقة الجمال والبالغة القسامة ومثلهن لا كفئ لهن إلا " صاحب التاج والبراهين". وقد نسخنا فيما سلف أن جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق وصفتها بنت ابن أبى قحافة أنها حلوة ملاحة تأخذ بنفس من يقع بصره عليها وأن حدسها " عائشة" لم بنزل الأرض فلما جاءت إليه تستعينه على أداء مكاتبتها " ثمن عتقها" للصاحب الذى وقعت فى قرعته " حظه ونصيبه" عرض عليها أن يعتقها وينكحها هو فقبلت على الفور لأنه شرف لم يخطر لها فى يقظة ولم تره فى نومة.
نكاح صفية بنت حيي بن أخطب
وفى غزاة خيبر أسرت صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء الهود ومن أنشط العناصر التى دأبت على التأليب والتجييش والتحريض ضد " أبى القاسم" وقد قتل زوجها كنانة بن الربيع وهو مالك أمنع وأقوى حصن فى خيبر ومن ثم أصبحت صفية خلاء من موانع النكاح فلما دنا منها وشملها بنظرة فاحصة ألقى عليها رداء " وهى عادة عربية مستقرة تعنى العزم على الزواج" وأمر بها فحِيزت خلفه فعلم تبعه أنه اصطفاها لنفسه.
وسلمها للماشطة " الكوافيرة" أم خادمة أنس بن مالك [ تحول بعد الغزو الاستيطانى النهبوى لدول الجوار من كبار الأثرياء ]. كيما تقينها وتزينها فوصفتها بأنها لم تر بين النساء أضوأ منها.
وأقيمت وليمة العرس حافلة بطيبات خيبر , فأكل المدعوون حتى شبعوا ودخل عليها وهم فى طريقهم إلى الحرتين بالرغم من أنها لم تقضى عدتها الشرعية, وتطوع أحد كبار بنى قيلة بحراسة القبة التى شهدت الدخول وظل ساهرًا طوال الليل متوحشًا سيفه حتى الصباح ففاز بدعوة طيبة " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى" وعلل اليثربى ما فعله بـ " أن هذه المرأة قد قُتِل أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك " [ نساء النبى: لبنت الشاطئ ـ الفصل العاشر : صفية بنت حيي ـ عقيلة بنى النضير, ص 159 وما بعدها واستندت فى ذلك إلى السيرة النبوية لابن هشام , وتاريخ الطبرى لابن جرير, والإصابة لابن حجر .. إلخ ].

إنما من باب الأمانة العلمية علينا أن نرقم أن نكاح الأسيرات الفواتن شكل قصدًا هامشيًا وبأى حال من الأحوال لم تستهدفه الغزوات والسرايا فى المقام الأول ولم يدخل فى حساباتها الهامة, بيد أن التحليل الموضوعى الصحيح لا يشمل القصود الرئيسية فحسب بل يتعين حتى يغدو مكتملاً وعرّياً عن النقصان أن يضم بين حناياه الأهداف الجانبية خاصة أن الفهوم تختلف والعقول تتباين والأنظار تفترق فى توصيف الغايات فما قد يراه البعض جِذعًا ينتهى الآخر إلى فرع وما قد يذهب إليه واحد أنه جوهر يعده الآخر عرضًا ويقدر نفر أنه خطير فى حين أن الآخرين يؤكدون أن أهميته بين بين.
ثالثا: عن المقيمين فى قرية الحرتين:
أ ـ بالنسبة إلى اليهود الذين حققوا وجودًا كثبفًا فيها وربطتهم ببنى قيلة وشائج متشابكة: الجوار ـ الحلف ـ الولاء ـ المناكحة [ كعب بن الأشرف الذى أرسل " المنصور بالرعب مسيرة شهر" فرقة مما يمكن أن نسميه " سلاح المهمات الخاصة" صفته جسديًا أبوه عربى من طيئ وأمه يهودية]. والعلاقات التجارية والمالية والزراعية وتنشئة الأولاد لدى القبائل اليهودية فالأثربية التى يموت أولادها فى طفولتهم عندما ترزق بولد تبعث به إلى القبيلة اليهودية التى يربطها بقبيلتها عقد ليتربى بينهم باعتبار أنهم أهل كتاب وفيهم البركة, وقد حدث أن كثيرًا منهم اعتنقوا ديانة اليهود ونفر منهم رفض بشدة تركها والدخول فى الإسلام وبعضهم فضل مصاحبة اليهود الذين أجلاهم " أبو القاسم" عنها على العدن فى يثرب بين أهله وعشيرته . انتهى.
فقد ذكرنا فيما سلف أنه فى المبتدأ عمد إلى الملاطفة والملاينة, لكن التركيبة النفسية لأولاد يعقوب من التعقيد بحيث إنها لم تستجب ربما لأن بأيديهم الكتاب المقدس الأول أو لأن التجارب المريرة التى مروا بها والتى حكى رواياتها إسطيرهم العتيق وما وقع لهم بعد تدوينه. ويضاف إليه نظرتهم المتعالية للعرب والعربان والأعراب والأعاريب وما ترسب فى وجدانهم أنهم أرقى منهم فى سلم الحضارة, جِماعة قبض نفوسهم عن مبادلة مبادرات " الحبيب المصطفى" بمثلها ولو اكتفوا بهذا الموقف السلبى لهان الخطب بيد أنهم عمدوا إلى الدس ومالوا إلى الوقيعة وجنحوا إلى الفرتكة وعملوا على النقض وسعوا إلى الإتلاف وعاضدهم تقدير بنى قيلة لهم باعتبار أنهم أصحاب إسطير مقدس وعندهم علم وفير بالكتاب مما دفعهم إلى مزيد من التحريض والتحريش والإفساد.
لقد غاظهم وأحرق قلوبهم أن ما توعدوا به بنى قيلة من ظهور نبى من سلالة إسحق بن يعقوب يستبصرون به عليهم لم يتم إنما الذى دفع الإحباط للهيمنة على نفوسهم ووز اليأس للسيطرة على وجدناهم وحث الخيبة القوية للتغلغل فى شعورهم هو نجاح محمد فى إعادة الوئام والصفاء بين فرعى بنى قيلة لأن هذا التأليف بين قلوبهم أصابهم فى مقتل فهم يستثمرون الشقاق بين العشيرتين ويتكسبون من الفرقة بين الرهطين ويترجون من دوام التناحر بين الفريقين, وفى محاولة يائسة ومخطط ساقط وبادرة وخبيثة أرسل بنو قينقاع واحدًا من شبانهم الرقعاء وفتيانهم المخنثين وأولادهم الخلعاء فجلس بين اليثاربة وأخذ ينشد أشعارًا مما قاله الجانبان فى " يوم بعاث" [ عركة شهيرة بين الأوس والخزرج حدثت قبل الإسلام, سقط فيها قتلى من كل وتوزع فيها أولاد الأفاعى فحالف بعضهم الأوس والآخر الخزرج. أ هـ ]. فاشتعلت الحماسة واتقدت الحمية وارتفع لهيب العصبية وامتشقوا السلاح ليحارب بعضهم بعضًا وليستكملوا ما بدأوه فى وقعة بعاث لولا شجاعة " سيد أهل الله" وحكمته وذلاقه لسانه فأغمدوا السيوف وطفقوا يتعانقون وعيونهم تفيض بالدمع السخين ندمًا على السقطة التى تردوا فيها والزلة التى ارتكبوها والخطيئة التى مارسوها والفحاشة التى أقدموها عليها, ومما زاد مرارتهم وضاعف ندمهم وعمق أساهم لم يلتفتوا إلى مكر أولاد الأفاعى ولم يتنبهوا إلى خبثهم ولم يفطنوا إلى مكيدتهم.
هنا أدرك " الصادق الصادوق" أنه لافائدة معهم أو فيهم وأن الإنتصارات التى يفوز بها فى المغازى والسرايا وترفع رايته إلى عنان السماء ستدفعهم إلى الإلتزام جحورهم والقبوع فى كنيسهم. بيد أن هذا الهدف لم يفلح ولم ينجح كله بل فاز جزئيًا فبعد بدء المغازى والسرايا لملم بنو إسرائيل أرجلهم المفرشحة إنما ظلت أياديهم الوسخة وأصابعهم القذرة وأناملهم الملطخة وراحاتهم الدرناء تعمل فى الخفاء فتحيك الدسائس من وراء ستار وتدبر المكائد وتخطط للفتن ومن ثم عالجهم " السراج المنير" بالدواء الناجح لشرورهم بما إستأصل شأفة آثامهم وقضى على سمومهم فقتل من قتل وغرب من غرب.
ب ـ وصفنا المنافقين بالمعارضين السياسيين الذين هم بمثابة الشوكة فى الحلق أو الطابور الخامس الذى يمالئ العدو ويعاون الخصم ويعاضد المحارب ويساعد المهاجم وأخطر ما فيهم إظهارهم المودة وإبطانهم العداوة وإبرازهم الصفاء وإخفاؤهم الضغينة.
ومن ثم طفق " سيد ولد آدم" يعدهم من ألد الأعداء وإن اضطر إلى ملاينتهم لأنهم ينطقون بالشهادتين ويؤدون صلوات النهار بل ويحضرون بعض مجالسه الشريفة بحسبان أنهم من الصحب والتبع والأوفياء.
وجاءت المغازى والسرايا ضربة على رؤوسهم, إذ انتصر " سيد البادى والحاضر" فى عامتها وفلج فى غالبيتها الأمر الذى أصابهم بالغم وملأهم بالنكد وشحنهم بالكراهية حتى إنهم فى بعض الغزوات والسرايا اضطروا إلى الخروج وسبق أن أوضحنا دوافعهم.
بعض بنى قيلة آمن بدعوة " أشرف ولد عدنان" وهو فى المشاعر المقدسة قرب مكة وتحديدًا فى منى واندفع جمهور غفير منهم إلى اعتناق الإسلام على يد مندوبه الذى بعث به إلى قريتهم مصعب بن عمير وهو أحد الصحبة الخلص المتجردين بينما الغالبية أسلمت عند نزوحه إليهم. إنما الذى لا مشاجة فيه أن شطرًا لا بأس به من الأثاربة ظل مترددًا يقدم رجلاً ويؤخر الآخرى, يظهر ثم يخنس, يبرز ثم يكنس, والدوافع كثيرة والبواعث متعددة والتخضيض أنواع منها: الحماسة للعقيدة السابقة أو الإقتناع بآراء يهود أو لانتصاب العلاقات الملتبكة التى ذكرناها فيما سلف ربما أكثر من مرة.
فجاءت الغزوات والسرايا والبعوث تضع حدًا للذبذبة ولو أنه لم يتم دفعة واحدة, فحين ينتصر المسلمون مثل ما حدث فى بدر الكبرى يتشجعون ولما ينكسرون كما فى غزوة أحد يتقهقرون إذ طفقت نفوسهم تخاطبهم: لو أنهم على حق لما تخلى عنهم ربهم, ولضيق أفقهم لم يدركوا أن الفلج والخيبة فى المعارك مرجعها إلى حُسن التخطيط أو سوئه ودقة الاستعداد أو خرقته وثقل التسليح أو هزاله وهكذا, ولا صلة لهما البتة بالماورائيات ولا وشيجة بينهما وبين الغيبيات ولا حبل يربطهما بالعوالم الخفية ولا علاقة لهما بالكائنات غير المنظورة...... إلخ.
لما شالت كفة الهزائم ورجحت كفة الانتصارات السواحق وارتفعت الرايات المحمدية إلى أعلى عليين, وإذا شئنا الدقة رقمنا أنه بدأت تلوح فى الأفق بشائر الظفر وتظهر علامات الغلبة وتحصحص آيات النجاح, خلف المترددون وراء ظهورهم التذبذب وتركوا الإحجام وفارقوا الارتجاح وطفقوا يعتنقون الديانة الإسلامية على ربث لا على عجل وعلى مهل لا على سرعة وبروية دون اندفاع, بيد أن مصنفات سيرة " المحمود فى الأرض والسماء" أخبرتنا أن إسلامهم لم تشبه شائبة ولم تخالطه عكارة ولم تفسده غيرة وغدا شطر وسيع منهم من خيرة الأصحاب وأبلى بعضهم فى سبيل الإسلام بلاء حسنًا.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ


.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح




.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا