الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ والأستثناء

حسن مدبولى

2023 / 12 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وكما ستلعننا أحفادنا من الأجيال القادمة لتهاوننا وتخاذلنا المخزى أمام إستكمال سد النهضة الحبشى ،وتفريطنا فى الثوابت الجغرافية ، وانحطاطنا القيمى والثقافى والعقائدى ، والهزبمة الحضارية الشاملة التى تعانيها الأجيال الراهنة ،كان من المفترض أن تكون مشاعرنا نحن أيضا لاعنة ناقمة تصب جام الغضب بمقدار أشد وأقوى تجاه الأجداد الفراعنة بإعتبارنا أحفادهم وورثتهم وخلفائهم على هذه الأرض، بدلا من كل هذا الغوص فى متاهات المباهاة البائسة التى لا تمل من التكرار ، والتى تستهدف بالأساس غسيل الأمخاخ -إن وجدت- وتغييبها بواسطة قلب الحقائق وتحويل الكوارث إلى مآثر إفتخارية لتبرير وتسويغ الأوضاع والهزائم القائمة!!
ولو حكمنا العقل ولو بقدر قليل جدا، سيتبين لنا أن غالبية كوارثنا المعاصرة التى تكاد أن تفنينا وتنهى وجودنا ، هى كوارث مستنسخة طبق الأصل من جرائم فرعونية مسخ استرجعناها بعد أن إندثرت ومشينا على هداها بلا تفكير،ثم تطور الأمر فإحتفلنا وتراقصنا بها ولها،
السؤال المهم هنا وبعيدا عن الحاضر المخزى هل هناك مآثر فى تاريخنا الفرعونى تدعوا للفخر والتباهى والإختيال ؟
إن من يعتقدون أن الأجداد هم مجال عز وفخر لما خلفوه لنا من انجازات، بالتأكيد لايرون ولا يعرفون سوى الأهرامات والمعابد والنقوش والتوابيت الذهبية والجثامين المحنطة، وأيضا يعرفون الدولة الفرعونية العميقة الإستعبادية التى يملك حكامها الأرض الوطنية بمن عليها ؟ فهل هذه إنجازات حضارية يمكن البناء عليها ؟
إنها قد تكون انجازات عظيمة بالفعل طبقا للمقاييس الإنشائية أو الفنية المحدودة المجردة، أو طبقا للمقاييس الخاصة بالنموذج الدولجى الطبقى التمييزى الذى لا يرى مانع من تدخل الأجنبى فى شئونه وسيادة بلاده مادام هو وحاشيته يستفيدون ؟
لكنها من وجهة نظرى تعتبر كوارث بائسة طبقا للمقاييس الحضارية الإنسانية، وطبقا للثوابت الوطنية للشعوب ، فكيف يجوز لحاكم فرعون لديه أدنى ذرة من الإنتماء لوطنه وأهله، أن يقوم بتسخير شعب بأكمله لبناء مقبرة خاصة به، لتخليد ذكراه أو ذكرى ذويه، حتى وإن كانت تلك المقبرة فى عظمة الأهرامات ؟ الخطورة أن الأمر لم يكن بناءا وحسب ، لكن ذلك الإسلوب الإستعبادى خلف ترسيخا لتلك الفكرة تاريخيا ، وتم تكرارها بنفس الطريقة عند حفر قناة السويس بنفس السخرة وبنفس الإنحطاط ؟مع الفارق بالطبع بين أهمية قناة السويس وبين أهمية مقبرة الفرعون؟
على جانب آخر ما الذى إستفادته غالبية المصريين من التميز البارع فى علم تحنيط الجثث ؟ لقد تم تحنيط مئات القادة والحكام ، وآلاف الحيوانات المقدسة المعبودة كالتماسيح والقطط؟ ولكن ما هو العائد على غالبية الناس وقتئذ أو بعد ذلك؟ لا شئ بالطبع سوى ما نراه من مومياوات لمشاهير الفراعنة تعرض فى المتاحف للفرجة والمشاهدة بينما إندثر كل ذكر عن ما عاناه الأفراد العاديين من بنى الوطن كما اندثرت ذكرى آلاف الشهداء الذين دفنوا فى قناة السويس ؟ بل أن الأعداء من الفرس استغلوا تلك البلاهة ووضعوا فى مقدمة جيشهم بعض القطط والحيوانات المقدسة لكى يرحب بغزوهم المصريين!؟
و المدهش أن مستوى المعيشة تحت حكم هؤلاء الفراعنة كان غاية فى الصعوبة على عامة الناس، ويماثل تماما واقعنا الراهن ،إذ كان المجتمع المصري مجتمعًا طبقيًّا بدرجة عالية، وكانت الفئة الاجتماعية عنصر مهم في تحديد كيان وشخصية المرء، حيث إحتل المزارعون النصيب الأكبر من السكان في ذلك الوقت، ورغم ذلك كانت المنتجات والأراضي الزراعية كلها مملوكة من قبل الدولة أو المعبد، و في بعض الأحيان كانت مملوكة لأحد الأسر النبيلة، ومع ذلك خضع المزارعون لضريبة العمل مما زاد فى ضيق حالهم ، كما كان البعض منهم يعملون في مشاريع البناء أو الري بنظام سخرة السُخرة،
أما الفنانون والكتاب والكهان والحرفيون، فقد كانوا بمركز أعلى وأرقى من فئة المزارعين، إلا أنهم كانوا أيضاً تحت سيطرة الدولة المباشرة، حيث كانوا يعملون في معابد الدولة، ويتلقون رواتبهم مباشرةً من خزينتها، و لذا صور الأدب والفن و بشكل واضح وضع الطبقة العليا فقط وسماتها ، كما كان الفنانون يعكسون على الجدران كل مزايا ومآثر الحاكم الإله ، فإن مات او قتل إنقلبوا على أعقابهم فمدحوا الحاكم الجديد ودونوا كتاباتهم فوق نفس الجدران التى كانت شاهدة على نفاقهم للحاكم السابق ؟بينما بالطبع تم تجاهل آلام ومعاناة الغالبية الساحقة من الشعب ولم تتحدث فنونهم عما كان يتعرض له هؤلاء الفقراء من ممارسات إستعبادية ؟ لذا فقد حظت تلك النخبة بنصيبٍ وافرٍ من الثروة والنفوذ على حساب بقية خلق الله من عموم الناس كما يحدث الآن ؟
وفى مجتمع كهذا لا تتحدث عن عدالة قضائية أو حياد و نزاهة أو أسس ونظم وقواعد ، فقد إنطوي العقاب في الجرائم البسيطة جدا إما على فرض الغرامات ( الإتاوات) أو الضرب،أو التشويه في الوجه؟ أو النفي خارج البلاد ، وهذا طبعا كان يتوقف على شدة الجريمة أوإنتماء المجرم الطبقى؟
أما الجرائم الخطيرة مثل القتل وسرقة المقابر ؟ فكانت عقوبتها الإعدام فورا، إما بقطع الرأس، أو الإغراق فى الماء ، أو وضع الجاني على عمود( خازوق) ليخترق جسمه، وقد تمتد العقوبة لتشمل (عائلة الجاني) وكل من ينتمى إليه إذا كان من عامة الشعب، وكل تلك العقوبات كان يمكن قبولها باعتبارها تطبيقا للعدالة ولو بشكل تجاوزى يتناسب مع حقبته الزمنية ، لكن الكارثة كانت تكمن فى طبيعة عمليات التحقيق لإثبات التهمة أو للبحث عن مرتكبيها تمهيدا لتوقيع العقوبة وتحقيق ( العدالة )
فقد لعب ما يسمى " الأوراكل" (أشخاص على اتصال بالإله) دوراً رئيسياً في النظام القانوني وتطبيق العدالة في القضايا المدنية والجنائية. حيث كان الأوراكل يقوم بسؤال (الإله) سؤالا يكون جوابه "نعم" أو "لا" بشأن صحة وحقيقة قضيةً ما، ثم يصدر الإله الحكم، ويسلمه إلى عدد من الكهنة مكتوبا على قصاصة من ورق البردي أو منحوتا فوق قطعة حجر تمثل إجابة الإله؟ وكان يترتب على تلك الإجابة تطبيق العقوبات بشكل لا نقض فيه ولا مراجعة ، ومن يعترض يتم عقابه عقابا اضافيا لإهانته الإجراءات القضائية الإلهية ؟
أما فى مسألة العزة الوطنية والممانعة والكرامة فقد سقط أجدادنا الفراعنة بالثلث، لإنهم صمتوا على كافة الإحتلالات الأجنبية دونما مقاومة أو ردود أفعال إلا فى مرات قليلة رغم كثرة الإحتلالات وتعددها وطول مكوثها ؟ وعلى سبيل المثال فقد إستمر إحتلال الهكسوس لبلادنا لمايزيد عن مائة عام ،ولم يتحرك أحد ضدهم إلا بعد أن دب فيهم الفناء، وإنكشف ضعفهم، كما إنكشف سليمان عندما نخر السوس عصاته التى كانت تتوكأ عليها موميائه ؟
حتى أن أحمس الأول الذى تم تقديمه بإعتباره بطل التحرير من دنس الهكسوس ،اتضح إنه لم يخترع العجلة الحربية التى كانت سببا أساسيا فى انتصاراته كما يشاع ،لكنها كانت مجرد إستنساخ وتقليد لمعدات وأسلحة الهكسوس أنفسهم ،وكان المكون الرئيسى لغالبية جيش أحمس و خلفائه مكونا من المرتزقة الأجانب ( اليونانيون) على وجه الخصوص!
،أما على مستوى الولاء والإخلاص سنجد أن بعض قادة الملك أحمس الثانى قد خانوه وتعاونوا مع المحتل الأجنبى الجديد ، مما ساهم فى الهزيمة ووقوع مصر تحت الإحتلال مرة أخرى ولكنها كانت من الفرس هذه المرة،
وفى إطار الخيانة الفرعونية التاريخية أيضا ينبغى أن نشير إلى إستعانة كليوباترا بجيش روما الأجنبى لإحتلال بلادها وتغيير نظام الحكم بالقوة عام 41 ق.م ، مما مهد الطريق أمام الرومان لاحتلال مصر قرابة سبعمائة عام ؟

فهؤلاء الأجداد كانوا ما ان يضعف مستعمر لهم ويستعد للمغادرة حتى يحضر غيره ؟ فما إن خرج الكنعانيون الذين دخلوا مصر عام 1800 ق.م حتى دخل الهكسوس عام 1650 ق.م ، وما أن خرج الهكسوس عام 1550 ق.م ، حتى دخل الفرس 525 ق.م ، وما ان خرج الفرس عام 330 ق.م حتى دخل اليونان والبطالمة فى نفس العام 330 ق.م و ظلوا حتى عام 31 ق.م، وما ان خرج البطالمة 31 ق.م حتى دخل الرومان عام 30 ق.م ؟
وقد ظل الحكم الفرعونى سيد موقفه المتجمد الصامت على المحتل والعاجز عن الإستفادة من مزاياه إن وجدت ؟ حتى انهارت الحضارة الإغريقية اليونانية وجاء التغيير الكارثى على أيدى الرومان وتابعيهم ، فأنهى وقضى على كل ما يمت للوجود الفرعوني بكل سهولة ، ودمر أيضا البقية الباقية من آثار الحضارة الإغريقية فى الإسكندرية دونما أية مقاومةاو رفض،كما تم القضاء على اللغة المصرية القديمةبجرة قلم وذلك عندما صدر مرسوم بإعتبار( لغة الكتاب المقدس) هى اللغة الرسمية التى يجب يتعامل بها الشعب ،كما أغلقت المعابد الضخمة،وأحرقت مكتبة الإسكندرية وطورد كهان المعابد وعائلات الفراعين ، وتحولت مصر بعدها إلى مجرد حامية زراعية تابعة للرومان تحت حكم ثيوقراطى ذو طابع محلى كان كل ما يعنيه هو تغيير شكل دور العبادة وتحويل وجهتها ،مع جمع الأموال عنوة من الفلاحين لإرسال الجزية للرومان كل عام ؟
وظل الأمر هكذا لما يزيد عن الأربعمائة عام، فإنتهت الحقبة الفرعونية وإنقطع المصريون عن أى صلة حضارية مع العالم الخارجى ، وأضحت مصر الرسمية البديلة عن الفراعنة غارقة فقط فى آتون خلافات لاهوتية حول طبيعة (الرب الجديد ) مع اللهاث وراء الإجابات حتى ترد من الباب العالى (فى روما )عبر المجمعات اللاهوتية، بينما لا انشاءات ولا طرق ولا مشروعات رى ولا دور رعاية طبية ولا علم دنيوى ؟

ولقد ظلت تلك المأساة مستمرة ، وساهمت فى المزيد من التجهيل والتصغير لحجم مصر، حتى جاء الفتح العربى الإسلامى على يد عمرو بن العاص 641 ميلادية ، فإنتهت الثقافة الرومانية بكل روافدها ، وحلت محلها الثقافة العربية وتبدل دينها الرسمى إلى الإسلام الذى إحتوى غالبية المصريين ،ووحد شعبها الذى كاد أن يلفه النسيان مع غروب مايسمى بالحضارة الفرعونية وقساوة وتبلد الحقبة الرومانية ،
والجدير بالذكر ان تاريخ أمتنا شهد مع كل تلك النكسات استثناءات تاريخية مجيدة لا نظير لها، لكن غالبيتها تمت وحدثت ونحن تحت حكم وراية العروبة و الاسلام ، وقد تمثلت تلك الاستثناءات فى دحر قوى عالمية كبرى كالتتار والصليبيين والفرنسيين والقضاء عليها وصد جحافلها، بل وملاحقتها خارج الحدود حتى وصلنا بجيوشنا الى الحجاز والحبشة وحتى حدود روسيا وتركيا وبلغاريا ؟
بينما عادت( مصر الليبرالية ) للقاعدة فانتكست لترزح تحت نير الإحتلال الانجليزى سبعين عاما إضافية ، ثم فقدت مصر الثورية الاشتراكية العلمانية ثلاثة ارباع مساحة البلاد التاريخية ، وانهزمنا عسكريا فى أكثر من موضع،
لكن وفى ظل استثناء آخر وتحت شعار (الله أكبر )فى شهر رمضان المبارك والجنود صائمون وفى معركة سميت (بدر) تصدت مصر أيضا للصهاينة ودمرت أحلامهم بعدما حاولوا تكرار تجارب أجدادهم الغزاة الكنعانيين !؟ ثم عاودت بوادر الهزائم تدك ثوابتنا وتعتدى على حرمة جغرافيتنا وتهدد( بقائنا ووجودنا من الأساس )ببناء سد النهضة لقطع (شريان الحياة عنا) ،فيما نحن محكومون بشعارات من قبيل( تحيا مصر !!!) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد مع فراس وراند.. مين بيحب التاني أكتر؟ | خلينا نحكي


.. الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟ • فرانس 24 / FRA




.. تكثيف الضغوط على حماس وإسرائيل للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النا


.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف إطلاق النار في قطاع غز




.. هل يقترب إعلان نهاية الحرب في غزة مع عودة المفاوضات في القاه