الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد والقسطنطينية

باسم الأنصار

2023 / 12 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لو تتبعنا الأسباب التي أدت الى نشوء الثورات السياسية والفكرية والاجتماعية الكبرى لوجدناها لم تستند على سببٍ واحدٍ أو عاملٍ واحدٍ أو حتى على عدة أسباب وعوامل بسيطة ومحدودة لنشوئها، وإنما سنجدها تستند على عدة أسبابٍ وعوامل مهمة وعميقة، بل وتستند على مؤثرات داخلية وخارجية معاً. فجميع هذه الثورات ساهمت في نشوئها ومن ثم حققت أغراضها أو معظمها أسباب عديدة ومتشعبة داخلية وخارجية. فمثلاً نشوء الثورة الفرنسية التي ألهمت أوربا بأكملها لم يقتصر على جهد مفكرٍ أو سياسي أو ثائر واحد فقط، وإنما هو نشوء استند على أسبابٍ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة ومتنوعة ومتفرعة. حتى الديانات الكبرى سواء المسماة بالسماوية: (اليهودية والمسيحية والاسلام) أو تلك المسماة بالأرضية مثل البوذية والهندوسية والمجوسية ووو الخ، ليست نتاج أنبياءها فقط، ولا حتى نتاج الوحي الذي يتلقاه الأنبياء حسب المنظور الديني، وإنما هو نتاج هؤلاء بالإضافة الى أصحابهم وأتباعهم سواء الذين يعيشون معهم ضمن البلاد التي يسكنوها أو سؤاء الذين يعيشون خارج البلاد، بالإضافة الى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية المحيطة بهم.
فالوحي سواء كان منبثقاً من خلايا الدماغ البشري أو من فضاء اللاّوعي الجمعي أو من لسان الغيب أو من الله حسب المفهوم الديني، شيءٌ روحي ومعنوي وليس شيئاً مادياً. والحياة والعالم تحركه بالأساس الوسائل المادية مع أنّ الوسائل الروحية تساهم في هذه الحركة أيضاً، ولكنّ مساهمتها تكون محدودة قياساً بالوسائل المادية. فالوحي لا يوفر المال والجيوش والخيول والسلاح في معارك الأنبياء مع أعداءهم مثلاً، ولا يهيئ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعين الأنبياء على نشر رسالاتهم الى الناس. من الممكن أن يخلق الوحي جواّ ايمانياً للأنبياء ولأتباعهم يساعدهم كقوة معنوية في القتال وفي نشر دعواتهم الدينية، ولكنه لا يستطيع أن يوفّر الوسائل المادية لهم.
لذا، فإنّ الاسلام كحركة دينية سياسية غيّرت مجرى التاريخ كله وانتفضت بوجه الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية معاً بعد أن هيمنتا على العراق والشام ومصر واليمن وحاصرتا شبه جزيرة العرب لمئات السنين، ثم أبرزت العرب على مسرح التاريخ بقوة وساهمت في صناعة واحدة من أعظم الحضارات البشرية في التاريخ ألا وهي الحضارة العربية الإسلامية التي ظهرت في العصر العباسي، لا يمكن أن تكون قوة هذه الحركة أو نشاطها الخلاّق يستند على عاملٍ واحدٍ أو على نبيٍ ما أو على ظروف حياتية عادية وبسيطة، بل ولا يمكن اختزال هذه الحركة بهذه التفصيلة أو تلك، ولا يمكن تفسير أسباب ظهورها وقوتها وانتصاراتها على الفرس والروم لأسباب عسكرية واقتصادية فقط.
الاسلام لم يظهر بجهد شخصٍ واحد متمثل بنبي الاسلام محمد ولا بجهد مجموعة من أصحابه المحيطين به (مع أنّ دور هذا النبي وأصحابه المحيطين به لا يستهان به في هذا الظهور)، وانما ظهر بفعل وقوف حزب سياسي ديني واسع وكبير معه تمتد أذرعه من الحجاز الى الحبشة مع النجاشي، والقسطنطينية مع أسقفها سرجيوس الذي كان أيضاً مستشاراً لهرقل قيصر الروم، وروما مع بابا الفاتيكان هونوريوس الأول، وأنطاكيا مع أسقفها أثناسيوس الأول، والاسكندرية مع أسقفها سيروس، واليمن مع حاكمها سيف بن ذي يزن، والشام مع بحيرى الراهب أولاً وعيص الراهب ثانياً، بل والعراق أيضاً مع بني شيبان الذين إلتقاهم نبي الإسلام سرّاً على حدود العراق قبل هجرته الى يثرب بعامين تقريباً. وهذا الحزب كما يبدو استخدم واستثمر جميع طاقاته وعلاقاته وتأثيراته على أصحاب القرار من قياصرة ورجال دين وملوك وأمراء لإظهار الإسلام ودعم نبيه لتحقيق أهدافه وغاياته الدينية والسياسية معاً. وبعد البحث المستفيض عن هوية هذا الحزب ظهر بأنّ نوره قد بزغ من عالم الأحناف الموحدين الإبراهيميين المنتشرين في الحجاز وبقية أنحاء العالم. ولكنّ هذا الحزب لا يمثل جميع الأحناف، لأنّ الأحناف يحملون عقيدة دينية فقط ألا وهي عقيدة التوحيد الخالص والعدل الإلهي، بينما هذا الحزب يحمل عقيدة دينية وسياسية معاً. العقيدة الدينية تدعو الى التوحيد الخالص والعدل الإلهي على شاكلة الأحناف، والعقيدة السياسية تدعو الى توحيد الحجاز ونجد واليمن والشام والعراق لسببين: الأول قومي، لأنّ هذه البلدان ترتبط بروابط عرقية وثقافية وأقتصادية ولغوية قويةٍ جداً منذ مئات السنين. والسبب الثاني ديني، لأنّ الشام وبالأخص أورشليم القدس تعدُّ أقدس المدن في العالم بالنسبة للأديان السماوية الثلاثة على اعتبار أنها مدينة الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى (يسوع المسيح). ولأنّ العراق يعد مقدساً أيضاً بالنسبة لهم على اعتبار أنه موطن أب الأنبياء إبراهيم. وبما أنّ جميع الأنبياء منذ إبراهيم بل منذ آدم الى محمد هم مسلمون حسب التعبير القرآني، فإنّ مسألة توحيد أتباعهم من المسلمين في بلادٍ واحدة هي مسألة تقع في صميم الغاية العقائدية للحزب ولنبيه*. وبالتالي فإنّ قضية توحيد هذه البلدان كافة تحت راية الحزب أو الإسلام بقيادة نبيه محمد هي الهدف الأسمى لهم. ولكن هذا الأمر يتطلب من الحزب القتال (الجهاد) ضد الإمبراطورية البيزنطية (الروم حسب القاموس اللغوي العربي والإسلامي حينذاك) وضد الإمبراطورية الفارسية وضد حلفائهما أيضاً على اعتبار أنّ هاتين الإمبراطوريتين تناوبتا على احتلال الشام والعراق طويلاً**
من هذا المنطلق، فأنّ أدق تسمية ينبغي أن تطلق على هذا الحزب هي تسمية (حزب الأحناف)، وذلك لتمييزه عن جماعة الأحناف أصحاب الدعوة الدينية فقط، وخصوصاً أنّ مفردة حزب ذُكرت أكثر من مرة في القرآن تخص المؤمنين والموحدين المناصرين لدعوة محمد الدينية والسياسية. إذ ذكر القرآن بأنّ الذين يتبعون نبي الإسلام ويناصروه وينصروه هم: (أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون) المجادلة: 22
وذكر أيضاً في المعنى ذاته: (ومن يتولَ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون) المائدة: 56
بل ذكر في بعض آياته تفرّق الأمة الى أحزابٍ يهودية ونصرانية وأخرى غيرها بما يدلل أنّ حزب الأحناف لم يكن غريباً عن البيئة التي أنجبت هذه الأحزاب الدينية والسياسية، كما هو مذكور في سورة المؤمنون وسورة الروم.
لذا، فإذا فهمنا هذه التفصيلات بشكلٍ دقيق، فأننا سنفهم كل ما جرى في تاريخ الاسلام منذ بدايته ولحد الآن. سنفهم السبب الحقيقي لبروز الاسلام في مكة، وسنفهم لماذا صار محمد بالذات نبياً للإسلام، سنفهم السبب الحقيقي لهجرة المسلمين الى الحبشة مثلاً، وسنعرف أنّ السبب الحقيقي لهذه الهجرة ليس الاضطهاد القريشي للمسلمين فقط، وإنما لأنّ حزب الأحناف قرر إقامة قاعدة عسكرية واقتصادية في الحبشة، لكي يغزو مكة أو يكون وسيلة ضغط على قريش بمساعدة الحبشة فيما بعد على غرار غزو ابرهة الحبشي لها قبل الاسلام. وأيضاً سنفهم لماذا لم ينجح محمد في هجرته الى العراق، ولماذا لم ينجح في هجرته الى الطائف، ولماذا نجح في هجرته الى يثرب بالذات. سنعرف بأنّ غزوات محمد وسراياه ضد القوافل التجارية القريشية والعربية لم تكن من أجل المال فقط، وإنما من أجل ضرب الخط التجاري الفارسي العربي الممتد من الشام الى الحجاز،لأنّ الشام حينذاك كانت تحت الاحتلال الفارسي، ونبي الاسلام وحزبه الحنيفي كانوا مع البيزنطيين، وهذا يعني بأنهم كانوا ضد الفرس المتحالفين مع قريش واليهود في العراق والشام والحجاز خلال الصراع الطويل والدامي بين الفرس الفرس والبيزنطيين. ولهذا حزن نبي الإسلام كثيراً حينما غُلبت الروم عام 614 م في الشام على يد الفرس. وبعد ذلك سنعرف أو سنحلّ اللغز الذي حيّر الجميع من المؤرخين المسلمين والمسيحيين والغربيين بشكلٍ عام سواء كانوا من القدماء أو المعاصرين، ألا وهو بأنّ الذي فسح المجال للمسلمين لفتح الشام بعد موت نبي الإسلام بالسم عام 632 م، هم زعماء الحزب السريين الذين يعيشون في القسطنطينية وروما المرتبطين بنبي الإسلام عبر شخصية في غاية الأهمية في التاريخ ألا وهي شخصية بحيرى الراهب المتخفية تحت ستار شخصية أخرى شهيرة ومهمة أيضاً ألا وهي شخصية سرجيوس أسقف القسطنطينية ومستشار قيصر الروم حينذاك.
نعم، بحيرى الراهب أو سرجيوس كان هو نقطة الوصل بين نبي الاسلام وأصحابه وحزبه المنتشرين في الحجاز وبين زعماء الحزب الآخرين المنتشرين بشكلٍ خفي وسري في الشام وبيزنطة وروما وأنطاكيا والأسكندرية على سبيل الحصر. وأهم دليلٌ على ذلك هو التوافق العجيب والدقيق بين الأحداث التي مرّ بها محمد وأصحابه وبين الأحداث التي مرّ بها البيزنطيون. توافق يدلل وبقوة على أنّ هناك تنسيقاً سريّاً ودقيقاً بين الطرفين لا يمكن إحالته الى الصدفة أبداً مثل توافق اعلان محمد عن نبوته في العام 610 م مع اعلان هرقل نفسه قيصراً على القسطنطينية وتعيين سرجيوس أسقفاً على كنيستها في العام نفسه أي 610 م. ومثل توافق هجرة نبي الإسلام وأصحابه من مكة الى يثرب في العام 622 م مع بدء الحملة العسكرية البيزنطية بقيادة هرقل ضد الفرس لإسترداد الشام ومصر من الفرس في العام نفسه. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك كما هو موضح في هذا الكتاب.
من جهةٍ أخرى، حتى لو لم يكن سرجيوس أو بحيرى الراهب هو الشخص المسؤول عن التنسيق العجيب مع نبي الإسلام بين الأحداث التي مرّ بها والأحداث التي مرّ بها البيزنطيون، فلابد أن يكون هناك شخصاً أو أشخاصاً عديدين قد قاموا بهذا التنسيق ولكننا نجهل هوياتهم بسبب السرّانية التي أحاط الحزب نفسه بها لتسهيل مهمته. فالأهم لنا هو وجود هذا التنسيق وليس إسم المنسق مع أهميته البالغة لمعرفة الحقيقة. ولكن الإصرار على أنّ سرجيوس هو المشرف على التنسيق بين حزبه في القسطنطينية وبين محمد في مكة والمدينة المنورة هو لكثرة الأدلة على ذلك.
من هذا المنطلق، فأننا لو فهمنا جميع هذه التفاصيل السرية والعلنية، فأننا سنقرأ الإسلام بشكلٍ مختلف عن قراءته السائدة، وبالتالي سنعرف صورته الحقيقية المخفية عنا.


* أخبرنا القرآن بأنّ جميع الأنبياء قبل نبي الإسلام هم مسلمون. فنوح يقول لقومه: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يونس/72، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم: ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) البقرة/ 131، ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءهما قائلين: ( فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) البقرة/132، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) البقرة/133، وموسى يقول لقومه: ( يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ) يونس/84، والحواريون يقولون لعيسى: ( آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران/52.
ويبدو أنّ هذه العقيدة التي تخبرنا بأنّ جميع الأنبياء هم مسلمون هي امتدادٌ لعقيدة المسيحيين أيضاً. ففي الفصل الرابع من الكتاب الأول لتاريخ الكنيسة للمؤرخ المسيحي يوسابيوس القيصري الذي عاش في القرنين الثالث والرابع الميلاديين تحت عنوان (لم تكن الديانة التي نادى بها - أي يسوع المسيح- لكل الأمم جديدة أو غريبة)، يخبرنا يوسابيوس بأنّ جميع الأنبياء قبل يسوع المسيح هم مسيحيون بالفعل وإن لم يكن بالإسم.

** من هنا نستطيع أن نفهم السبب الحقيقي والجوهري الذي كان يدفع نبي الإسلام للقتال ضد الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، ونستطيع أن نتأكد الى حدٍ كبيرٍ بأنّ الحدود القصوى لأحلام حزب الأحناف ونبيه في الفتوحات الإسلامية عبر القتال الحربي والسلمي معاً كانت تقتصر على الشام والعراق فقط. أما ما عدا ذلك من العالم فأنّ حلم محمد بنشر رسالته فيه كان عن طريق التبشير السلمي فقط على طريقة حواريي يسوع المسيح الذين راحوا يبشرون برسالته في العالم بعد صلبه. وأكبر دليلٌ على ذلك هو أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رفض في بادئ الأمر رغبة قائده العسكري في الشام عمرو بن العاص في دخول مصر على اعتبار أنه اكتفى بتحرير العراق والشام إتباعاً لأوامر حزب الأحناف الذي ظلّ فعّالاً في دوره بعد موت محمد، ولكنّ عمرو بن العاص وبسبب نزعته القومية في بناء إمبراطورية عربية على غرار الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية قام بخداعه ودخل مصر بجيشه ضد رغبة عمر بن الخطاب الذي تقبّل هذا الأمر فيما بعد وتعامل معه على أنه واقع حال جديد يجب تقبّله. والدليل الثاني على ذلك هو أنّ الخليفة الرابع علي بن أبي طالب أوقف خلال فترة حكمه ما تسمى بالفتوحات الإسلامية وأكتفى بما موجود تحت حكمه من بلدانٍ أجنبية تقع خارج إطار حلم حزب الأحناف الذي كان يدركه علي بن أبي طالب بقوةٍ شديدة بسبب ملاصقته الشديدة منذ الطفولة لنبي الإسلام وبسبب سيرته الإيمانية المشهود لها في المصادر التاريخية الإسلامية كلها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ