الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنصرية والخوف من الغرباء

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 12 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كتب كريستوف كولومب في مذكراته عن شعب الأراواك Arawaks في جزر البهاما : "لقد تبادلوا معنا عن طيب خاطر كل ما يمتلكونه، ولا يحملون أسلحة ولا يبدو أنهم يعرفونها، سيكونون بالنسبة لنا خدمًا ممتازين ومن الطراز الأول. مع خمسين رجلاً فقط، يمكننا إخضاعهم جميعًا وجعلهم يفعلون وينفذون ما نريد. 
نقلاً عن هوارد زين Howard Zinn في كتابه "تاريخ الشعب في الولايات المتحدة A People s History of the United States".
في نهاية الحرب العالمية الثانية ، تكتشف أوروبا فظاعة الهولوكوست وتدرك خطورة الأيديولوجية العنصرية التي طبقتها ألمانيا النازية، وفي عام 1953، تم اكتشاف جزيء الحمض النووي ADN الذي يحتوي على التراث الجيني لجميع البشر، حيث نكتشف أن هناك العديد من الاختلافات بين أفراد الشعوب ذاتها، وأن التغيرات والاختلافات بين شخصين من نفس القرية هي أكثر من الإختلافات أو الفروق بين شخصين من قارتين مختلفتين أو بين شخص أسود وأبيض أو أسود وأصفر أو أحمر أو أخضر. لقد ساهم هذا الاكتشاف في إلغاء النظريات العنصرية التي تؤكد تفوق عرق على آخر، من وجهة نظر علمية ووراثية. ومع ذلك، حتى لو أثبت المجتمع العلمي أن العرق ليس حقيقة بيولوجية ولا علمية، فإن العنصرية لا تزال موجودة، ولكن في أشكال أكثر ليونة مما كانت عليه في عهد كريستوف كولومب والفترات الإستعمارية اللاحقة.
ومن هذه الفترة، لا نجرؤ اليوم ولا نستطيع، بسبب التشريع والقوانين الإنسانية العديدة على وجه الخصوص، أن نميز - علنًا - بين شخص وآخر بسبب لون البشرة أو هيئة الجسم أو اللغة أو الدين وندعي أنه "أدنى منزلة". إن الرفض والنفور وحتى كراهية الآخر وإحتقاره، يتم تمويهه وإخفائه وراء بعض المفاهيم والتصورات الجديدة، مثل اختلاف الثقافات الذي يحل محل التسلسل الهرمي للأعراق؛ إذا لم يكن للآخر الغريب ما يفعله هنا في وطني، فذلك لأنه غير قابل للاندماج ثقافيًا؛ ذلك لأنه ليس لديه نفس العلاقة بالعمل والمعرفة ولا نفس النظرة للعلاقة بين الرجل والمرأة والتعليم والطعام؛ ولا نفس العلاقة بالدين والمقدس والعنف .. إلخ. من الآن فصاعدًا، لا يسعى العنصري إلى الهيمنة على الآخر، أو إخضاعه لتسلسله الهرمي "للأجناس"، ولكن لإخفائة وطرده بعيدا لأنه مختلف تماما وغير قابل للاندماج أو الذوبان، لا ثقافيًا ولا إجتماعيا ولا سياسيا في بوثقة المجتمع الجديد الذي يريد أن يستقر فيه لبدء أو مواصلة حياته. إن الإثنية أو التمييز العرقي في المجتمع ليست نتيجة لتيارات اليمين المتطرف فحسب، بل هي أيضًا نتيجة المبالغة في تقدير الاختلافات والهويات التي تركز عليها العديد من المجموعات الإجتماعية للدفاع عن حقوقها والمطالبة بالمساواة بين المواطنين، والتي يمكن أن تؤدي إلى أشكال جديدة من العنصرية. وذلك لإرتباط مفهوم "الهوية" بعناصر طبيعية ووراثية مثل أسود ، مسلم، عربي، يهودي، حيث يتم ربط الإنسان بهوية مفترضة حتى قبل ولادته وقبل أن يختار هويته الحقيقية والتي لا يمكن أن تكون ثابتة وراسخة وغير قابلة للتحول. ولقد رددنا مرات عديدة على صفحات الحوار المتمدن بأن الإنسان ليس شجرة أو نبات بحيث تكون له جذور غائصة في تربة بلد أو وطن أو شيء من هذا القبيل، هوية الإنسان مشروع وجودي يبنيه في كل لحظة وكل ثانية من معاناته ونضاله وعمله وليس شيئا يتلقاه بيولوجيا أو ثقافيا او دينيا من والديه أو من المجتمع الذي يعيش فيه.
فالعنصرية هي منظومة أيديولوجية للسلطة تعمل على نشر وتطبيق مبدأ التفاوت والتمييز العنصري بين فئات المجتمع الواحد أو بين عدة مجتمعات متجاورة، وتعمل العنصرية كنظام أيديولوجي على تشريع قوانين ودساتير تميز الأفراد والجماعات على أساس عرقي أو ثقافي أو تاريخي.
يقول جان بول سارتر، في أورفيوس الأسود Orphée Noire وهو نص كتبه كمقدمة لكتاب ليوبولد سنغور عن الشعر والشعراء السود Leopold Sédar-Senghor - Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache de langue français, Paris, 1948.
" يمكن لليهودي ، كإنسان أبيض بين البيض، أن ينكر أنه يهودي، ويعلن نفسه إنسانا في مجتمع من البشر. بينما لا يستطيع الزنجي أن ينكر أنه زنجي ولا أن يدعي لنفسه هذه الإنسانية المجردة عديمة اللون: إنه زنجي أسود. وهكذا أصبح محاصرًا في أصالتة: مهانًا، مستعبدًا، لكنه ينهض، يلتقط كلمة "زنجي" التي ألقيت عليه مثل الحجر، ويدعي بإفتخار أنه زنجي أسود، أمام الأبيض.
يمكن لليهودي أن يعلن نفسه رجلاً بين الرجال وأن يهرب من رهاب وخوف الأجانب العادي Xenophobia، إذا غير اسمه ودينه ونسي تاريخه وأصبح رجلاً أبيض بين البيض. يمكن للأسود أيضًا والعربي والهندي .. من خلال الاندماج أو الاستيعاب والإنسلاخ مما يسمى هويته والهروب من كراهية الأجانب والغرباء، ويصبح جزءا من المجتمع المختلط، بل يمكن بعضهم أن يصبح برلمانيا أو حتى رئيسا للدولة.
من ناحية أخرى، لا يمكنهم الهروب من العنصرية Racism، لأن العنصريين لا يهتمون بالحقائق النفسية أو الوضع الاجتماعي أو الإداري: أسود أو يهودي أو عربي، حتى لو كان رئيسا، يمثل دائمًا تهديدا للعنصريين الذين يخافون من الإختلاط العرقي، ويخافون من فقدان النقاوة العرقية الأصيلة التي تشكل، في خيالهم المريض إختلافهم وتفوقهم على بقية الشعوب.
في الوقت نفسه، يتمتع هؤلاء الناس، الذين يشكلون الأشخاص العنصريين والأشخاص الكارهين للأجانب، بخاصية غريبة تتمثل في كونهم غير متسقين تمامًا في تفكيرهم وغير عقلانيين. في حين أن العنصري يشعر بالذكاء، والتفوق والجمال والشجاعة، والقوة والفخر، أي بما يجعله مثاليا وكاملا ويمثل أعلى ما وصلت إليه البشرية من تطور، إلا أنه يؤمن إيمانا لا يتزحزح بأن هذا "الآخر" الغريب، رغم كونه رثًا ووحشيًا وغبيا وقبيحا ومتخلفا وعديم الفائدة ويمكن نعته بالحيوان، هذا الغريب الأجنبي لديه فقط شيء واحد في ذهنه، وهو الرغبة الشديدة في سرقة وظيفته وشريكه وعاداته وخبزه وأمواله وأجره وأصدقائه وكلبه، ولكن لديه أيضًا القدرة على القيام بكل بذلك. ما قد يبدو بحق غير منطقي هنا، وهذا يعني أن الاعتقاد بأن المرء هو الأفضل والأكثر قوة وكمالا لا يتعارض مع الاعتقاد بأنه مهدد في وجوده في كل لحظة، ومعرض للخطر من قبل الأشخاص الذين تم تعريفهم مسبقًا على أنهم أضعف وأقل ذكاء.
يعتقد العديد أن مفهوم الخوف من الأجانب والغرباء، أو ما يسمى بـ "الكزينوفوبيا" ومفهوم العنصرية Racism هما مفهومان متشابهان وأن استخدامهما يمكن أن يكون متكافئًا ويمكن أن يحل أحدهما محل الآخر. ومع ذلك، في معظم الأوقات ليس هذا هو الحال، فإن الكلمتين مختلفتين للغاية على الرغم من أن "الموضوع" هو نفسه : الآخر.
كره الأجانب "الكزينوفوبيا" هو خلل نفسي مثل الخوف من الفراغ والعلو والزحام والإنغلاق أو رهاب العناكب والفئران وغير ذلك، ويمكن تصحيح ذلك وعلاجه عن طريق الإقناع والتربية والثقافة والمعلومات ومعرفة الآخر وثقافته وتاريخه إلخ. ويبدو للوهلة الأولى ، إن كراهية الأجانب هي ظاهرة تطفو في الهواء وبلا جذور، ولا علاقة لها بالسياسة أو الاعتبارات الاجتماعية والثقافية: يمكن لأي شخص أن يخاف من الأشخاص الذين لا يعرفهم أو العادات التي لا يعرفها ولم يمارسها أبدًا، ويتقزز من مجرد فكرة أكل لحم الضفادع أو الكلاب أو الجراد.. إلخ. لكن في الواقع، كره الأجانب والغرباء مبني، مثل كل الظواهر الإجتماعية على الخطاب السائد في المحيط لوسائل التربية والإعلام والسينما وألعاب الفيديو، بتشجيع من خطاب سياسي أو صحفي أو فكري معين، مدعوم بقوانين تمييزية وعنصرية تسنها المؤسسات السياسية ... "الكزينوفوبيا" هي الخوف وكره الأجانب، أي النفور أو الخوف من المجهول أو من أي شيء يختلف عما أعتاد عليه الإنسان، فهو نفور فردي من الأجانب والغرباء بشكل عام. ولكل مجتمع أجانبه وغربائه، وذلك يعتمد على الأجنبي الأكثر حضوراً وظاهراً في مجتمع معين، وفقاً لتاريخ كل مجتمع وعلاقته بالشعوب الأخرى. في الولايات المتحدة مثلا، مظاهر الكزينوفوبيا تتركز ضد السود واللاتينيين، في فرنسا ضد السود والعرب من المستعمرات السابقة، في ألمانيا ضد الأتراك، في إنجلترا ضد الهنود والباكستانيين .. إلخ، وفي الدول العربية والإسلامية تتركز الكزينوفوبيا ضد كل الأوروبيين والمسيحيين بالذات.
من ناحية أخرى، لا علاقة للعنصرية Racism أو التمييز العنصري بعلم نفس السلوك أو أي أعذار أخرى من هذا النمط: العنصرية هي أيديولوجية وسياسة جماعية ومعتقد فردي وجماعي مع برنامج سياسي، ومنظرين، ومفكرين، ووسائل إعلام، وأحزاب سياسية تعمل على نشر هذا الفكر الهدام للعلاقات الإنسانية. العنصرية هي أيديولوجية طورت مبادئ ومفاهيم واضحة المعالم منذ القرن التاسع عشر، العنصرية هي أيديولوجية تهدف إلى القضاء على الأجنبي، لتطهير العرق المعني وحمايته من أي تلوث من قبل الآخرين. لأن العنصرية تفترض وجود اختلافات عرقية، وحتى وراثية، وأن أي عرق يحدد السمات والسلوك وحتى القدرات الجسدية والفكرية للفرد والمجتمع ككل وقدرته على الهيمنة والحق في الاستغلال وإستعباد الآخر واستخدامه، مما يجعلهم متفوقين على أي عرق آخر. في جميع أنحاء العالم، يوجد تمييز عنصري بين الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعات مختلفة، يتعرضون للتمييز بسبب اللون أو اللغة أو المعتقدات الثقافية أو العرقية.
على سبيل المثال ، يمكن للأشخاص الذين لديهم ممارسات جنسية مختلفة أو عادات مختلفة تتعلق بالأكل أو الشرب أو الملابس، يمكن أن يصبحوا بسهولة هدفًا لكراهية الأجانب بينما لن يكونوا بالضرورة هدفًا لبعض العنصريين. وقد حاول بعض العنصريين إثبات أن العرق الأوروبي الأبيض متفوق على الأجناس الأخرى، مما أدى إلى تطور العبودية والاستعمار حيث يتم التعامل مع السود والهنود والعرب على أنهم كائنات قابلة للاستغلال حسب الرغبة، مما أدى إلى الحملات الإستعمارية المتعددة التي أنتهت بمحرقة اليهود من قبل النازيين ثم بإحتلال فلسطين من قبل الصهيونية العالمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. داعش يتغلغل في أوروبا.. والإرهاب يضرب بعد حرب غزة | #ملف_الي


.. القرم... هل تتجرأ أوكرانيا على استعادتها بصواريخ أتاكمز وتست




.. مسن تسعيني يجوب شوارع #أيرلندا للتضامن مع تظاهرات لدعم غزة


.. مسؤول إسرائيلي: تل أبيب تمهل حماس حتى مساء الغد للرد على مقت




.. انفجار أسطوانات غاز بأحد المطاعم في #بيروت #سوشال_سكاي