الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إن الله أشترى من المؤمن نفسا ولم يشتري روحا.

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 12 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لماذا قال الله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، ولم يقل أشترى أرواحهم طالما أن النفس مرتبطة بالروح وجودا وعدما؟، في غالب التفاسير القديمة والحديثة لم أجد ضالتي في التفريق بين النفس والروح في معرض الجواب على السؤال، خاصة وأن الكثير من المفسرين وحسب الدارج من الفهم عندهم أن النفي هي ذات دلالة الروح وكأن الحديث عنهما واحد، وقد وردت مفردة الروح في مواضع عدة في القرآن للتدليل على مفهوم مختلف تماما بالماهية والجوهر والشكل عن النفس، التي وإن ذكرت كذلك لكن في أوصاف متعددة ومتباينة ومختلفة عكس الروح التي أخذت نسقا معنويا ثابتا.
فقد ذكر مثلا الدكتور على جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو كبار هيئة العلماء فى إجابته عن سؤال ورد اليه خلال لقائه بأحد الدروس الدينية، يقول فيه (ماذا يحدث للروح بعد الوفاة وكيف يشعر الجسد؟)، أن الروح داخلها نفس وهى النفس الناطقة والمؤاخذة، مُشيرًا الى أن الزمن عند الله ليس كالزمن عندنا، حيث أن الساعة في الملأ الأعلى تساوى 2000 سنة على الأرض، هذا الفهم يأت وفقا لنفس السياق الذي يتحدث به الأعتباطيون من مفسري النص الديني، دون أن يضعوا حدودا بين مفهومين أحدهم مطلق "الروح" التي هي من أمر الرب مطلق الإطلاق، وبين النسبي الزائل المتحول الضعيف المحتاج للمطلق.
اللغة ومفاهيمها والتي تحمل المعاني لا يمكن أن تكون بهذه الفوضى والتداخل وهو نوع من العبث اللا مجدي، خاصة ونحن نتحدث عن لسان عربي مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فول فصل وحكيم، وبالتالي لا يمكن لمنظم النص الذي هو الله والذي بين كل شيء تفصيلا أن يخلط بين مفهومين لا يتشابهان ولا يتحدان بالمعنى والدلالة والغاية من صياغتهما، فالروح كما سنرى في البحث غير النفس ولا تدل عليها والعكس صحيح.
ومن خلال أستعراض المفهوم بالنص القرآني كسياق ثابت وموحد وطبيعي نجد أن الروح لها عالم حاص منفرد ومؤطر بفهم متفرد من الله، لقد ورد مفهوم الروح مرتبطا بالذات العلية الربانية الخلقية أرتباط الجزء بالكل والفرع بالأصل:.
• ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩﴾ [الحجر:29].
• ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ٨٥﴾ [الإسراء:85].
• ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ٨٧﴾ [يوسف:87].
• ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ١٧١﴾ [النساء:171].
• ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ٢﴾ [النحل:2].
• ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ١٥﴾ [غافر:15].
• ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٢﴾ [الشورى:52].
• ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٢٢﴾ [المجادلة:22].
• ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ٨٧﴾.
هذا القليل من الكثير مما ورد في النص القرآني عن الروح مفهوما ودلالة ومعنى، ومن خلال التفكيك المعنوي للفظ وإعادة جمع وترصيف الدلالة الخاصة والعامة، نجد أن الروح كما وردت في النصوص مجملا ومختصرا هي (من أمر ربي)، بمعنى أن الروح وإن جاءت للتدليل على الحياة مثلا أو أنها أستخدمت كوسيط بين الله والخلق لترتيب خلق أو جعل ما، فأنها لا تلحق المجعول ولا المخلوق بالخضوع أو الطاعة أو السيطرة، وتبقى مرهونة التحرك والتغير والتبدل والسيطرة بأذن ربها طوعا وأمرا وأستجابة، ولا سلطان لأحد عليها غير من يملكها أو يتصرف بها في كل المواضع النصية التي وردت في القرآن، حتى المخلوقات ذوات الأرواح لا يمكن للمخلوقات هذه أن تتصرف بالروح أو يكون لها عليها سلطان، على العكس من النفس التي لا توجد إلا بعلة الروح، فمن لا روح له لا نفس له، بينما هناك روح بلا نفس.
بهذا الترتيب والأعتبار يمكننا أن نميز الروح عن النفس بالخصائص التالية:.
1. الروح سبب وعلة النفس.
2. الروح باقية بذاتها وجوهرها وماهيتها وترجع لله بنفس الحال دون أن تتغير بفعل وكسب المخلوق، بينما النفس مرهونة بحسب ما كسبت وإن كان في جميع الأحوال راجعة بمصيرها وليس بذاتها كالروح إلى الله، (يا أيها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية)، وهناك نفس لوامة وهناك نفس خاسر متحسرة على ما فرطت في وجودها.
3. الروح خير مطلق لأنها من الله وطبعها من طبيعة الله التي هي الحق والخير والرحمة، بينما النفس أمارة حمالة لوامة ضعيفة مجادلة... الخ، هذا يعني طبيعتها طبيعة المخلوق لا طبيعة الخالق.
4. النفس أبدية سرمدية لا تفنى ولا تهلك ولا يجري عليها ما يجري على المخلوقات من فناء وهلاك وموت، وبالتالي النفس تبعا للوعاء الذي تخرج منه فأنها هالكة مستهلكة فانية زائلة.
5. بناء على ما سبق فالكائن الحي عندما يهلك تهلك نفسه وتبقى روحه تتعامل مع الوجود، وكأنها ذات الكائن الهالك لكن بصورة أخرى، تتواصل وتتصل وتشهد على ما مر وما سيمر وما سيكون حتى يوم الجمع.
6. النفس في يوم الجمع هي من تتحاسب وليس الروح، يقول النص القرآني (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)، وقال أيضا (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ق (21).
إذن ومن خلال هذا الأستعراض نستطيع أن نجيب بسهولة عن السؤال الذي أثرناه في بداية المقال، وهو أنه لماذا الله أشترى من المؤمنين أنفسهم ولم يقول أشترى أرواحهم؟، الجواب (أن الله يشتري ممن يملك وقادر على البيع)، فالروح من الله وملكه وإليه تعود بأمرها ولا سلطان لأد عليها لا بيعا ولا شراء، ولكن النفس والمال هي ملك المؤمن ويعود له السلطان عليهما تصرفا وأمرا وتعبيرا، فالله أشترى من صاحب السلطان وهو المؤمن ما ملكه الله وجعل له عليه سلطان، وأن الروح وديعة حقيقة لله أستودعها في الجسد ليتمكن الكائن من أن يحيى ويثبت وجوده ويتصرف بما هو صاحب القدرة عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا