الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قارون بين الدين السياسي وتراكم رأس المال

طلعت خيري

2023 / 12 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


رغم اختلاف القران مع الطوائف الدينية الكتابية التي زامنت الدعوة القرآنية في القرن السادس الميلادي ، إلا انه لم يعتبرها من الوثنية ، إنما ادخلها ضمن دائرة الشرك بالله ، لأنها تستقطب القاعدة الجماهيرية للمصالح الطائفية ، التي تقدم لأتباعها الدنيا والآخرة على طبق من ذهب ، وبهذه المناورة السياسية انصاعت الشعوب لإرادة الدين السياسي ، الذي أصبح أيديولوجيا جماهيرية متجذرة في الفكر الطائفي ، ينظر لها تاريخيا وثقافيا وسياسيا ، قارون مثل ضربه الله للرأسماليين المكيين من بني إسرائيل ، احد طوائف الدين السياسي التي استخدمت المال للدعوة الدينية الدنيوية كمصدر لتراكم رأس المال ، فالقصة عبارة عن مقارنة بين فترتين زمنيتين ، الأولى قبل الميلاد فترة قارون في قومه ، عندما استخدم المال في تفكيك العقيدة الدينية ، كديناميكية للسعي وراء الأرباح عن طريق استثمار رأس المال في المشاريع الفاسدة ، التي تستقطب المتدينين ممن لديهم الرغبة بممارسة الأهواء والنزوات الدنيوية تحت غطاء ديني ، الفترة الثانية، فترة نزول القران حيث نقل التنزيل القصة من الماضي الغيبي الى حاضر الدعوة القرآنية لاطلاع الرأسماليين المكيين من بني إسرائيل على مصير قارون المخزي لاستلهام العبرة من استخدام المال للاستقطاب السياسي ، ان قارون من قوم موسى عاش حياة طبيعية مع قومه المؤمنين إلا ان التحول الرأسمالي الذي صادفه قلب موازين إيمانه الى الكفر بالله ، فبغى عليهم أي على قومه ، فاخذ يحارب الأعمال الصالحة عن طريق استثمار رأس المال في المشاريع الفاسدة ، واتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه ، مفاتحه تعدد مصادر ريع رأس المال ، ولكي يحافظ قارون على القيمة النقدية لرأس المال المتراكم حوله الى كنوز، فكنز المعادن والأحجار الكريمة والمجوهرات كل منهم في خزانة خاصة ، ولكثرة ما خزن ، أصبحت الخزانة الواحدة لتنوء بالعصبة أولي القوة ، يعجز الرجال أولي القوة عن حملها ، ولما رأى قوم ، ان قارون أضحى مهووسا بالمال ، قالوا له ، إذا قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76}

ان المؤمنين من قوم موسى ، كانوا أكثر عقلانية اتجاه التغيرات التي تطرأ على الحياة بشكل مفاجئ كالانهيار الاقتصادي، استلهموا تلك الحقيقة التاريخية من خلال الأمثال التي ضربها الله لموسى عن الانهيارات الاقتصادية التي أهلكت الأمم السابقة ، فأرادوا ان يوصلوا لقارون حكمة دنيوية ، لها أبعاد أخروية ، للتقليل من حدة تكالبه على المال ، وابتغ فيما أتاك الله الدارة الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، استثمر قارون أمواله في الخمارات وتجارة الجنس والربا وفساد الإرباح من الأنشطة الاقتصادية والتجارية على حساب طبقات المجتمع ، ولا تتبع الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77}

رغم النصائح الدينية والإرشادات التوعوية الاقتصادية ، التي قدمها المؤمنون لقارون للكف عن استثمار رأس المال في المشاريع الفاسدة ، إلا انه تحدى الله فقال ، إنما أوتيته على علم عندي ، بمعنى ان الله ليس له علم ولا دراية بالنظم الاقتصادية السليمة ومصادر الريع المالي ، فالمال هو من عندي ، وليس من عند الله ، أولم يعلم ، بمعنى هو يعلم ، بالمصير المخزي للأمم الرأسمالية السابقة ، التي جاء بها كتاب موسى لكنه تجاهلها ، أولم يعلم ان الله قد اهلك من قبله من القرون ، كانوا أكثر منه أموال ، وقوة اقتصادية وأكثر جمعا للأموال ، أولم يعلم ان الله قد اهلك من قبله من القرون من هو اشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسال عن ذنوبهم المجرمين

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78}

ضرب قارون النصائح الدينية والإرشادات الاقتصادية عرض الحائط ، مستخدما المال للاستقطاب السياسي ، عن طريق تفكيك القاعدة الجماهيرية عقائديا ، فظهر للجمهور بشكل علني، وبكل ما لديه من رفاهيته اقتصادية ، في رسالة سياسية مفادها على ان الدين لن يأتي بالمال ولا بالرفاهية الاقتصادية ، وانه مصدر الفقر والتخلف والحرمان ، فهذا التحول الميداني له إبعاد سياسية في تشكيل طبقة من الرأسماليين الجدد ، المدعومين بالمال لاستحداث مشاريع جديد تصب في تراكم رأس المال ، فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79}

وبهذه المناورة السياسية ، استقطب قارون شريحة من المجتمع ربما الفقراء أو الكادحين أو الشباب ، ولكن بالمقابل ظهر ند عقائدي قدم النصائح لمؤيدي قارون ، وقال الذين أتوا العلم أصحاب الإيمان والوعي الاقتصادي المستلهم من تجارب الأمم الرأسمالية السابقة ، ويلكم ثواب الله خيرا لمن امن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ، انهيار اقتصادية عظيم ، من لدن العظيم الباقي ، أنهى رأس مال قارون فخسفنا به وبداره الأرض ، والخسف هنا ليس إطاحة كلية مباشرة وبشكل مفاجئ ، إنما توالت علية الخسائر المالية والاقتصادية من كل مكان ، أفقدته الدار الذي يسكنه ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، لم يتمكن الرأسماليين من إنقاذه ، وما كان من المنتصرين ، ولم يتمكن من إنقاذ نفسه للنهوض من جديد

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ{80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ{81}

كان الانهيار المالي والاقتصادي دليل عقائدي للذين تمنوا مال قارون ، فلما رأوه فقد كل شيء حتى داره وأصبح وضعهم الاقتصادي والمالي أفضل منه بكثير، قالوا ، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ، يقولون ويكان الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا ان من الله علينا لخسف بنا ويكانه لا يفلح الكافرون

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{82}

انتهت الفترة الأولى التي ذكرنها أعلاه ، نأتي الى الفترة الثانية ، فترة نزول القران حيث نقل التنزيل قصة قارون من الماضي الغيبي الى حاضر الدعوة القرآنية ، لاطلاع الرأسماليين المكيين من بني إسرائيل على مصيره المخزي لاستلهام العبرة من استخدام رأس المال للاستقطاب السياسي ، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ، من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{83} مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{84}

الرأسمالية والدين السياسي وجهان لعملة واحدة لهما تاريخ عميق وطويل في استغلال الدين للمصالح الاقتصادية ، قصة قارون كانت البداية التاريخية للعمل المشترك في صياغة النصوص الدينية التوافقية بين الدين والسياسة والمال ، لرسم السياسات والمصالح التي تحافظ على الكيان الوجودي لكل طائفة ، ان الحنكة الانتقائية للنصوص الدينية ذات الطابع الرأسمالي استقطبت محمد وزعزعت إيمانه بالله واليوم الأخر، وأوشكت ان تدخله في دائرة الشرك بالله ، لولا ان صحح الله مساره العقائدي ، قال الله ، ان الذي فرض عليك القران لرادك الى معاد ، المعاد يوم القيامة ، قل يا محمد للرأسماليين أصحاب النصوص الدينية الرأسمالية ، ربي اعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ، التصحيح العقائدي لمحمد لإخراجه من تأثير النصوص الدينية الرأسمالية ، وما كنت ترجو ان يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكن ظهيرا للكافرين ، ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذا نزلت إليك ودع الى ربك ولا تكونن من المشركين ، ولا تدع مع الله ألها آخر ، لا اله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه واله الحكم واليه ترجعون

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{85} وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ{86} وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{87} وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{88}








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت