الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الأدب الجاهلي( النثر الجاهلي)

ابراهيم محمد جبريل
الشاعر والكاتب والباحث

(Ibrahim Mahmat)

2023 / 12 / 31
الادب والفن


النثر لغة: يقول صاحب اللسان: النثر نَثرُكَ الشيءَ بيدك ترمي به متفرقا مثل نثر الحبّ، إذا بُذر فالمعنى اللغوي يعني الشيء المبعثر (المتفرق) أي: لا يقوم على أساس من حيث الكيف والكم والاتساع.
النثر اصطلاحاً: هو الكلام الذي ليس فيه الوزن ، ومقفى بالأسجاع.
نشأة النثر الفني: يجد الباحث عنتا كبيرا حينما يحاول تحديد الوقت الذي نشأ فيه النثر الفني في اللغة العربية. إذ أن الباحثين الذين تصدوا لدراسة الأدب الجاهلي قد اضطربوا في تقدير الوجود الأدبي لعرب الجاهلية وبخاصة فيها يتعلق بالنثر، ولم يستطيعوا على الرغم من جهودهم ودراساتهم أن يصلوا في ذلك الموضوع إلى نتيجة ثابتة أو رأي موحد يمكن الاطمئنان إليه.
أقسام النثر: وهو على ضربين:
الضرب الأول: فهو النثر العادي الذي يقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضرب قيمة أدبية إلا ما يجري فيه أحيانا من أمثال وحكم،
الضرب الثاني: فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلى لغة فيها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يعني النقاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبيان ما مر به من أحداث وأطوار، وما يمتاز به في كل طور من صفات وخصائص.
تفرع النثر: يتفرع إلى جدولين كبيرين، هما:
1.الخطابة
2.الكتابة الفنية : ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني ـ وهي تشمل القصص المكتوب كما تشمل الرسائل الأدبية المحبرة، وقد تتسع فتشمل الكتابة التاريخية المنمقة
الحكم والاأمثال: قال المبرِّد: المثَل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر.
وقال ابن السِّكِّيت: المثل لفظ يخالِف لفظَ المضروب له ويوافق معناه.
وممن اشتهر بالحكمة من العرب: أكثم بن صيفي التميمي، وعامر بن الظرب العداوني، وهما
الخطابة:حديث يقصد به إثارة المشاعر وإلهاب العواطف في الحال. والحياة الجاهلية جعلت الخطابة ضرورية لهم، فهم في اجتماعاتهم وفي عرض آرائهم، ولا شك- يحتاجون إلى الإفصاح عما يريدونه؛ رغبة في الوصول إلى مقاصدهم وكلما كان إفصاحهم أقوى وأعذب كان تأثيره في القلوب أشد، فساعد ذلك على وجود الخطابة
وأشهر الخطباء في الجاهلية: قس بن ساعدة الأيادي، وقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم فرآه في سوق عكاظ على جمل أحمر، وسحبان بن وائل الباهلي الذي ضرب بفصاحته المثل. فقيل: "أخطب من سحبان" ويقال إنه كان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف ولا يقعد حتى ينتهي من كلامه.
ومن الخطب التي تحرض على القتال: خطبة هانئ بن قبيصة في يوم ذي قار، يحرض قومه
ومن كلمات الوفود: كلمة قبيصة بن نعيم في وفد بني أسد، حين قدموا على امرئ القيس بعد
ومن خطباء تميم المفوهين: أكثم بن صيفي، وضمرة بن ضمرة، ويروى أنه لما دخل على
الوصايا: الوصية بمعنى النصح والإرشاد والتوجيه، وهي قول بليغ مؤثر، ويتضمن حثًّا على سلوك طيب نافع، حبًا فيمن توجه إليه الوصية، ورغبة في رفعة شأنه وجلب الخير له. وعادة تكون من أولياء
سجع الكهان: وكانت الكهانة موجودة عند العرب في الجاهلية، وكان للكهان قداسة دينية، ونفوذ كبير، إذ كانوا يوهمون العامة بأنهم يعرفون الغيب عن طريق ما يتلقون من الجن، وكان الناس يتجهون إليهم
كانت في الجاهلية طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به الغد بما يلقي إليها
النثر الجاهلي: حين نتحدث عن النثر الجاهلي ننحّي النثر العاديَّ الذي يتخاطب به الناس في شئون حياتهم اليومية؛ فإن هذا الضرب من النثر لا يعد شيء منه أدبًا إلا ما قد يجري فيه من أمثال؛ إنما الذي يعد أدبًا حقًّا هو النثر الذي يقصد به صاحبه إلى التأثير في نفوس السامعين والذي يحتفل فيه من أجل ذلك بالصياغة وجمال الأداء، وهو أنواع، منه ما يكون قصصًا وما يكون خطابة وما يكون رسائل أدبية محبرة، ويسمي بعض الباحثين النوع الأخير باسم النثر الفني)(شوقي ضيف، بدون ت ص399)1
النثر الجاهلي:وظروف الحياة التي كان يعيش فيها الجاهليون كانت تدعوهم إلى القول، ولا شك أن هذه الظروف نتج عنها نثر لهؤلاء الموهوبين في صناعة الكلام وليس لديهم موهبة الشعر، وهم ولا شك كانوا أكثر عددًا من الشعراء، بدليل ما نعلمه، وما نشاهده في الأمم القديمة والحديثة في العصور السالفة وعصرنا الحاضر.
لقد كان للعرب اجتماعات خاصة وعامة، وعلى نطاق ضيق وعلى نطاق واسع، وكانت بينهم منافسات وتسابق في المفاخر، والأمجاد، والأفعال، والعادات، وحدثت بينهم مشكلات، وخصومات، وعداوات، كما كانت لهم تجارب في الحياة، فتكونت لديهم خبرات، كانوا يحبون -بطبيعة الحال- أن يضعوها بين أيدي من يحبون، لكي يستفيدوا بها في حياتهم، كل هذه المناسبات كانت تستدعي القول، ولسنا نعني القول العادي، كهذا الذي يتحدث به الشخص لقضاء مصالحه العاجلة، وحاجاته اليومية، إنما نقصد ذلك القول المؤثر الذي يحفل به صاحبه، ويودع فيه من طاقات الإثارة كل ما يستطيع.
فالقبيلة في مجتمعها الخاص، وبخاصة حينما ينتهون من مشاغلهم اليومية، ويجتمعون بالليل في مجالس السمر، ولا شك أنهم كانوا يتجاذبون أطراف الحديث فيما يجري من شئونهم أو شئون غيرهم، أو يستمعون إلى من أوتي حظًّا أوفر من القدرة على الكلام الفصيح، ولا شك أن أحسن ما كان يشوقهم أن يستمعوا إليه أحاديث الآباء والأجداد، وما كان لهم من مفاخر وأمجاد، ومن ثم لا بد أنه كان هناك قصص طريف يحاول فيه القصاص أن يستعيد الحوادث، ويسردها للسامعين بأسلوب شيق أخاذ، ولا ريب أن هؤلاء القصاصين قد اتخذوا من الحوادث الجارية، والأحداث السابقة مادة لقصصهم، ومن هنا وجدت قصص الأيام التي تحكي تاريخ الحروب بين الجاهليين، وقد حفلت بها كتب كثيرة من أهمها شرح النقائض لأبي عبيدة، وغني عن البيان أن ما يحكيه أبو عبيدة وأمثاله عن الأيام وغيرها مما يتصل بالجاهليين، ليس من نثر الجاهليين ولا يمثل أسلوبهم، إلا ما يجيء في ثنايا كلام المؤلفين من محفوظات بنصوصها تنسب إلى قائلين فهذه جاهلية بالطبع، كذلك حفلت كتب التاريخ القديم بقصص الجاهليين عن ملوك المناذرة، والغساسنة، والحميريين, والفرس، وغيرهم، وبأخبار سادتهم، ورؤسائهم، وكهانهم، وعشاقهم، وشعرائهم، وما كان لهم من أساطير)(علي الجندي ، 1991م ص 259)2
وهم في اتصالاتهم بعضهم ببعض، ومع غيرهم كانوا يتحدثون عن خبراتهم وتجاربهم في مختلف الاتجاهات، أو يتبارون في السيادة والشرف، أو في القوة والهيبة، أو في المكانة والاحترام، أو يتناقشون ويتبادلون الآراء لحل المشكلات وفض المنازعات، أو يتآلفون بالمحالفات أو المصاهرات، أو يزجون أوقات فراغهم بما يسر آذانهم ويمتع أفئدتهم، كل هذا هيأ فرصًا كثيرة لمن لديهم موهبة أدبية، وليست فيهم مقدرة شعرية لكي يمارسوا فنونًا أدبية نثرية متعددة. ومن ثم وردت لهم في كتب الأدب والتاريخ أنواع من النثر الأدبي، نجد منها: الحكم، والأمثال، والقصص، والمفاخرات، والمنافرات، والخطب، والوصايا، وسجع الكهان.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن النثر الجاهلي لم يلق من العناية والاهتمام مثل ما لقي الشعر، فما بقي منه ما زال مبعثرًا في بطون الكتب، وعند قراءته تبين أنه كان يوجد في جميع المناسبات ومختلف الظروف، ولكن إلى الآن لم نجد من اهتم بجمع هذا النثر وتحقيقه وتصنيفه ودراسته.
ولا شك أن هذا يحتاج إلى رغبة صادقة، وأناة، ومقدرة على البحث والدارسة، والقيام بذلك عمل عظيم يستحق أسمى التقدير. وفيما يلي عرض موجز لأهم ما ورد في كتب الأدب عن أنواع النثر الجاهلي بحسب طبيعة الكلام ومقصده.)(علي الجندي 1991م ص 259)3
الحكم والأمثال:
قال المبرِّد: المثَل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر.
وقال ابن السِّكِّيت: المثل لفظ يخالِف لفظَ المضروب له ويوافق معناه.
وقال إبراهيم النظَّام: يجتمع في المثل أربعٌ لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحُسن التشبيه، وجَودة الكناية؛ فهو نهاية البلاغة.
وقال ابن المقفَّع: إذا جعل الكلام مثَلًا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث)(شهاب الدين النويري ، 1423 هـ ج: ص 2.)4
الأمثال: إذا كان القصص الذي أضيف إلى الجاهليين لا يحمل لنا صورة دقيقة للنثر الجاهلي بحكم تأخره في التدوين؛ فإن الأمثال تحمل لنا غير قليل من هذه الصورة؛ إذ إن من شأنها أن لا تغير، وأن تظل طويلًا بصورتها الأصلية، بحكم إيجازها وكثرة دورانها على الألسنة. وقد سارع العرب إلى تدوينها منذ أواسط القرن الأول للهجرة؛ إذ ألف فيها صُحار العَبدي أحد النسابين في أيام معاوية بن أبي سفيان "41-60هـ" كتابًا كما ألف فيها عبيد بن شَرِيَّة معاصره كتابًا آخر، ويقول صاحب الفهرست: إنه رآه في نحو خمسين ورقة1. وإذا انتقلنا إلى القرن الثاني وجدنا التأليف في الأمثال يكثر؛ إذ أخذ علماء الكوفة والبصرة جميعًا يهتمون بها ويؤلفون فيها، وقد وصلنا عن هذا القرن كتاب أمثال العرب للمفضل الضبي. ونمضي إلى القرن الثالث، فيؤلف أبو عبيد القاسم بن سلام فيها كتابًا يشرحه من بعده أبو عبيد البكري باسم "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام" وما تزال المؤلفات في الأمثال تتوالى، حتى يؤلف أبو هلال العسكري كتاب "جمهرة الأمثال" ويخلفه الميداني، فيؤلف كتابه "مجمع الأمثال" وهو يقول في مقدمته إنه رجع فيه إلى ما يربو على خمسين كتابًا)(شوقي ضيف، ص404)5
ومن يرجع إلى هذه الكتب يجدهم يسوقون الكلمة السائرة التي تسمى مثلًا، ولا يكتفون بذلك؛ بل يقفون غالبا لسرد القصة أو الأسطورة التي تمخض عنها المثل، وقد تتمخض عن أمثال أخرى تروي في تضاعيفها. وموقفنا من هذه الأقاصيص والأساطير لا يختلف عن موقفنا من القصص الجاهلي بعامة؛ فنحن لا نتخذ منها صورة للنثر الجاهلي وإن اختلجت بروحه وطبيعته وحيويته، لنفس السبب الذي ذكرناه، وهو تأخر تدوينها، أما الأمثال نفسها فمن المحقق أن طائفة كبيرة مما روته الكتب السالفة يتحتم أن يكون جاهليًّا، وخاصة أكثر ما رواه عبيد بن شَرِيَّة، ولو أن كتابه لم يسقط من يد الزمن ووصلنا لاطمأننا إلى ما يرويه
من هذه الأمثال؛ غير أنه فُقد. ولم يحاول من جاءوا بعده أن يفردوا الأمثال الجاهلية من الإسلامية؛ إذ دَرَج أكثرهم على ترتيب الأمثال حسب الحروف الأولى على نحو ما ترتب المعاجم ألفاظها، فهم يرتبونها أو يؤلفونها في تسعة وعشرين بابًا بعدد أبواب الحروف الهجائية.
وبذلك أصبح من الصعب تمييز جاهليها من إسلاميها في كثير من الأحيان، ومع ذلك قد يورد أصحاب هذه الكتب مع ما يرونه من الأمثال إشارات تدل على جاهليتها وقدمها. وهي تتخذ عندهم طريقين: الطريق الأول: أن يسوقوا مع المثل قصة جاهلية تفسره، أو أن يساق هو في أثناء قصة جاهلية، كتلك الأمثال التي نقرؤها في قصة الزباء من مثل: "لا يطاع لقصير أمر" و "لأمر ما جدع قصير أنفه" و "بيدي لا بيد عمرو". وقد بلغت أمثال هذه القصة عند الميداني ثمانية عشر مثلًا. ومن هذا الطريق ما يتصل بأحداث أو أساطير جاهلية كالذي زعموا أن النعمان بن امرئ القيس اللخمي ابتنى قصرًا له يسمى الخَورنق، بناه له رومي يُسمى سِنمَّار؛ فلما أتمه قال له سنمار: إني أعرف موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال له النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ فقال: لا، فقال: لا جرم لأدَعَنَّها وما يعرفها أحد، ثم أمر به فرمي من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع؛ فضرب به الجاهليون المثل فقالوا: جزاء سنمار.
وأما الطريق الثاني: فهو أن ينسبوا المثل إلى جاهليين؛ فحينئذ يتعين زمنه وتاريخه، وهناك كثيرون اشتهروا فيهم بالحكم والأمثال السائرة، ومنهم من يغرق في القدم مثل لقمان عاد؛ تلك القبيلة اليمنية التي كانت تنزل في الأحقاف، والتي بادت ولم تبق منها باقية في الجاهلية، وقد ظل اسم لقمان يدور على ألسنة شعرائهم1 وظلوا يذكرونه بالحكمة والبيان والحلم. يقول الجاحظ: "من القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء لقمان عاد" وينص على أنه غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن الكريم2 كما ينص على ذلك المفسرون3. ولقدم لقمان حفت الأسطورة به وبحياته وكل ما يتصل بصلاته مع الناس والنساء؛ فقال الأخباريون إنه كان عملاقًا كبير الرأس قويًّا قوة) ( شوقي ، ص 405)6
خارقة حكيمًا حكمة بالغة. وقالوا: إنه عاش عُمْرَ سبعة نسور وأن كل نسر منها عاش ثمانيين سنة وكان لُبَد آخرها، وبه ضربوا المثل في طول العمر فقالوا "طال الأبد على لبد1". ونسبت إلى لقمان في عصور متأخرة طائفة من الأقاصيص أريد بها إلى العظة والاعتبار، سميت أمثال لقمان، وهي مكتوبة بأسلوب ركيك ضعيف وقد زعم هلر Heller كاتب مادة لقمان في دائرة المعارف الإسلامية أن شخصية لقمان مرت بثلاث مراحل:
"أ" مرحلة جاهلية وفيها يتراءى لقمان عاد الأسطوري الذي يقال إنه عاش عمر سبعة نسور، وكلما هلك منها نسر خلفه نسر آخر، حتى كان لُبَد الذي ذكره شعراؤهم كثيرًا.
"ب" مرحلة قرآنية: وفيها نجد للقمان سورة خاصة به في الذكر الحكيم وقد ربط بعض المفسرين بين لقمان هذا وبين بلعام حكيم بني إسرائيل فسردوا له نفس نسبه؛ إذ قالوا إنه لقمان بن باعور2 بن ناحور بن تارخ. "ج" مرحلة متأخرة: وهي مرحلة نسج فيها ولفق قصص كثير حول لقمان كما يصور ذلك كتاب "أمثال لقمان".
ومن المحقق أن "هلر" مخطئ فيما ذهب إليه من هذا التطور لشخصية لقمان، لسبب بسيط، وهو ما قلناه من أن قدماءنا فرّقوا بين لقمان عاد ولقمان القرآن الكريم؛ فهما ليسا شخصًا واحدًا بل هما شخصان، وبينما تعني بالأول كتب الأمثال نجد الثاني تعني به وبوصاياه كتب الفقه والتفسير مثل موطأ مالك وتفسير أبي حيان، وقد روى الجاحظ طرفًا من تعاليمه، وهي تطبع بطابع ديني
واشتهر في الجاهلية بينهم كثيرون بهذا اللون من الأمثال وما يتصل بها من حكم: يقول الجاحظ: "ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة، وعامر بن الظرب، ولبيد بن 4" وأحكمهم أكثر بن صيفي التميمي وعامر بن ظرب العدواني؛ فأما أكثم فكان من المعمرين) ( شوقي ضيف ص 406)7
ويقال: إنه لحق الإسلام، وحاول أن يعلن إسلامه فركب متوجهًا إلى الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم؛ غير أنه مات في الطريق. وتدور على لسانه حكم وأمثال كثيرة، وقد ساق السيوطي في المزهر طائفة منها نقلًا عن ابن دريد في أماليه، وهي تجري على هذا النسق:
"رُبَّ عُجلةٍ تهب رَيْثًا "ادَّرِعوا الليل فإن الليل أخفى للويل". "المرء يعجز لا محالة". "لا جماعة لمن اختلف لكل امرئ سلطان على أخيه حتى يأخذ السلاح؛ فإنه كفى بالمشرفية واعظًا". "أسرع العقوبات عقوبة البغي". "شر النصرة التعدي". "آلم الأخلاق أضيقها". "أسوأ الآداب سرعة العقاب". "رُبَّ قول أنفذ من صول"3. "الحرُّ حر وإن مسه الضر". "العبد عبد وإن ساعده الجد"4. "إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد". "رُبَّ كلام ليس فيه اكتتام". "حافظ على الصديق ولو في الحريق". "ليس من العدل سرعة العَذْل". "ليس بيسير تقويم العسير". "إذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة". "لو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم". "قد يبلغ الخضم بالقضم"5. "استأن أخاك فإن مع اليوم غدًا". "كل ذات بعل ستَئِيمُ" . "الحر عزوف". "لا تطمع في كل ما تسمع". وعامر مثل أكثم يدخل في المعمرين : ويقال إنه "لما أسنَّ واعتراه النسيان أمر ابنته أن تَقْرَعَ بالعصا إذا هو فَهّ عن الحكم وجار عن القصد. وكانت من حكيمات العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صُحَر بنت لقمان، وهند بنت الخُسّ، وجمعة بنت حابس. وقال المتلمس في ذلك:
لذي الحِلْم قبل اليوم ما تُقْرَعُ العَصَا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلا ليعلما "
وكان مثل أكثم حكمًا للعرب تحتكم إليه، وافتخر بذلك ذو الإصبع العدواني في بعض شعره فقال
ومنا حَكَمٌ يَقْضِي ... فلا يُنْقَضِي ما يَقْضِي
وتنسب إليه حكم ووصايا كثيرة لقومه.
على أن أكثر حكمهم وأمثالهم لا يعيِّنون قائلها، وهذا طبيعي لأنها تنبعث غالبًا من أناس مجهولين من عامة القبائل، ممن لا يمجدون ولا يحفل بهم الناس، وهم أيضًا لا يحفلون بأنفسهم لأنهم من العامة، والعامة عادة لا يهتمون بنسبة فضل إليهم. ولا بد أن نلاحظ أن بعض أمثالهم يخفي المعنى المراد منه، ومن أجل ذلك كان لا يفهم إلا بالرجوع إلى كتب الأمثال، كقولهم: "بعَيْنٍ ما أرينّك" فإن معناه: أسرع، وهو معنى لا يتبادر إلى السامع من ظاهر اللفظ، ومن ثم علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: "هو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعًا من غير أن يدل عليه لفظه2" ولا بد أن نلاحظ أيضًا أن الأمثال لا تتغير، فتقول: " الصيف ضيَّعتِ اللبن3" بكسر التاء إذا خاطبت الواحد والواحدة والاثنين والاثنتين والجماعة. ومن ثم كانوا يستجيزون في المثل مخالفة النحو وقواعد التصريف والجمع، ففي أمثالهم: "أعط القوسَ باريها4" بتسكين الياء في باريها والقياس فتحها، وفيها أيضًا: "أجناؤها أبناؤها" جمع جان وبان، والقياس. "جُناتها بُناتها" لأن فاعلًا لا يجمع على أفعال. (شوقي ضيف ص 407)8
وإذا كانت بعض الأمثال تخالف نظام التصريف والنحو فإن الكثرة الكثيرة لا تشذ على هذا النظام؛ بل إن طائفة تدخل في الصياغة الجاهلية البليغة إذ نطق بها بعض بلغائهم وفصحائهم من أمثال أكثم بن صيفي، وعامر بن الظرب، وكان خطباؤهم المفوهون كثيرًا ما يعمدون إلى حشدها في خطابتهم، يقول الجاحظ: "كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعًا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع5" وتبع شعراؤهم خطباءهم يودعونها أشعارهم. ومن ثم كنا نجد كثيرًا منها يتم له لحنه الموسيقي؛ فإذا هو شطر
(أحمد شوقي ضيف ص 408)9
أو بيت. وكثيرًا ما نلاحظ في بعض عباراتها احتفالًا بتوازن الكلمات توازنًا ينتهي بها إلى السجع كما نلاحظ في بعض جوانبها اهتمامًا بالتصوير، ومن أجل ذلك يقول النَّظَّام إنها: " نهاية البلاغة لما تشتمل عليه من حسن التشبيه وجودة الكناية" واقرأ هذه الأمثال:
"تجوع الحُرَّةُ ولا تأكل بثَدْيَيْها" المقدرة تُذْهب الحفيظة". "مقتل الرجل بين فكيه" "إن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه". "من استرعى الذئب ظلم". "في الجريرة تشترك العشيرة "ويأتيك بالأخبار من لم تزود"5. "كذي العُرّ يكوي غيره وهو راتع "استنوق الجمل "كالمستجير من الرمضاء بالنار "حلب الدهر أشطره" "يَخْبِط خَبْط عَشْواء المنية ولا الدنية تحت الرغوة اللبن الصريح هدنة على دخن رمتني بدائها وانسلت.
فإنك تحس جمال الصياغة وأن صاحب المثل قد يعمد إلى ضرب من التنغيم الموسيقي للفظه؛ فإذا هو يسجع فيه أو إذا هو ينظمه شطرًا من بيت. وقد يعمد إلى ضرب من الأخيلة، ليجسِّم المعنى ويزيده حدة وقوة. والحق أن كل شيء يؤكد أن العرب في الجاهلية عنوا بمنطقهم واستظهار ضروب من الجمال فيه، سواء ضربوا أمثالهم أو تحدثوا أو خطبوا، وقد وصفهم جل وعز أو وصف فريقًا منهم بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكأنما أصبحت المقدرة البيانية عندهم سليقة من سلائقهم؛ ولذلك لم يكن عجبًا أن تكون آية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم على صدق رسالته معجزة بلاغية لا يستطيعون أن يجاروها هي القرآن الكريم {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (شوقي ضيف ص 409)10
والحكمة قول رائع يتضمن حكمًا صحيحًا مسلَّمًا به، أما المثل فهو قول يشبه مضربه بمورده فهو يقصد به تشبيه الحال التي حكي فيها بالحال التي قيل بسببها، ولذلك يحكى المثل بلفظه كما هو بدون تغيير مهما كان نوع الخطاب أو نسق الكلام.
وكل من الحكمة والمثل، عبارة قصيرة بليغة، ولكنها غاية في تأدية المعنى المقصود. وكل منهما يكون شعرًا، ويكون نثرًا، لكنهما في النثر أكثر دورانًا، ولذلك يعدان في النثر. وهما ثمار ناضجة من ثمرات الاختبار الطويل، والتجربة الصادقة، والعقل الراجح، والرأي السديد.
وكثيرًا ما تقتبس الحكم والأمثال، وتوضع في الأقوال والأشعار، فتضفي على الكلام زينة؛ فوق ما تؤديه من إصابة المعنى وحسن التشبيه، ولذلك كان من الأدباء من نظم قصائد، كلها حكم وأمثال كأرجوزة أبي العتاهية التي سماها "الأمثال) (علي الجندي 1991م ص 260)11
وممن اشتهر بالحكمة من العرب: أكثم بن صيفي التميمي، وعامر بن الظرب العداوني، وهما من المعمرين، وكانت العرب تحتكم إليهما، ويقال إن عامر بن الظرب لما كبر واعتراه النسيان أمر ابنته أن تقرع بالعصا إذا جار عن القصد وكانت ابنته من حكيمات العرب مثل هند بنت الخس.
ومن أقوال أكثم: "ويل للشجي من الخلي، لم يذهب من مالك ما وعظك، رب عجلة تهب ريثًا، ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل، إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، ليس من العدل سرعة العذل، لا تطمع في كل ما تسمع، رب قول أنقذ من صول، حافظ على الصديق ولو في الحريق".
ومن أقوال عامر بن الظرب: "رب زارع لنفسه حاصد سواه، من طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه".
ولا بد للأمثال من أصل تكون قد جاءت بسببه، وقد يكون ذلك الأصل حقيقيًّا، وقد يكون فرضيًّا، وذلك إن قيل عن حيوان أو نبات أو جماد وتسمى أمثال النوع الأول حقيقة والأخرى فرضية.
ومن الأمثال الحقيقة: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" يضرب في صيانة الشخص نفسه عن خسيس الكسب، وهو للحارث بن سليل الأسدي، "وسبق السيف العذل". ويضرب للفائت يستحيل تداركه، وقائله ضبة بن أد بن طابخة. وكتب الأمثال في العادة تذكر المثل وقائله وتشرح السبب الذي قيل من أجله. ومن الأمثال الفرضية: "كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك" يضرب لمن لا يجاب إلى عهد لظهور آثار غدره. ويأتي هذا في خرافة الحية والفأس التي تقول4: "إن أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما فأجدبت بلادهما، وكان قريبًا منها واد فيه حية، قد حمته من كل أحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان لو أني أتيت هذا الوادي المكلئ فرعيت فيه إبلي وأصلحتها.
(علي الجندي 1991م ص 261)12
ومن ذلك ما حدث من هرم بن قطبة الفزاري حين نفر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريان، فقد روي: أن عامرًا وقف لعلقمة يومًا، فجعل ينازعه الشرف في قومه، وتفاقم بينهما الأمر، فكان مما قاله عامر: والله لأنا أشرف منك حسبًَا، وأثبت منك نسبًا، وأطول قصبًا! قال علقمة: أنا فرك، وأنا أشرف منك أمة، وأطول قمة، وأبعد همة. وطال بينهما الكلام. فتواعدا على الخروج إلى من يحكم بينهما. وجعلا يطوفان الأحياء. وهاب الناس أن يحكموا بينهما. خيفة أن يقع في حييهما الشر. حتى دفعا إلى هرم بن قطبة الفزاري "وهو غير هرم بن سنان المري ممدوح زهير". فلما علم بأمرهما، أمر بنيه أن يفرقوا جماعة الناس تفاديًا للفتنة، وجعل يطاولها، ويخوف كل واحد منهما من صاحبه حتى لم يبق لواحد منهما هم سوى أن يسوي في حكمه بينهما، ثم دعاهما بعد ذلك، والناس شهود، فقال لهما: أنتما كركبتي البعير، تقعان إلى الأرض معًا، وتقومان معًا". فرضيا بقوله، وانصرفا عنه إلى حييهما.
وقد عمر هرم هذا إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عمر: أيهما كنت منفرًا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لو قلتها الآن لعادت جذعة "يعني الحرب أو الفتنة" فقال له عمر: "إنك لأهل لموضعك من الرياسة)(علي الجندي 1991م ص 261)13
فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته. قال: فوالله لأهبطن، فهبط ذلك الوادي. فرعى إبله زمانًا، ثم إن الحية لدغته، فقتلته. فقال أخوه: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبن الحية فأقتلها، أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي، فطلب الحية لقتلها، فقالت: ألست ترى أني قتلت أخاك، فهل لك في الصلح، فأدعك بهذا الوادي، فتكون به، وأعطيك ما بقيت دينارًا كل يوم، قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم. قال: فإني أفعل. فحلف لها وأعطاها المواثيق: لا يضيرها. وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله ونمت إبله، حتى كان من أحسن الناس حالًا، ثم إنه ذكر أخاه، فقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي فلان؟ فعمد إلى فأس، فأخذها، ثم قعد لها، فمرت به، فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر. فرمى الفأس بالجبل فوقع فوق جحرها، فأثر فيه. فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه، ولما رأى ذلك تخوف شرها وندم، فقال: هل لك أن نتوافق، ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك".
وقد تتضمن القصة الواحدة أكثر من مثل، سواء كانت حقيقية أو فرضية كما في حادثة الزباء وقصير5، فقد ذكروا فيها أقوالًا كثيرة ذهبت أمثالها، منها، "لأمر ما جدع قصير أنفه" و "بيدي لا بيد عمرو" ومن ذلك ما تزعمه العرب من أن أرنبًا التقطت تمرة، فاختلسها ثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل. قال: سميعًا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلًا حكمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت تمرة. قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب. قال: لنفسه بغى الخير. قالت: فلطمته. قال: بحقك أخذت. قالت: فلطمني. قال: حر انتصف. قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت، فذهبت أقواله كلها أمثالًا.
وقد عني العرب بالأمثال، فألفت فيها كتب كثيرة، منها كتاب صحار العبدي أحد النسابين في أيام معاوية بن أبي سفيان. وكتاب آخر لمعاصره عبيد بن شرية ومنها كتاب أمثال)(علي الجندي 1991م ص 261)14
الخطابة: الخطابة حديث يقصد به إثارة المشاعر وإلهاب العواطف في الحال. والحياة الجاهلية جعلت الخطابة ضرورية لهم، فهم في اجتماعاتهم وفي عرض آرائهم، وفي القيام بواجباتهم في السفارات والوفود كانوا -ولا شك- يحتاجون إلى الإفصاح عما يريدونه؛ رغبة في الوصول إلى مقاصدهم وكلما كان إفصاحهم أقوى وأعذب كان تأثيره في القلوب أشد، فساعد ذلك على وجود الخطابة بينهم.
وقد ثبت أنهم كانوا يخطبون في مناسبات شتى، فبالخطابة كانوا يحرضون على القتال؛ استثارة للهمم، وشحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شن الغارات؛ حبًّا في الغنيمة، أو بثًّا للحمية رغبة في الأخذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسلم؛ حقنًا للدماء، ومحافظة على
أواصر القربى أو المودة والصلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويبغضون في الشر والتباغض والتنابذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات جلبًا لمنفعة، أو درءًا لبلاء، أو تهنئة بنعمة، أو تعزية أو مواساة في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه هذه المصاهرات، فتلقى الخطب ربطًا لأواصر الصلة بين العشائر، وتحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض.
وأشهر الخطباء في الجاهلية: قس بن ساعدة الأيادي، وقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم فرآه في سوق عكاظ على جمل أحمر، وسحبان بن وائل الباهلي الذي ضرب بفصاحته المثل. فقيل: "أخطب من سحبان" ويقال إنه كان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف ولا يقعد حتى ينتهي من كلامه.
ومن خطباء تميم المشهورين: ضمرة بن ضمرة، وأكثم بن صيفي، وعمرو بن الأهتم المنقري، وقيس بن عاصم.
وكان الخطباء يحفلون بخطبهم، ويتخيرون لها أشرف المعاني، وأقوى الألفاظ، وأشدها وقعًا على القلوب؛ ليكون تأثيرها أعظم، ويقال إنهم كانوا يخطبون، وعليهم العمائم، وبأيديهم المخاصر، ويعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصي والقنا، راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض
وقد أثارت الشعوبية في موقفها من العرب عادة اتخاذهم العصي والمخاصر في أثناء خطابتهم، فرد عليهم الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، مبينًا فوائد العصا، ومما قاله: "إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة. وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها، والإشارة بها
ومن الخطب التي تحرض على القتال: خطبة هانئ بن قبيصة في يوم ذي قار، يحرض قومه بكرًا على القتال، ومنها: "يا معشر بكر، هالك معذور خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من
استدباره، الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا من بد".
ومن كلمات الوفود: كلمة قبيصة بن نعيم في وفد بني أسد، حين قدموا على امرئ القيس بعد مقتل أبيه، فيروى أنه وفد على امرئ القيس، بعد مقتل أبيه، رجالات من بني أسد، كهول وشبان، وفيهم عبيد بن الأبرص الشاعر، والمهاجر بن خداش، وقبيصة بن نعيم، فلما علم امرؤ القيس بمكانهم، أمر بإنزالهم، وتقدم في إفضالهم، والإكرام عليهم، واحتجب عنهم ثلاثًا، فقالوا لمن يباريه من رجال كندة: ما بال الرجل لا يخرج إلينا؟ فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من العدة والسلاح، فقالوا: اللهم غفرًا! إنما قدمنا عليه في أمر نتناسى به ذكر ما فات، ونستدرك ما فرط. فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء9، وخف، وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في الترات.
فلما رأوه نهضوا، وبدر قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر، والمعرفة بتصرف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتنتقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ، ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، والرجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك، فوجدت عندك من فضيلة الرأي، وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباتها، ويستغرق طلباتها؛ وقد كان الذي كان من الخطب الجليل. الذي عمت رزيته نزارًا واليمن، ولم تخصص به كندة دوننا؛ للشرف البارع الذي كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد، وطيب الشيم ولو كان هالك يفدى بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا ترجع أولاه على آخره ولا يلحق أقصاه أدناه، فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فقدناه إليك بنسعة11تذهب12مع شفرات حسامك بباقي قصرته13: فيقال: رجل امتحن بهلك عزيز عليه فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، وكان ذلك فداء ترجع به القضب إلى أجفانها، لم يردده تسليط الإحن على البرآء، وإما أن تواعدنا حتى تضع الحوامل، فنسدل الأزر، ونعقد الخمر فوق الرايات.
قالوا: فبكى امرؤ القيس ساعة؛ ثم رفع طرفه إليهم، فقال: قد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض به ناقة أو جملًا، فأكتسب بذلك سبة الأبد، وفت العضد؛ وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد، تحمل في القلوب حنقًا14وفوق الأسنة علقًا .
إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار16، لحرب وبلية، ومكروه وأذية. ثم نهضوا عنه، وقبيصة يقول متمثلًا:
لعلك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر(علي الجندي 1991م ص 266)15
فقال امرؤ القيس: لا، والله لا أستوخمه، فرويدًا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة؛ وكتائب حمير! ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلًا بربعي، ومتحرمًا بزمامي، ولكنك قلت فأجبت، قال قبيصة إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: فهو ذاك، وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص:
يا ذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالًا وحينا
هلا على حجر بن أم قطام تبكي لا علينا
نحن الألى فاجمع جموعك ثم وجههم إلينا
نحمي حقيقتنا وبعض القوم يسقط بين بينا
ونجد أمثلة من خطب الجاهليين في كتب الأدب والتاريخ؛ مثل العقد الفريد لابن عبد ربه؛ والأغاني؛ والأمالي؛ والبيان والتبيين للجاحظ، وفتوح الشام لأبي إسماعيل البصري، وفتوح الشام للواقدي، وفتوح البلدان للبلاذري وتاريخ الطبري، وابن الأثير) (علي الجندي 1991م ص 267)17
الخطابة: ليس بين أيدينا نصوص وثيقة من الخطابة الجاهلية، لما قلناه من بعد المسافة بين العصر الذي قيلت فيه عصور تدوينها؛ ولذلك كان ينبغي أن نحترس مما رواه منها صاحب الأمالي وصاحب العقد الفريد، فأكثره أو جمهوره منحول؛ على أن اتهامنا لنصوصها لا ينتهي بنا إلى إنكارها على الجاهليين؛ بل إنه لا ينتهي بنا إلى إنكار ازدهارها كما حاول بعض الباحثين؛ فقد كان كل شيء عندهم يؤهل لهذا الازدهار؛ إذ لم يكن ينقصهم شيء من الحرية، وكثرت المنازعات والخصومات بينهم والدعوة إلى الحرب مرة وإلى العلم مرة أخرى. وقد اتخذوا من مجالسهم في مضارب خيامهم ومن أسواقهم ومن ساحات الأمراء ووفاداهم عليهم ميادين لإظهار براعتهم وتفننهم في المقال وحوك الكلام. وأسعفتهم في ذلك ملكاتهم البيانية وما فطروا عليه من خلابة ولسن وبيان وفصاحة وحضور بديهة؛ حتى ليقول الجاحظ: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام.. عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا "أفواجًا" وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا.. وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر.. من غير تكلف ولا قَصْد ولا تحفظ ولا طلب"(شوقي ضيف، ص 410)17
وكل ذلك عمل على ازدهار الخطابة في الجاهلية، وأن تتناول أغراضًا مختلفة؛ فقد استخدموها في منافراتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والمآثر والمناقب، كمنافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل إلى هرم بن قطبة الفزاري3 ومنافرة القعقاع بن معبد التميمي وخالد بن مالك النهشلي إلى ربيعة بن حذار الأسدي1 واستخدموها في الحض على القتال وبعث الوجدة في نفوس قبائلهم ودفعها إلى نيران الحرب وتراميهم في أوارها كأنهم الفراش، يقول أبو زُبَيْد الطائي2:
وخطيبٍ إذا تمعَّرتِ الأَوْ ... جُهُ يومًا في مَأْقِطٍ مشهودِ
ويقول عامر المحاربي في مديح قومه:
وهم يَدْعَمُونَ القولَ في كل موطنٍ ... بكل خطيبٍ يترك القوم كُظَّما
يقول فلا يَعْيا الكلامَ خطيبُنا ... إذا الكربُ أَنْسى الجِبْسَ أن يتكلما
وكما كان يدعو خطباؤهم إلى الحرب وسفك الدماء كانوا يدعون إلى الصلح وإصلاح ذات البين، وأن تضع الحرب أوزارها، يقول ربيعة بن مقروم الضبي:
ومتى تَقُمْ عند اجتماع عشيرةٍ ... خطباؤنا بين العشيرة يُفْصَلِ
وكانوا كثيرًا ما يخطبون في وفادتهم على الأمراء؛ إذ يقف رئيس الوفد بين يدي الأمير من الغساسنة أو المناذرة؛ فيحييه متحدثًا بلسان قومه. وفي السيرة النبوية ما يصور جانبًا من هذه الوفود؛ إذ وفد كثير منها على الرسول منذ السنة الثامنة، وكان يقوم خطيب الوفد بين يديه متحدثًا، ويرد عليه خطيب الرسول على نحو ما هو معروف عن وفد تميم وخطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يديه . وكان ذلك سنة شائعة بينهم في الجاهلية حين يفدون على الأمراء أو على من له رياسة وسيادة، يقول أوسل بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة :
أبادُ لَيْجَةَ من يَكْفي العشيرةَ إذ ... أمسوا من الخَطْبِ في نارٍ وبَلْبَالِ
أم من يكون خطيبَ القوم إذ حَفلوا ... لدى الملوك ذوي أيدٍ وأَفْضال )(شوقي ضيف ص 411)18
وقد يَنْبرون في الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قُسٍّ وخطبته بسوق عكاظ. وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظرب وأكثم بن صيفي. وكان من عادتهم في الزواج، وخاصة زواج أشرافهم وأبنائهم أن يتقدم عن الخاطب سيد من عشيرته، يخطب باسمه الفتاة التي يريد الاقتران بها، وخطبة أبي طالب للسيدة خديجة للرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، مشهورة. ويقول الجاحظ: "كانت خطبة قريش في الجاهلية -يعني خطبة النساء-: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت" ويقول كان من عادة العرب في هذه الخطبة أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب ويتحدث عن خطابتهم عامة فيقول: "اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المَدَر والوبر والبدو والحضر على ضربين منها الطول، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به وموضع. يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان والنتف الجياد.. ووجدنا عدد القصار أكثر ورواة العلم إلى حفظها أسرع"
وليس كل ما يدل على ازدهار الخطابة في الجاهلية ما رأيناه آنفًا من تعدد أنواعها وخوضها في أغراض مختلفة من المصاهرة أو الوفادة على الأمراء أو النصح والإرشاد أو الدعوة إلى الحرب أو الكف عن القتال أو في المنافرات والمفاخرات؛ فقد استقر في نفوس العباسيين وعلى رأسهم الجاحظ أنهم كانوا يكثرون من الخطب وأن قبيلة من القبائل بل عشيرة من العشائر لم تكن تخلو من خطيب، وهو يسوق في البيان والتبيين أثباتًا طويلة بأسمائهم ومواقفهم مُوردًا من حين إلى حين فقرًا وشَظايا من أقوالهم. ولعل من الخير أن نعرض أطرافًا من ذلك، حتى تتضح لنا هذه النهضة الخطابية عندهم من بعض وجوهها؛ وخاصة أننا لا نطمئن إلى ما يروى لهم في كتب الأدب والتاريخ من خطب، ومن ثم سنعمد عمدًا إلى سرد أسماء خطبائهم من جهة وإنشاد بعض الأشعار التي تصور بيانهم وبراعتهم في هذا اللون من ألون نثرهم، لما هو معروف من أن الشعر يمكن أن ينقل عن طريق الرواية آمادًا من الأزمنة بفضل ما فيه من موسيقى تحفظه من الاضطراب على ألسنة الرواة)( شوقي ضيف ص 412)19
وتحولُ بينه وبين دخول خلل واسع في صُوَره الأصلية.
وإذا رجعنا نستعرض أسماء خطبائهم وجدنا البيان والتبيين يموج بهم من مثل: قيس بن شماس في يثرب، وابنه ثابت وهو خطيب النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم. ومن خطباء الأنصار أيضًا: سعد بن الربيع، وهو الذي اعترضت ابنته النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم؛ فقال لها: "من أنت؟ " قالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد سعد بن الربيع، أما مكة فمن قدماء خطبائها هاشم وأمية، ونُفيل بن عبد العُزى جد عمر بن الخطاب، وإليه تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية2. ويظهر أنه كان بها خطباء كثيرون، وربما كان مما هيأ لكثرتهم وجود دار الندوة بها، وهي تشبه مجلس شيوخ مصغر، كانوا يجتمعون فيها ويخطبون ويتحاورون، وممن عرف فيها بالخطابة عتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو الأعلم، وهو الذي قال فيه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "يا رسول الله، انزع ثنيتيه4 السُّفليين حتى يُدْلَع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا" فقال الرسول عليه السلام: "لا أمثل فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًّا، دعه يا عمر؛ فعسى أن يقوم مقامًا تحمده"وممن اشتهروا بالخطابة في القبائل عامر بن الظرب في عدوان، وربيعة بن حذار في أسد، وحنظلة بن ضرار في ضبة، وقد طال عمره حتى أدرك يوم الجمل، وعمرو بن كلثوم في تغلب، وهانئ بن قبيصة في شيبان، وهو خطيب يوم ذي قار، وزهير بن جناب في كلب وقضاعة، وابن عمار في طيء، وهو خطيب مذحج كلهاومن خطبائهم لبيد بن ربيعة العامري، ومن قوله:
وأَخْلُفُ قُسًّا ليتني ولو انني ... وأُعْيا على لقمانَ حكمَ التدبُّر
وهَيْذان بن شَيْخ الذي قال فيه الرسول صلوات الله عليه: ربَّ خطيب عبس، وخُوَيْلد بن عمرو والعُشَراء بن جابر الغطفانيان، ومن خطباء غطفان أيضًا قيس بن خارجة بن سنان الذي خطب في حرب داحس والغبراء)( شوقي ضيف، ص 413)20
ومًا إلى الليل وهَرِم بن قطبة الفزاري الذي احتكم إليه علقمة بن عُلاثة وعامر بن الطفيل؛ فقال لها، كما مر بنا: "أنتما كركبتي البعير الأدْرَمِ -الفحل- تقعان على الأرض معًا"
ومن خطباء تميم المفوهين: أكثم بن صيفي، وضمرة بن ضمرة، ويروى أنه لما دخل على النعمان بن المنذر زَرَى عليه للذي رأى من دمامته وقصره وقلته؛ فقال للنعمان: "تسمع بالمعيدي لا أن تراه" فقال: أبيتَ اللَّعن! إن الرجال لا تُكال بالقُفْزان ولا توزن بالميزان، وليست بمُسوكٍ5 يُسْتَقَى بها، وإنما المرء بأصغريه: بقلبه ولسانه، إن صال صال بِجَنَان، وإن قال قال ببيان" ومن خطباء تميم أيضًا عطارد بن حاجب بن زرارة وهو خطيب وفدها، كما مرَّ بنا، بين يدي الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري، ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه ويروى أن الرسول سأله عن الزبرقان بن بدر فقال "مانع لحوزته، مطاع في أدنيه" فقال الزبرقان: "أما إنه قد علم أكثر مما قاله، ولكنه حسدني شرفي" فقال عمرو: "أما لئن قال ما قال؛ فو الله ما علمته إلا ضيق الصدر، زَمِرُ المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى؛ فلما رأى أنه قد خالف قوله الآخر قوله الأول ورأى الإنكار في عيني رسول الله قال: "يا رسول الله! رضيت فقلت: أحسن ما علمت، وغضبت فقلت: أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة" فقال رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، عند ذلك: "إن من البيان لسحرًا" . ومن خطباء بني منقر التميميين أيضًا قيس بن عاصم الذي قال فيه الرسول، صلوات الله عليه، حين رآه: "هذا سيد أهل الوبر" ، وهو الذي قال فيه عبدة بن الطبيب حين مات :
وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْك واحدٍ ... ولكنهُ بُنْيانُ قومٍ تهدَّما
ومن خطباء إياد قس بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وَعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت" . ويقول الحاحظ: "ولإياد خَصْلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، هو الذي رَوَى كلام قس بن ساعدة، وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش وللعرب، وهو الذي عجب من حُسنه وأظهر من تصويبه، وهذا إسناد تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال" على أن ابن حجر اتهم هذا الإسناد3، وخاصة بعد توسُّع الرواة في خطبة قس وتحميلهم لها إشارات بقرب مبعث الرسول عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن لها أصلًا صحيحًا تزيد فيه الرواة.
وواضح أن هذه كثرة من الخطباء الجاهليين، إن لم يصح ما أثر عنهم من خطب فإن من المحقق أنهم خطبوا كثيرًا في أقوامهم وقبائلهم، وإلا ما اشتهروا بالبراعة في هذا اللون من ألوان اللَّسنِ والبيان. وكان مما بعثهم على إحسانه حاجتهم إليه في مواطن ومواقف عدة، وكان قلما يرتفع نجم سيد من سادتهم إلا والخطابة صفة من صفاته وسجية من سجاياه؛ حتى تساق له القلوب بأزمتها وتجمع له النفوس المختلفة من أقطارها. وكل شيء يؤكد أن منزلة الخطيب عندهم كانت فوق منزلة الشاعر؛ فهي قرين السؤدد والشرف والرياسة، يقول أبو عمرو بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيِّد عليهم مآثراهم، ويفخم شأنهم، ويهوِّل على عدوهم ومَنْ غزاهم، ويهيِّب من فرسانهم، ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوق، وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"4 وعلى هدي هذا القول مضى الجاحظ يقول: "كان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر (أحمد ضيف الشهير ص 415)21
وربما كان من أسباب ذلك أن الشاعر-إذا استثنينا زهيرًا- كان هو الذي يهيج النفوس للحرب بما يدعو للأخذ بالثأر، أما الخطيب فكان غالبًا يدعو إلى السلم وأن تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، وكثيرًا ما يقف من قومه موقف الناصح الأمين يهديهم ويرشدهم، أما الشاعر فأكثر مواقفه هجاء وتنابذ بالألقاب والأحساب والمآثر والمعايب.
وقد تعارف خطباؤهم على جملة من السنن والتقاليد في خطابتهم؛ فكانوا يخطبون على رواحلهم في الأسواق العظام والمجامع الكبار، وقد لاثوا العمائم على رءوسهم. وفي أثناء خطابتهم كانوا يمسكون بالعصى والمخاصر والقضبان والقنا والقسي راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض، وأشار إلى ذلك لبيد إذ يقول:
ما إِن أَهابُ إِذا السُرادِقُ عَمَّهُ ... قَرعُ القِسيِّ وَأُرعِشَ الرِعديدُ
ووقفت الشعوبية طويلًا عنده عادة خطباء العرب من اتخاذ العصي والمخاصر وردَّ عليهم الجاحظ في بيانه مبينًا فوائد العصا، ومن قوله في تلك العادة: "إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة؛ وذلك شيء خاص في خطباء العرب ومقصور عليهم ومنسوب إليهم؛ حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفًا لها وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها والإشارة بها"3 وكانوا يمدحون في الخطيب ثبات الجنان وحضور البديهة وقلة التلفت وكثرة الريق وجهارة الصوت وقوته، وكانوا يعيبون فيه التنحنح والارتعاش والحصَر والتعثر في الكلام، يقول النمر بن تولب:
أَعِذني رَبِّ مِن حَصَرٍ وَعيٍ ... وَمِن نَفسٍ أُعالِجُها عِلاجا
ويقول أبو العيال الهذلي:
وَلا حَصِرٌ بِخُطبَتِهِ ... إِذا ما عَزَّتِ الخُطَبُ
وذموا في الخطيب أن يكثر من مسه لذقنه وشواربه ولحيته، وكأنما رأوا في ذلك
(شوقي ضيف ص416)22
ضربًا من الخرق في استخدام الجوارح، يقول معن بن أوس المزني في بعض هجائه1:
إِذا اجتَمَع القبائل جِئتَ رِدفًا ... وَراءَ الماسِحينَ لَكَ السِبالا
فَلا تُعطى عَصا الخَطباءِ فيهِم ... وَقَد تُكفى المقادَةَ وَالمَقالا
وكثيرًا ما كانوا يتزيدون في جهارة الصوت وينتحلون سعة الأشداق وهدَل الشفاه، ومن أجل ذلك قال الرسول، صلوت الله عليه: "إياي والتشادق" وقال: "أبغضكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقُونَ" 3.
وإذا ذهبنا نستنطق النصوص عن أساليب خطابتهم، وهل كانوا يعمدون فيها إلى الأسلوب المرسل أو إلى الأسلوب المسجَّع؛ وجدنا أنفسنا بإزاء تراث متهم لا يمكن الاعتماد عليه في الاستنتاج، لما قلنا مرارًا من أن حقبًا متطاولة تفصل بين العصر الذي دونت فيه تلك الخطب والآخر الذي قيلت فيه. ومع أن الكثرة الكثيرة من هذه الخطب منتحلة نلاحظ أن من نحلوها الجاهليين؛ إنما قاسوها على أمثلة رويت لهم؛ فإذا لاحظنا أن أكثر مفاخراتهم ومنافراتهم روي مسجوعًا، كان معنى ذلك أنه ثبت عند من نحلوا الجاهليين هذه المفاخرات والمنافرات أنهم كانوا يسجعون فيها. وتستطيع أن ترجع إلى منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية وتحكيمهما لنفيل بن عبد العزى في تاريخ الطبري فستجدها مسجوعة، ومثلها منافرة جرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس؛ فقد رويت في شرح نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة، وهي مسجوعة5، ومثلهما منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل المروية في كتاب الأغاني؛ فهي الأخرى مبنية على السجع . ويجعل الجاحظ ذلك قاعدة عامة أو كالقاعدة العامة؛ فيقول: "إن ضمرة بن ضمرة وهَرِم بن قطبة والأقرع بن حابس ونُفَيْل بن عبد العزى كانوا يحكمون وينفرون بالأسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار (شوقي ضيف، ص 417)23
كما يقول في موضع آخر إنهم كانوا يستخدمون الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة؛ بينما كانوا يستعملون المنثور المرسل في خطب الصلح وسل السخيمة وعند المعاقدة والمعاهدة. وكأنهم عرفوا في الجاهلية لونين من الخطابة لونًا مسجوعًا ولونًا مرسلًا، ولا تظن أنهم في خطابتهم المرسلة لم يكونوا يروون فقد كانوا يعمدون إلى ما يثير السامعين من كلم بليغ؛ حتى يؤثروا فيهم ويبلغوا ما يريدون من استمالتهم، يقول الجاحظ: "لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد وفي صنعة طوال الخطب، وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميَّثوه1 في صدورهم وقيدوه على أنفسهم؛ فإذا قوَّمه الثقاف، وأدخل الكير، وقام على الخلاص أبرزوه محككًا منقحًا ومصفى من الأدناس مهذبًا.
ومن يقرأ الفقر القصار والمحاورات المختصرة التي بقيت من تراثهم، تلك التي يرويها الجاحظ، يشعر حقًّا أنهم كانوا يبتغون التجويد في كلامهم، تارة بما يصوغونه فيه من سجع، وتارة أخرى بما يخرجونه فيه من استعارات وأخيلة. ودائمًا يعنون ببهاء اللفظ وقوته ونصاعته، كما يعنون بوضوح الحجة. وتصوِّر أشعارهم جوانب من ذلك كقول لبيد لهرم بن قطبة حين احتكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة :
إنك قد أوتيت حُكْمًا معجِبا ... فَطَبِّقِ المَفْصِلَ واغْنَمْ طَيِّبا
وواضح أنه يقول له: إنك قد أوتيت حكمًا فاصلًا قاطعًا يفصل بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين.
ومن ذلك قولهم فلان يفلُّ المحزَّ، ويصيب المفصل، ويضع الهناء مواضع النُّقَبِ4. والعبارة الأخيرة مستعارة من صنيع الحاذق حين يلم الجرب بإبله فيضع دواءه في مواضعه الدقيقة. يمثلون بذلك للمصيب الموجز في خطابته وبيانه، كما مثلوه في التعبيرين الأولين بالجزار الحاذق الذي يصيب عين الموضع من جزوره سواء في العظم أو في اللحم. وقد يشبهون كلامهم بالسهام المصمية، ومن ثم استخدموا كلمة مدره للشجاع والخطيب المفلق في الوقت نفسه، وأصل معناها المرامي؛ فاستعيرت من رامي السهام لرامي الكلام)(شوقي ضيف، ص 418)24
الذي يبلغ به ما يريد من إصابة خصمه والنكاية به، يقول زهير بن أبي سلمى1:
وَمِدرَهُ حَربٍ حَميُها يُتَّقى بِهِ ... شَديدُ الرِجامِ بِاللِسانِ وَبِاليَدِ
ونراهم يصفون خطباءهم بأنهم مصاقع ولسن، وافتخروا بذلك طويلًا على نحو ما نجد عند قيس بن عاصم المنقري يصف ما فيه وفي عشيرته بني منقر من الخطابة والفصاحة2:
إني امرؤٌ لا يَعْتري خُلُقي ... دَنَسٌ يُفَنِّدُهُ ولا أفْنُ3
من مِنْقَرٍ في بيت مكرُمةٍ ... والأصلُ ينبت حوله الغُصْنُ
خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقعٌ لُسْن
وقد حذروا طويلًا من شدة وقع اللسان، وقالوا: إن جرح اللسان كجرح اليد وإنه عَضْب وقاطع كالسيف، يقول طرفة:
بِحُسامِ سيفك أو لسانك والـ ... كَلِمُ الأصيلُ كأَرْغَب الكَلْمِ
ولعل مما يدل دلالة قاطعة على أنهم أحسوا بجمال ما يلفظ به خطباؤهم أننا نراهم يشبهون كلامهم بالثياب الموشَّاة وبالحُلل والدِّيباج وأشباه ذلك، يقول أبو قُرْدُودة الطائي في رثاء ابن عَمَّار خطيب مَذْحج وقد مات مقتولًا:
ومنطقٍ خُرَّق بالعَواسلِ ... لَذّ كَوَشْي اليُمْنَةِ المَرَاحلِ
ولعل في كل ما قدمنا ما يدل دلالة واضحة على أن الخطابة كانت مزدهرة في الجاهلية؛ فقد كانوا على حظ كبير من الحرية، وكانوا يخطبون في كل موقف في المفاخرات وفي الدعوة إلى السلم أو الحرب وفي النصح والإرشاد وفي الصهر والزواج. وابتغوا دائمًا في كلامهم أن يؤثر في نفوس سامعيهم بما حققوا له من ضروب بيان وبلاغة) (شوقي ضيف، ص 419)25
الوصايا: الوصية بمعنى النصح والإرشاد والتوجيه، وهي قول بليغ مؤثر، ويتضمن حثًّا على سلوك طيب نافع، حبًا فيمن توجه إليه الوصية، ورغبة في رفعة شأنه وجلب الخير له. وعادة تكون من أولياء الأمور وبخاصة الأب والأم لأبنائهما عند حلول الشدائد، أو حدوث الأزمات أو الإحساس بدنو الفراق، وهي نتيجة الخبرة الطويلة والملاحظة الدقيقة، والعقل الواعي والتفكير السليم ويدفع إليها المودة الصادقة والحب العميق.
ومن الوصايا: وصية عامر بن الظرب لقومه، ومنها: "يا معشر عدوان: لا تشمتوا بالذلة، ولا تفرحوا بالعزة، فبكل عيش يعيش الفقير مع الغني، ومن يَرَ يومًا يُرَ به، وأعدوا لكل أمر جوابه، إن مع السفاهة الندم، والعقوبة نكال، وفيها ذمامة، ولليد العليا العاقبة، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، ومن طلب شيئا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه".
ومنها وصية زوجة عوف بن ملحم الشيباني لابنتها حينما زفت إلى زوجها الحارث بن عمرو ملك كندة، وفيها تقول: "أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب؛ تركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدًا. يا بنية: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا، الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح؛ ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ والتعهد لوقت طعامه؛ والهدوء عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التدبير، والإرعاء على الحشم والعيال جميل حسن التقدير، ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي -مع ذلك- الفرح إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده)(علي الجندي 1991م ص 268)26
إن كان فرحًا، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك)(علي الجندي 1991م ص 269)27
سجع الكهان: وكانت الكهانة موجودة عند العرب في الجاهلية، وكان للكهان قداسة دينية، ونفوذ كبير، إذ كانوا يوهمون العامة بأنهم يعرفون الغيب عن طريق ما يتلقون من الجن، وكان الناس يتجهون إليهم يحكمونهم في المنازعات. والمنافرات. ويستشيرونهم في أمورهم وبخاصة المستقبلة. ويقصون عليهم أحلامهم لكي يفسروها لهم. وأحيانا كان الكهان ينذرون بعض القوم بأحداث تقع لهم.
ولم تكن الكهانة مقصورة على الرجال، بل كان هناك نساء كاهنات كذلك. ومن أشهر الكهان: شق أنمار.وتحكي الأساطير عن خلقته أنه كان شق إنسان له عين واحدة. ويد واحدة ورجل واحدة. ومنهم سطيح الذئبي: ويقولون عنه إنه لم يكن فيه عظم سوى جمجمته؛ وأن وجهه كان في صدره؛ ولم يكن له عنق. ومنهم المأمور الحارثي: كاهن بني الحارث بن كعب، وعزى سلمة. ومن أشهر الكاهنات: طريفة الكاهنة: وكانت باليمن وفاطمة الخثعمية: وكانت بمكة، والزرقاء بنت زهير، وزبراء كاهنة بني رئام.
وكان الكهان في أحاديثهم يعمدون غالبًا إلى سجع مصطنع، فيه غموض وإبهام، وكأنما كانوا يقصدون زيادة التأثير في السامعين، وإلهاءهم عن التتبع لما يلقى إليهم من الأخبار التي كانت في منتهى الغرابة والعجب.
ومما ورد لهم ما يروى أن حجرا أبا امرئ القيس رق لبني أسد، فبعث في أثرهم؛ فأقبلوا حتى إذا كان على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة فقال لبني أسد: "يا عبادي! قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب، هذا دمه ينشعب19، وهذا غدًا أول من يسلب. قالوا: من هو يا ربنا؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر صاحية، فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته وقتلوه (علي 1991م ص 270)28
ويروى أن شقًّا وسطيحًا اتفقا على تعبير رؤيا رآها ربيعة بن نصر اللخمي أحد ملوك العرب، فأخبره سطيح بإغارة الحبشة على بلاد اليمن بسجع متكلف يبعث على التردد في تصديقه، إذ قال: "أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش" وقال شق: "أحلف بين الحرتين من إنسان ليهبطن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران".
ويقال إن زبراء أنذرت قومها غارة عليهم، فقالت: "واللوح الخافق والليل الغاسق، والصبح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدوا ختلًا، ويحرق أنيابًا عصلا24، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، ولا تجدون عنه معلًا ومن المؤكد أن الكهان كانوا يسجعون في كلامهم بمثل هذا السجع بدليل أنهم لما سمعوا القرآن ظنوه من هذا القبيل، فرد الله زعمهم بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} . وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وغير ذلك من الآيات.
وظاهر من نماذج نثرهم أن الكهان كانوا يستعملون السجع المتكلف الغامض، وفي جمل قصيرة، وغير واضحة المعنى، لكي تتحير الأذهان في فهم المقصود منها وأغلب الظن، بل يكاد يكون من المؤكد أنهم لم يكونوا يدركون حقيقة ما يقولون فكانوا يأتون بالألفاظ.
ويرصفونها بعضها بجانب بعض بدون وعي تام لمعانيها، ما دام السجع موجودا فيها، ويكتنفها الغموض والإبهام، مكتفين بالإيماء والتلميح، متخذين من حال مخاطبيهم النفسية ما يساعدهم على ذلك، كما يفعل ضاربو الرمل والحصى بيننا الآن)(علي الجندي 1991م ص 271)29
المفاخرات والمنافرات:
والمفاخرة: محاورة كلامية بين اثنين أو أكثر، وفيها يتباهى كل من المتفاخرين بالأحساب والأنساب، ويشيد بما له من خصال، وما قام به من جلائل الأعمال، وكانت تحدث بين القبائل كربيعة ومضر، وبكر وتغلب من ربيعة، وقيس وتميم من مضر، وقد تغلغلت المفاخرات في بطونهم حتى كانت بين ابني العم في العشيرة الواحدة مثل ما حدث بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وقد تنافرا إلى هرم بن قطبة الفزاري.
والمنافرة كالمفاخرة وأشد، وكان الرجلان إذا تنازعا الفخر، وادعى كل منهما أنه متفوق على صاحبه، نفرا إلى حاكم يرضيانه، ليقضي بينهما، فمن فضله على صاحبه كان له غنم الحكم، وعلى صاحبه غرم الجعل المفروض من الإبل أو غيرها.
ولكن الحكم كثيرًا ما كان يتحاشى الحكم لأحدهما على الآخر، ويعمد إلى الصلح بين المتنافرين، حسمًا للنزاع، وتفاديًا للشر. ويلقي عليهما كلامًا بليغًا يدعوهما فيه إلى الصفاء والسلام والمودة والمحبة. من ذلك ما كان من هاشم بن عبد مناف في خزاعة وقريش حين نفرتا إليه، فقال: "أيها الناس، نحن آل إبراهيم، وذرية إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب والنسب، ومعدن المجد، ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته، إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم. يا بني قصي، أنتم كغصني شجرة، أيهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه. أيها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر غير، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجلس يعمر ناديكم، وحابوا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية، فإنها تضع)(علي الجندي 1991م ص 263)30
سجع الكهان: كانت في الجاهلية طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن، وكان واحدها يسمى كاهنًا كما يسمى تابعه الذي يوحي إليه باسم "الرَّئِيِّ وأكثرهم كان يخدم بيوت أصنامهم وأوثانهم؛ فكانت لهم قداسة دينية،
وكانوا يلجأون إليهم في كل شئونهم، وقد يتخذونهم حكامًا في خصوماتهم ومنافراتهم على نحو ما كان من منافرة هاشم بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس، واحتكامهما إلى الكاهن الخزاعي، وقد نفر هاشمًا على أمية
وكانوا يسشيرونهم ويصدرون عن آرائهم في كثير من شئونهم كوفاء زوجة، أو قتل رجل، أو نحر ناقة، أو قعود عن نصرة أحلاف ، أو نهوض لحرب؛ ففي أخبار بني أسد أن حجرًا أبا امرئ القيس رَقَّ لهم؛ فبعث في إثرهم فأقبلوا حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة، فقال لبني أسد: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلَّاب غير المغلَّب، في الإبل كأنها الرَّبْرب ، لا يعلق رأسه الصَّخَب، هذا دمه ينثعب5، وهذا غدًا أولُ من يسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذَلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عكر حجر فهجموا على قبته" وقتلوه. وكثيرًا ما كانوا ينذرون قبائلهم بوقوع غزو غير منتظر ، كما كانوا كثيرًا ما يفسرون رؤاهم وأحلامهم .
فمنزلة كهَّانهم في الجاهلية كانت كبيرة؛ إذ كانوا يعتقدون أنه يوحى إليهم، ولعل ذلك ما جعل نفوذ الكاهن يتجاوز قبيلته إلى كثير من القبائل التي تجاورها، ومن ثم كان العرب يقصدون كثيرين منهم من مناطق بعيدة. ومما يلاحظ أنهم كانوا يتكثرون في اليمن وفي بيوت عبادتها الوثنية، وخاصة من يتعمقون في القدم، ولعل في ذلك ما يدل على الصلة القديمة بين وثنية عرب الجنوب، وعرب الشمال. وتلقانا في كتب التاريخ والأدب أسماء كثيرين منهم، وقد يبالغ القُصَّاص، فيرسمون لبعضهم صورًا خيالية؛ فمن ذلك أن شق بن الصعب كان شق إنسان أو شطره فله عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأن سطيح بن ربيعة الذئبي لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وأن وجهه كان في صدره ولم يكن له عنق ، وربما كان أحدب. ومن كهانهم في أواخر العصر الجاهلي سواد بن قارب الدَّوْسيِّ وقد أدرك الإسلام ودخل فيه ،
ومنهم المأمور الحارثي، كاهن بني الحارث بن كعب ، وخُنافر الحميري، وكان يقول: إنه أسلم بمشورة تابعه "شصار". وأكهنهم عُزّى سَلِمة،
يقول الجاحظ: "أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبي حية وهو الذي يقال له عزى سلمة"5. ومن قوله : "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء للمجد والسناء " ونجد بجانب هؤلاء الكهان جماعة من الكاهنات، وربما كن في الأصل من النساء اللائي يهبن أنفسهن للآلهة ومعابدها. ومن أشهرها الشعثاء وكاهنة ذي الخلصة والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير والغيطلة القرشية وزبراء كاهنة بني رئام، ويروى أنها أنذرتهم غارة عليهم فقالت: "واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنجم الطارق والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو خَتْلًا، ويحرق أنيابًا عصلًا، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، لا تجدون عنه مَعْلًا
ونحن لا نطئمن إلى ما يروى في كتاب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات؛ فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلي يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال؛ إذ من الصعب أن تروى بنصها وقد مضى عليها نحو قرنين من الزمان. وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت في أذهان من تحدثوا عن الكهان والكاهنات في الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كلامهم؛ ولذلك حين أجرو ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعًا على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد في العصر الجاهلي سجع كان يقوله الكهان، وقد اختلط الأمر على بعض قريش في أول نزول الذكر الحكيم؛ فقرنوه بسجع كهنتهم ورد عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جل وعز: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .
ومما يدل على أن كهنتهم كانوا يسجعون؛ بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع، الحديث المروي عن أبي هريرة؛ فقد حدث أنه: "اقتتلت امرأتان من هذيل؛ فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها ... فقال حمل بن النابغة الهُذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل2، فمثل ذلك يطل3؛ فقال رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" ويقول الجاحظ: "كان حازى "كاهن" جهينة وشق وسطيح وعزى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"
وإذا صح أن ما يروى في كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لاحظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب، بل كانوا يعمدون أيضًا إلى ألفاظ غامضة مبهمة، حتي يتركوا فسحة لدى السامعين كي يؤول كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه. ومن ثم دخل الرمز في كثير من أقوالهم؛ إذ يومئون إلى ما يريدون إيماء، وقلما صرحوا أو وضَّحوا؛ بل دائمًا يأتون المعاني من بعيد؛ بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا في وضوح معنى، ويتخذوا له أشباحًا واضحة من اللفظ تدل عليه، لأن ذلك يتعارض مع تنبئهم الذي يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التي تخدع السامع وجوهًا من الخدع، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة وأن يكثر فيها الاختلاف والتأويل. (شوقي ضيف، ص 422)31
وليس هذا كل ما يلاحظ على السجع الذي يضاف إليهم؛ فإنه يلاحظ عليه أيضًا كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجي والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير وفي ذلك ما يدل على اعتقادهم في هذه الأشياء وأن بها قوى وأرواحًا خفية، ومن أجل ذلك يحلفون بها، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير في نفوس هؤلاء الوثنيين.
وهذا السجع الديني كان يقابله، كما قدمنا، سجع آخر في خطابتهم بل في كلامهم وأمثالهم التي دارت بينهم. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الجاهليين عنوا بنثرهم كما عنوا بشعرهم؛ فقد ذهبوا يحاولون تحقيق قيم صوتية وتصويرية مختلفة فيه، تكفل له جمال الصياغة وروعة الأداء. (شوقي ضيف، ص423)32
النثر الجاهلي يشمل عدة نواح في الحياة الجاهلية، فطرق جميع المسائل التي تهم الإنسان في حياته واستخدم وسيلة فعالة في التأثير على النفوس، وفعلا كان -وما زال- له أثر كبير لا يقل عن أثر الشعر النفسي فهو بذلك نثر أدبي. ومن الفنون الجميلة الرفيعة.
كما أنه صور كثيرًا من المشاعر الإنسانية، فجاء في أغراض مختلفة وبخاصة ما كان منه في الخطابة والحكم والوصايا وتبعًا لذلك جاء في صور متعددة. وأساليب متباينة. طبقًا للنواحي التي يعالجها.
وفي النماذج النثرية التي سقناها للجاهليين، تجد منها ما هو طويل، ومنها ما هو قصير. ويتجلى القصر بشكل ظاهر في الحكم والأمثال. وتتراوح الخطب والوصايا بين الطول والقصر، ومن عادتهم في الخطب في الزواج
يقول الجاحظ: إن الخاطب كان يطيل، ويقصر المجيب
ويقول عن خطابتهم بوجه عام: اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين: منها الطوال، ومنها القصار. ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلًا في استواء الصنعة ومنها ذوات الفقر الحسان. والنتف الجياد. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع،
وفي النثر الجاهلي تتجلى العصبية القبيلة. في الفخر بالأحساب والأنساب في المفاخرات والمنافرات، ويظهر الحب والمودة والرغبة في الخير لأفراد الأسرة أو العشيرة الواحدة في النصائح والوصايا. ولئن شاع عنهم الغضب وسرعة التهور والحمق والسفه)(علي الجندي 1991م ص271)33
المصادر والمراجع
1. أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص 399
2. نفس المرجع ص ص 259
3. علي الجندي في تاريخ الأدب الجاهلي الناشر: مكتبة دار التراث الطبعة: طبعة دار التراث الأول1412هـ - 1991م ص 259
4.شهاب الدين النويري ، 1423 هـ ج: ص 2.
5. أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص 404
6. أنفس المرجع ص 405
7. نفس المرجع ص 406
8. نفس المرجع ص 407
9. نفس المرجع ص 408
10. نفس المرجع ص 409
11. علي الجندي في تاريخ الأدب الجاهلي الناشر: مكتبة دار التراث الطبعة: طبعة دار التراث الأول1412هـ - 1991م ص 260
12. نفس المرجع ص 261
13. نفس المرجع ص 261
14. نفس المرجع ص 261
15. نفس المرجع ص 266
16. نفس المرجع ص 267
17. أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص 410
18. نفس المرجع ص 411
19. نفس المرجع ص 412
20. نفس المرجع ص 413
21. نفس المرجع ص 415
22.نفس المرجع ص 416
23.نفس المرجع ص 417
24. أنفس المرجع ص 418
25. نفس المرجع ص 419
26. نفس المرجع ص 268
27. نفس المرجع ص269
28. علي الجندي في تاريخ الأدب الجاهلي الناشر: مكتبة دار التراث الطبعة: طبعة دار التراث الأول1412هـ - 1991م ص 270
29. نفس المرجع ص 271
30. نفس المرجع ص 263
31. نفس المرجع ص 422
32. نفس المرجع ص 423
33. نفس المرجع ص271








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل