الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقاب و حرية الارادة بين نيتشه و سبينوزا

احمد المغربي

2023 / 12 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


[من دفاتري الخاصة]
في المبحث الاول من كتابه "جينالوجيا الاخلاق" قال نيتشه أن الفكرة القائلة "بأن «المجرم يستحق العقاب لأنه كان بوسعه أن يتصرف بشكل مختلف» هي في الواقع شكل متأخر جدا بل رفيع و مرهف من أشكال الحكم و الاستقراء عند الانسان. إن الذي يضع هذا الشكل في البداية يرتكب خطأ شنيعا بحق علم النفس البشرية"
إن نيتشه يضع اصبعه هنا على جرح حساس للغاية و في كتابه "نفي اللاهوت" طرح مشيل أونفري – الذي كان متأثرا بنيتشه- هذه المسألة على نحو راديكالي جريء و زعم أن القضاء العلماني لم يتخلص من رواسب اللاهوت المسيحي لاعتماد عمله العقابي على افتراض وجود المسؤولية و حرية الارادة و ذهب لحد اعطاء مثال بالتساؤل عن مسؤولية المتحرش بالاطفال أو حريته في سلوكه الشاذ ذاك(1). إنني – أنا كاتب هذه السطور- شأن معظم الناس أشعر بالاشمئزاز من المجرمين و المغتصبين بالخصوص و بخلاف اللبراليين فأنا أميل لدعم العقوبات القاسية (الردعية) في هذا المجال، لكن الميل و العاطفة المتماهية مع الحس المشترك و المنبثقة عنه غالبا، لا يمكن أن تكون حجة في النقاش الفلسفي الجاد. إن الاحكام الناتجة عن هذا الميل ملزمة بالخروج من دائرة التسليم الغير نقدي إلى ساحة السجال العقلاني إن أرادت تبرير ذاتها(ما يسمى بعلم الكلام في تراثنا هو محاولة في هذا السياق) أوإن أرادت أن يتم التعامل معها بجدية.
و في عصرنا الذي أدلى فيه العلم بدلوه حول الموضوع، لم يعد ممكنا التعامل مع الافكار التي تنفي حرية الارادة على أنها مجرد آراء منحرفة أو مُغْرِضة أو تأملات غير يقينية في أحسن الأحوال، إذ أنا نرى المساحة التي لطالما احتلتها فرضية المسؤولية تتضاءل يوما بعد يوم بفعل الاجتياحات المستمرة للأبحاث العلمية التي وصلتْ لحد الزعم بأن النزعة الاجرامية يرثها بعض الافراد دون حول أو قوة لهم. إن كل هذا يبدوا كما لو أنه تحقيق لنبوءة نيتشه الذي قال أن العلم سيكون مقبرة للأخلاق، لكن هذا موضوع آخر أما ما يعنينا هنا فهو اسهام نيتشه حول مسألة العقاب و الاخلاق (و اختلافها عن طرح أونفري و تقاربها مع طرح سبينوزا ) فنيتشه - على عكس ميشيل أونفري الذي رأى أن غياب الارادة الحرة و المسؤولية يعني أن علينا اللجوء للإصلاح بدل العقاب- لم يرى في غياب "الارادة الحرة نفيا للعقاب أو الحق في العقاب لكنه جرّد ذلك العقاب من أي سندٍ أخلاقي أو حقوقي ميتافيزيقي من خلال الاشارة لجذوره الاولى التي كانت كامنة في الغريزة لا في العقل أو السماء و قال أن هذه المفاهيم الاخلاقية لم يبتدعها البشر إلا لاحقا لإضفاء تبرير متعالٍ للعقاب بعد انحطاطهم و انحرافهم عن غرائزهم الاصيلة(حسب نظره)
إن قضية حرية الارادة هذه من أهم القضايا التي تطرح علينا تساؤلات ذات طابع عملية خطير للغاية و في التراث الاسلامي أثار طرحها جدلا قويا فانبثقت أسئلة من قبيل : "كيف يعاقب الله الانسان إن كان مسيرا؟" و "هل يأتي الانسان الشر رغما عن إرادة الله؟ الخ . و في العصر الذهبي للبرجوازية تم إنزال هذه القضية من السماء إلى الأرض و تمّت معالجتها على أساس علاقتها بالقانون المدني و المنافع العملية و قال فولتير بصراحة أنه خير للمجتمع أن يؤمن بوجود حرية الارادة رغم تردده في المسألة مشيرا بذلك للمخاطر التي يطرحها نفيها . غير أن سبينوزا الذي كان ينفي وجود حرية الارادة بشكل قطعي طرح مقاربة في غاية الأهمية و التميز حين تطرق لها في سياق علاقتها بالاخلاق، وقد تميز هذا الفيلسوف بأنه نفى أولا وجود "شر في حد ذاته"، مستنكرا أنانية الانسان و اتخاده لنفسه مقياسا في محاكمة العالمة و الاشياء بناء على نفعا و ضررها له ، و كان نفيه للإرادة الحرة مرتبطا بمنظوره هذا الذي يعتبر أن تصور الخير و الشر في الطبيعة مجرد هراء صبياني طالما أن كل شيء صادر عن الضرورة.
في هذا السياق تمكن سبينوزا من طرح سند مغاير بشكل راديكالي للعقاب و قال أن نفي حرية الارادة عن الافعال لا ينفي إمكانية أو ضرورة العقاب و ضرب مثالا بالأفعى قائلا : " إذا كان عقابنا يقتصر على من يذنبون بمحض إرادتهم و اختيارهم الحر فلماذا نبيد الافاعي السامة التي تذنب بطبيعتها و لا تملك غير ذلك؟"(2) مشيرا بذلك لأن السبب الوحيد للعقاب في رأيه هو ضرر الفعل بالمجتمع –أي أنه أرضي بحت لا ميتافيزيقي
هوامش و إضافات:
بخصوص هذا النص: لقد تم نشره كما تم تدوينه في إحدى المذكرات دون تعديل مع أنني ترددت في التمهيد له بتقديم تعريف موجز عن مفهوم العقاب و آراء مختلف الفلاسفة حوله. و قد كان ترددي نتيجة لأن هذا النص لم يكتب اصلا بغرض النشر بكل كان في الاساس عبارة عن ملاحظات شخصية لغرض التوسع بشكل أكبر حول الموضوع من زاوية ماركسية حيث أنه يمكننا أن نتساءل عن حدود الاتفاق و الاختلاف بين نيتشه و سبينوزا بشكل عام لا في حدود هذا الموضوع الذي طرحناه وحسب لكن فيما يخص هذا المسألة يبدوا أن لدى الماركسية الكثير إذ أن إضافتها و تميزها يكمنان في أنها لا تنطلق من المجتمع بشكل عام بل من المجتمع المنقسم لطبقات منعارضة و بما أن الماركسية تشاطر كل من سبينوزا و نيتشه وجهة النظر الراديكالية فالحديث عما يمكن أن تقوله هذه الفلسفة -التي لا تؤمن لا بحرية الارادة و لا بالقيم المطلقة- له أهمية كبيرة سواء نظريا أو عمليا وعلى غرار نيتشه- الذي رأى أنه لا مبرر لاستمرار الايمان التقليدي بالاخلاق في ظل انهيار القيم الدينية- صرّح تروتسكي في كتابه السجالي "أخلاقنا و أخلاقهم"
(َ1): في الصفحة 68 من كتابه نفي اللاهوت يقول ميشيل أونفري:
"فحين تشتغل محكمة دون رموز دينية فإنها تنشط مع ذلك بالنظر لهذه الرؤية الميتافيزيقية: فمغتصب الاطفال يعتبر حرا و متمتعا بحرية الاختيار بين حياة جنسية طبيعية مع شريك يقبله و عنف مذهل مع ضحايا يتم تحطيمهم إلى الابد فهو بقوم بذلك في هدوء تام و باستعداد روحي وعقلي كامل و في إطار موهبة إرادة حرة تمكنه من أن يريد هذا الامر بدل ذلك و أن يختار العنف- لمّا كان بإمكانه اتخاد قرار مغاير(...)"
(2):أفكار ميتافيزيقية مقتبس من كتاب فؤاد زكريا عن سبينوزا، الفصل السادس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نصب خيام اعتصام دعما لغزة في الجامعات البريطانية لأول مرة


.. -حمام دم ومجاعة-.. تحذيرات من عواقب كارثية إنسانية بعد اجتي




.. مستوطنون يتلفون محتويات شاحنات المساعدات المتوجهة إلى غزة


.. الشرطة الألمانية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لغزة بجامعة برلين




.. غوتيريش يحذر من التدعيات الكارثية لأي هجوم عسكري إسرائيلي عل