الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي (2)

تمارا العمري

2024 / 1 / 1
التربية والتعليم والبحث العلمي


مؤلفة المقال: عالمة النفس الماركسية ليديا إليينيتشنا بوجوفيتش*
ترجمة: تمارا العُمَري
تدقيق: مالك أبو عليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

في الجزء الأول من سلسلة مقالات (مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي(1) قمنا بدراسة أول فترتين حرجتين في تكوين شخصية الطفل: الأولى في عمر السنة الواحدة والثانية عند عمر ثلاث سنوات. أمّا في هذا الجزء سنتناول أزمة سن السبع سنوات، وهي الفترة الانتقالية الممتدة من مرحلة ما قبل المدرسة وحتى سن دخول المدرسة. دعونا نتذكر أنه وفقاً لمفهومنا، فإن أزمات النمو تأتي كنتيجة للفشل في تلبية الاحتياجات التي تظهر لدى الطفل في نهاية كل فترة عمرية جنبا إلى جنب مع ظهور بعض عناصر بنية الشخصية الأساسية الجديدة. كما يجب أن نتذكر أن كل مرحلة من مراحل النمو تتميز بتوجه فريد ونوعي للطفل ضمن منظومة العلاقات المُعطاه في مجتمع معين. وبناء على ذلك، فإن كل فترة من حياة الطفل لها محتواها الخاص: علاقات محددة بين الطفل والأشخاص من حوله، ونوع النشاط السائد في كل مرحلة من مراحل النمو (اللعب، الدراسة، المهام)، إلخ. كما أن لكل مرحلة نظامها الخاص من الحقوق التي يمارسها الطفل والواجبات التي يجب عليه القيام بها.
تتحدد طبيعة الوضع الاجتماعي للطفل، من ناحية ، من خلال الاحتياجات الموضوعية للمجتمع، ومن ناحية أخرى، من خلال آراء هذا المجتمع حول قدرات الطفل في كل مرحلة من مراحل النمو التي ينبغي على الطفل أن يمر بها. تتطور هذه الآراء بشكل عفوي على أساس الخبرة التاريخية الطويلة؛ حيث تُبنى عليها مراحل الطفولة، ولا بد لنا أن نتفق أن هذه الآراء تختلف بعض الشيء من مجتمع إلى آخر، اعتماداً على التكوين التاريخي لذلك المجتمع، إلا أنها في سماتها الأساسية متشابهة وتتوافق مع المسار الفعلي لنمو الطفل.
بمجرد وصول الطفل إلى سن معينة، بغض النظر عن السمات الفردية لنموه ومستوى استعداده، يتخذ وضعاً معيناً يحدده مجتمعه، وبالتالي يدخل في مجموعة من الشروط الموضوعية التي تحدد خصائص حياته ونشاطه في كل مرحلة من مراحل النمو. من المهم جدًا أن يستوفي الطفل هذه الشروط، لأنه عندها فقط سيتمكن من الشعور بالسيطرة على الأمور من حوله واختبار صحته العاطفية.
ومع ذلك، في المراحل الأولى من النمو (حتى سن السادسة إلى السابعة)، لا ينتبه الأطفال بعد إلى مكانهم في الحياة ولا يكون لديهم رغبة واعية لتغييره. فإذا اكتسب الطفل قدرات جديدة لا يمكن اختبارها ضمن نمط الحياة الذي يعيشه، فسوف يشعر هذا الطفل بعدم الرضا، مما يثير اعتراض ومقاومة غير مُوجهة، كما تم التعبير عن ذلك، في أزمتي عمر السنة وعمر الثلاث سنوات.
في المقابل، عندما يتقدم الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ستة وسبعة أعوام في نموهم العقلي العام (وهي عملية سنصفها بمزيد من التفصيل أدناه)، فإنهم يكتسبون رغبةً واضحةً في تولي مكانة جديدة أكثر نضجاً في الحياة والقيام بنوع جديد من النشاط، وهو أمر مهم ليس فقط لأنفسهم ولكن أيضاً للأشخاص من حولهم. وفي ظل ظروف التعليم المدرسي الرسمي الشامل، يتجلى هذا، كقاعدة عامة، في رغبة الطفل في الحصول على وضع اجتماعي من خلال البدء في الدراسة، كنشاط جديد مهم اجتماعياً. وبالطبع، تكتسب هذه الرغبة أحيانا محتوى آخر: على سبيل المثال، الرغبة في أداء مهام البالغين أو تحمّل مسؤوليات معينة أوالمساعدة في شؤون الأسرة، وما إلى ذلك. لكن النواة النفسية لهذه الرغبات تظل كما هي: حيث يبدأ الأطفال الأكبر سناً في مرحلة ما قبل المدرسة للتطلع إلى موقع جديد في نظام العلاقات الاجتماعية المتاح لهم وإلى نوع جديد من النشاط المهم اجتماعياً. (2)
إن التطور العقلي السابق للطفل يمهّد الطريق لظهور مثل هذه الرغبة، والتي تحدث عندما يصبح الطفل واعياً بذاته ليس فقط كذاتٍ لفعل ما(مثل إطعامه والعناية به ووضعه في السرير **المترجم) وهو ما كان نموذجياً لمرحلة النمو السابقة، ولكن أيضاً كذات ضمن نظام العلاقات الإنسانية. يصبح هذا ممكناً في نهاية فترة ما قبل المدرسة، عندما تتشكل عدد من البُنى العقلية الجديدة نتيجة التنشئة الاجتماعية، فيكون الطفل من الناحية الموضوعية نظاماً مستقراً ومتكاملاً، وهو يرى نفسه بالفعل بهذه الصفة، مؤهلاً بميزات خاصة بعمره ونموه الخاص، ويكون قادراً على تقييم نفسه من خلال العلاقات مع من حوله. وبعبارة أخرى، يصبح الطفل واعياً للأنا الاجتماعية الخاصة به(3). إن المستوى الجديد من الوعي الذاتي الذي يحدث للطفل عند دخوله المدرسة يجد التعبير الأنسب لحالته الداخلية، والتي تتشكل نتيجة التأثيرات الخارجية، المنعكسة من خلال بنية السمات النفسية المتكونة سابقاً، والتي تُعمَّم ويُعاد تشكلها في بناء شخصية مركزية جديدة وفريدة من نوعها، والتي تحدد شخصية الطفل ككل. إن بنية الشخصية الجديدة تحدد أيضاً سلوك الطفل وأنشطته ونظام علاقاته بالواقع وبنفسه وبالآخرين.
يمثل ظهور هذه البُنية الجديدة مكاناً حاسما في النمو الفردي. في ظل ظروف التعليم المدرسي الشامل، وعندما يصل الطفل إلى مرحلة الالتحاق بالمدرسة، تتضمن هذه البُنية أن يصبح طفل مرحلة ما قبل المدرسة غير راضٍ عن أسلوب حياته السابق ويبدأ في الرغبة في تولي مكانة في المجتمع ألا وهو أن يصبح تلميذاً ("أريد أن أذهب إلى المدرسة")، "أريد أن أتعلم"، وما إلى ذلك).
وفي هذا السياق يجب أن نشير إلى ما يلي: أظهرت دراسة مقارنة بين موقف الأطفال تجاه التعلم والمدرسة، في الستينيات، وبين موقفهم في الوقت الحاضر، أن أطفال المدارس قبل عقدين من الزمن لم يكن سوى عدد قليل جدًا منهم يتوقون إلى الخروج من دائرة العلاقات العائلية الضيقة للذهاب إلى المدرسة والتعلم. واليوم زاد عدد هؤلاء الأطفال بشكل كبير، لكن هذه الظاهرة لم تعكس أي تأخر في نمو الشخصية ولم تكن مرتبطة بأي سمات أساسية لأزمة لهذا العمر. والآن يريد الأطفال الأكبر سناً في مرحلة ما قبل المدرسة القيام بنشاط جاد وذو أهمية اجتماعية، وعلى الرغم من استمرارهم في الانخراط مُختلف أشكال "لعب الأدوار" (تمثيل الأدوار)، إلا أن اللعب يبدأ تدريجياً في إخلاء مكانه لأنواع أخرى جديدة من الأنشطة مثل الألعاب المحددة بقواعد معينة، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، لا يرغب الأطفال الأكبر سناً في مرحلة ما قبل المدرسة في مجرد تقليد حياة البالغين بل يسعون دون وعي إلى تحقيق أنواع جديدة من النشاط وعلاقات جديدة يمكن أن تُسبغ مضموناً حقيقياً ما، على حياتهم. ومع ذلك، هناك الكثير من الأطفال لا يريدون أن يصبحوا تلاميذاً في المدرسة. ويمكن تفسير هذه الظاهرة في حالتين: أولاً، الصعوبات المصاحبة للتعلم في المدرسة والتي يسمع عنها الطفل باستمرار من الآخرين ويستطيع اكتشافها بنفسه من خلال ملاحظة حياة الأطفال الأكبر سناً. ثانياً، حقيقة أن الأطفال في الروضة يبدأون بالفعل في التعلم بجدية تامة، وبالتالي فإن الدافع وراء الرغبة في تعلم القراءة والكتابة يكون في بعض الحالات قد أُشبِعَ وتحقق سلفاً. والحقيقة الأخرى التي تدعم هذه الفرضيات هي أن طلاب الصف الأول اليوم، مثل طلاب الصف الأول في السنوات الماضية، يعطون قيمة كبيرة لمكانتهم في المدرسة؛ وينطبق الشيء نفسه على درجاتهم، وكلام معلمهم، ومراعاة قواعد السلوك، والعديد من متطلبات الحياة المدرسية الأخرى، مما يشهد على الأهمية الكبيرة لهذه العوامل بالنسبة لوضع الطفل.
وفي وقت لاحق، أثناء الانتقال من مرحلة نمو إلى أخرى، سيتخذ المحتوى النفسي لهذه البُنية الجديدة سمات مختلفة، لأن العمليات النفسية الداخلية التي على أساسها يختبر الطفل موقفه الموضوعي ستكون مختلفة أيضا. ولكن في كل حالة، ستعكس مدى رضا أو عدم رضا الطفل عن وضعه، وما اذا كان الطفل يشعر بالسعادة العاطفية أم لا؛ وبالتالي، فإنها -أي العمليات النفسية الداخلية- ستؤدي إلى احتياجات ورغبات معينة.
إن وجود موقف داخلي )يتوافق مع تصور الطفل لظروفه الموضوعية) لا يميز عملية تكوين الشخصية في النمو الفردي فحسب، بل يبقى مع الفرد خلال جميع مراحل حياته ويحدد موقفه تجاه نفسه وتجاه موقعه في الحياة. ومع ذلك، وعلى النقيض من الوضع الداخلي في النمو الفردي، الذي يحمل خلاله طابع معين خاص بتلك الفترة المعنية من نمو الطفل، فإن الوضع عند الشخص البالغ يُظهر اختلافات فردية أكبر بكثير. أثناء النمو الفردي للشخصية، يتميز الوضع الداخلي للطفل بالرغبة في تولي مكانة جديدة وأكثر نضجاً في الحياة، وتتكون رغبة عند الأطفال خلال فترة النضج تجاه تلك المكانة أو الوضع الذي يلبي احتياجاته، وفي مرحلة لاحقة تبدأ الرغبة تجاه المحافظة على هذه المكانة أو الوضع الذي اتخذه في وقت سابق، والذي يترافق فقدانه بحكم التقدم في العمر مع ظهور أزمات، ولكن هذه الأزمات لا تعني بداية مرحلة جديدة من النمو، بل تعني عملية ذبول وتلاشي لقدرات الشخص السابقة.
ولكن دعونا نعود إلى أزمة سن السبع سنوات؛ في هذه المرحلة، يدرك الطفل لأول مرة وجود تناقض بين وضعه الاجتماعي الموضوعي ووضعه النفسي الداخلي؛ فإذا لم يتم الانتقال إلى مكانة جديد على الفور، يصبح الطفل غير راض، وعدم الرضا هذا سيحدد سلوك الطفل خلال الفترة الانتقالية.
ومن المثير للاهتمام أن هذه الصعوبات كانت واضحة تماماً عندما بدأ الأطفال الدراسة في سن الثامنة، إلا أن هذه الصعوبات ذاتها كانت عند حدها الأدنى عندما دخل الأطفال إلى المدرسة في سن السابعة أي قبل عام واحد. وبالتالي، فإن أزمة السبع سنوات من العمر تنطوي أيضاً على عدم تلبية حاجة معينة، والتي تنشأ عن ظهور بنية نفسية جديدة خلال هذه الفترة.
وهكذا، فإن الوضع الداخلي لتلميذ المدرسة والمحتوى الخاص به يشكل البنية المركزية الجديدة للشخصية التي مهّدت لها فترة ما قبل المدرسة واكتملت في نهاية تلك الفترة. وهذا بدوره يمثل أيضاً مرحلة جديدة في تكوين شخصية الطفل.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما هي عمليات النمو النفسي في مرحلة ما قبل المدرسة التي تؤدي إلى تكوين هذا البناء الجديد؟ كيف يتم إعداده، وما هي سماته النمائية بالتحديد؟ للإجابة على هذه الأسئلة دعونا نبحث جانبين أساسيين من النمو النفسي المكون لشخصية الطفل ما قبل المدرسة: الأول: النمو الأخلاقي، والثاني: النمو المعرفي، الذي يؤدي إلى ظهور نظرة وإدراك محدد للعالم.
إن التطور الأخلاقي لطفل ما قبل المدرسة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتغيرات في طبيعة علاقاته المتبادلة مع البالغين، وأيضاً مع ظهور المفاهيم والمشاعر الأخلاقية، والتي أطلق عليها فيجوتسكي البُنى الأخلاقية الداخلية المرجعية (أ) internal ethical structures of reference. وتمت دراسة مسار النمو هذا جيداً نسبياً في علم نفس الطفل وتمت مناقشته في كتاب دانييل إلكونين Daniil Borisovich Elkonin (4) وفي أعمال ليديا بوجوفيتش(5).
يربط إلكونين El konin ظهور البُنى الأخلاقية المرجعية بالتغيرات في العلاقات بين البالغين والأطفال. يكتب أنه في مرحلة الطفولة السابقة للمدرسة، على عكس الطفولة المبكرة، يتطور نوع جديد من العلاقات؛ وهذا يخلق وضعاً اجتماعياً مُحَدِّدَاً للسمات النمائية في هذه الفترة.
إن نشاط الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، تتم بشكل رئيسي بالتعاون مع البالغين؛ في فترة ما قبل المدرسة، يصبح الطفل قادراً على تلبية العديد من احتياجاته ورغباته بشكل مستقل، ولا يصبح قادراً على التصرف فحسب، بل يسعى للتصرف باستقلالية. ونتيجة لذلك، يبدأ النشاط المشترك مع البالغين بالتضاؤل؛ ولكن في الوقت نفسه، تستمر عملية إدماجه في حياة وأنشطة البالغين.
إلا أن علاقة الطفل العاطفية السابقة بالبالغين لا تختفي ولا تتضاءل، بل يظل البالغون بمثابة مركز ثابت تتمحور حوله حياة الطفل، وهذا يخلق لدى الأطفال الرغبة في المشاركة في حياة البالغين والتصرف وفقاً لتصرفاتهم. لا يريد الطفل إعادة إنتاج أفعال معينة يقوم بها شخص بالغ فحسب (كان هذا هو الحال بالفعل في مرحلة الطفولة المبكرة)، بل يريد أيضاً تقليد جميع الأشكال المعقدة لنشاط الشخص البالغ وأفعاله وتفاعلاته مع الآخرين، أي نمط حياة البالغين بأكمله.
في الواقع، إن الطفل غير قادر بعد على تحقيق هذه الرغبة، ويبدو أن هذا يفسر سبب ازدهار لعب الأدوار الإبداعية خلال فترة ما قبل المدرسة، حيث يستنسخ الطفل مواقف مختلفة من حياة البالغين، فيبدأ بتمثيل سلوك ونشاط الشخص البالغ بشكل مُتخيل. وهذا يمكّن الطفل من أن يدرك بطريقته الخاصة أنه ما زال غير قادر على تحقيق هذه الرغبة. وقد أوضح ليف فيجوتسكي هذه النقطة عندما كتب: " إن بروز لَعِب التمثيل، لهو دليل مُباشر على نُضج الاحتياجات غير القابلة للتحقيق الفوري خلال مرحلة الطفولة السابقة للمدرسة"(6). ويُتابع فيغوتسكي: "يجب النظر إلى اللعب هنا، كعملية تحقيق وهمية ومتخيلة، لرغباتٍ غير قابلة للتحقيق"(7). يجب التأكيد هنا على أن اللعب لا يعتمد على ردود الفعل العاطفية الفردية، بل على الرغبات العاطفية الغنية (على الرغم من عدم إدراكها بوعي من قِبَل الطفل نفسه).
ولهذه الأسباب يصبح لعب الأدوار الإبداعي، حسب وصف فيغوتسكي، "النشاط الرائد (الرئيسي) لطفل ما قبل المدرسة"(8)، والذي تتشكل فيه العديد من خصائصه النفسية، وأهمها القدرة على الاسترشاد بالبُنى الأخلاقية المرجعية.
وبطبيعة الحال، إن الطفل لا يطور قدراته الجديدة أو يستوعب معايير السلوك الاجتماعية فقط عن طريق اللعب. في سياق الحياة اليومية، هناك العديد من المسؤوليات الملقاة على عاتق الأطفال من قِبل البالغين: كالنظافة والتنظيم والتعامل بلطف والمراعاة والضمير، وما إلى ذلك. ويتم تشجيع الطفل على تلبية هذه المعايير، كما يتم توبيخهم أو حتى معاقبتهم عند مخالفة ذلك. إن تشجيع الطفل خلال هذه الفترة من قبل البالغين وخاصة الوالدين، يعني الكثير بالنسبة له لدرجة أنه يحاول جاهداً لاكتساب هذه الصفات وجعلها جزءا من سلوكه.
وهكذا، خلال الأنشطة العملية للحياة اليومية، يتعلم طفل ما قبل المدرسة عادات السلوك ويكتسب معرفة عامة إلى حد ما بالعديد من المعايير الأخلاقية التي توجه سلوكه وتساعده على التمييز بين الخير والشر. وهنا، يؤدي اللعب أيضاً وظيفةً فريدةً ومهمة جداً في النمو الأخلاقي للطفل. حيث أنه عند قيامه بلعب دور الشخص البالغ، يميز القواعد والأعراف المقبولة في بيئته الاجتماعية ويجعلها قواعد لسلوكه في اللعب. فعلى سبيل المثال، عند قيام طفلة بلعب دور الأم، ستُظهر الاهتمام والعطف بـ "طفلها"، وستعتني به وتعد له طعامه وتوبخه وتعاقبه على سوء سلوكه وتحاول أن تكون عادلة معه. بمعنى آخر، تحاول في اللعب أن تجسد السلوك الذي تبنته كمثال.
أجرى دانييل إلكونين تجربة مثيرة للاهتمام في هذا الصدد. كانت التجربة عبارة عن نموذج لتجربة قام عالم النفس الانجليزي جيمس سوللي James Sully ذات مرة: قرر طفلان يبلغان من العمر خمسة وسبعة أعوام، لعب دور الممرضة، وفي لعبتهما لم يتصرفا كالمعتاد، بل تصرفا كممرضات بشكل مثالي. حيث طلب الكونين من بناته أن يلعبن دور الممرضة، فوجئت الفتيات ولكنهن قبلن الطلب، لم تنشأ، خلال اللعبة، صراعات وخلافات، لأنهن وفقاً لقواعد اللعبة، تصرفن تجاه بعضهن البعض بالطريقة التي يجب أن تتصرف بها الأخوات: الكبرى ترشد الصغرى، والصغرى تطيع الكبرى وتظهر لها احترام الواجب.
من الواضح مما قلناه، أن اللعب يساعد الأطفال على إدراك وتصور معايير السلوك الأخلاقية المقبولة اجتماعياً. بالإضافة إلى ذلك، إن الطفل يستوعب هذه المعايير أثناء اللعب، باعتبارها معايير خاصة به وليس كمعايير مفروضة من الخارج، إن اللعب عبارة عن آلية تترجم متطلبات البيئة الاجتماعية إلى احتياجات الطفل الخاصة. حيث يحدد الطفل بنفسه كيف يجب أن يتصرف في موقف معين ولا يتوقع موافقة من حوله على ذلك، ومكافأته هي الشعور بالرضا عن النفس والسرور الناتج عن قيامه بالدور الذي يلعبه.
وبالتالي، نتيجة لسلوكه اليومي واتصاله بالبالغين، وفي النشاط العملي للعب الأدوار، يطور طفل ما قبل المدرسة معرفةً عامة معينة بالعديد من الأعراف الاجتماعية؛ لكن هذه المعرفة لا يدركها الطفل بشكل واعي تماماً: فهي تظل مرتبطة بشكل مباشر بتجاربه العاطفية الإيجابية أو السلبية. بمعنى آخر، لا تزال البُنى الأخلاقية المرجعية الأولى بُنى عامة بسيطة نسبياً، والتي تشكّل مع ذلك بذور تلك المشاعر الأخلاقية التي ستعمل لاحقًا كأساس لتطوير مشاعر وقناعات أخلاقية كاملة.
إن البُنى الأخلاقية المرجعية توفر لأطفال مرحلة ما قبل المدرسة أسساً أخلاقية لسلوكهم؛ وهذه، وفقًا للبيانات التجريبية(9)، قد تكون أقوى في تأثيرها من أي احتياجات مباشرة أخرى، بما في ذلك الاحتياجات الأساسية.
على أساس العديد من الدراسات التي أجراها اليكسي ليونتيف Aleksei Nikolayevich Leontiev وزملاؤه، اقترح أن فترة ما قبل المدرسة هي الفترة التي يظهر فيها نظام من الدوافع المنسّقة التي تشكل وحدة الشخصية لأول مرة، وبالتالي ينبغي النظر جيداً في هذه الفترة، ووفقاً لما يقوله ليونتييف، فهي فترة "أول تشكّل فعلي للشخصية". ومن وجهة نظره، فإن نظام الدوافع المنسقة هذا يبدأ في توجيه سلوك الطفل وتحديد كل مراحل تطوره اللاحقة.(10)
ومع ذلك، ينبغي أن يتم دعم هذا الموقف الصحيح بشكل عام ببعض النتائج من الأبحاث السيكولوجية اللاحقة. في مرحلة ما قبل المدرسة لا يتعلق الأمر ببساطة بتنسيق الدوافع، والتي بدونها لا يمكن لأي كائن حي أن يتصرف بشكل هادف: فعندما يعاني الطفل الرضيع من عدم تلبية حاجاته (الجسدية أو الحسية)-مثل الجوع، فإن جميع احتياجاته الأخرى تخضع لهذا الدافع المهيمن (الجوع)، وبالتالي يبدأ في التصرف بشكل يتمحور حول جوعه.
لا تتنسق الدوافع ببساطة في تسلسل هرمي في فترة ما قبل المدرسة: بل تتنسق مستقر نسبياً بشكل مرن ومُتبادَل. في أعلى قائمة الأولويات هذه توجد الدوافع البشرية على وجه التحديد، أي تلك الدوافع المُتوسّطة بُنيوياً. وتتوسط هذه الدوافع في مرحلة ما قبل المدرسة، نماذج سلوك ونشاط البالغين وعلاقاتهم المتبادلة وأيضاً الأعراف الاجتماعية، كما هي مُثبّتة في البُنى الأخلاقية المرجعية المعنية.
وبسبب الجاذبية العاطفية والتأثير الكبير للنماذج والأعراف الاجتماعية التي يتم استيعابها بمساعدة البالغين، تبدأ هذه المعايير في العمل كدوافع قوية توجه سلوك الطفل ونشاطه. وفي عدد من الحالات، يكون الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة قادرين بالفعل على التغلب على رغباتهم الخاصة والتصرف وفقاً للدافع الأخلاقي لـ "الواجب". وإذا كان هذا يحدث، فهذا ليس لأن الأطفال في هذا العمر قادرون بالفعل على توجيه سلوكهم بوعي، ولكن لأن إحساسهم الأخلاقي لديه قوة تحفيز أكبر من الدوافع الأخرى. وهذا يمكّن الطفل أيضاً من التغلب على الدوافع الداخلية المتنافسة في صراع عفوي لا يستطيع الطفل نفسه السيطرة عليه. بمعنى آخر، يُظهر الأطفال الأكبر سناً في مرحلة ما قبل المدرسة إرادية عفوية، تعمل على استقرار سلوكهم وتوحيد شخصيتهم.
وهكذا فإن بنية الدوافع الهرمية المستقرة نسبياً، التي تظهر لدى الطفل في نهاية مرحلة ما قبل المدرسة، تحوله من كائن مرتبط بوضعه وخاضع لتأثيرات المحفزات المباشرة واللحظية، إلى كائن يمتلك وحدة داخلية منظمة، بحيث يكون قادر على الاسترشاد بالرغبات المستقرة والمرتبطة بمعايير الحياة الاجتماعية التي استوعبها. إن هذا يمثل مرحلة جديدة في تكوين شخصية الطفل، وهي المرحلة التي دفعت ليونتيف الى الإشارة إلى فترة ما قبل المدرسة على أنها فترة "أول تشكّل فعلي للشخصية".
ولفهم كيفية انعكاس جميع عمليات النمو هذه على وعي الطفل وتجاربه ولفهم طبيعة إدراك الطفل لذاته وموقفه تجاه موقعه في الحياة والذي أشرنا إليه سابقاً بالوضع الداخلي للطفل، يجب علينا تحليل خط آخر من النمو النفسي لمرحلة ما قبل المدرسة، وهو مستوى فكر الطفل وخصائصه المحددة.
إن الطفل يتعلم قدراً هائلاً بين سن الثالثة والسابعة، ففي هذه الفترة يتعلم الكثير عن العالم من حوله ويكتسب السيطرة على العديد من العمليات الفكرية المختلفة لدرجة أن العديد من علماء النفس والتربويين في الماضي افترضوا أن الطفل يمرَّ في مُعظم مراحل نموه الفكري خلال فترة ما قبل المدرسة، وبعد ذلك لا يكون عليه سوى أن يكتسب المعلومات العلمية الواقعية.
إن هذا الرأي يبدو صحيحاً للوهلة الأولى. صحيح أن الطفل (خاصة في نهاية فترة ما قبل المدرسة) يكون قادراً على الملاحظة والتعميم واستخلاص النتائج وإجراء المقارنات. وتتطور لديه الرغبة في النظر في أسباب الأشياء ويكتشف بنفسه العلاقات والروابط بين الأشياء، ويتجلى ذلك على سبيل المثال، في الإصرار المزعج أحياناً لسؤال الطفل للبالغين باستمرار "لماذا؟" خلال النصف الأول من فترة ما قبل المدرسة.
قد يكتفي الأطفال غالبًا بالإجابات الأكثر سطحية وحتى السخيفة منها؛ وبالرغم من ذلك، لا بد أن يحصلوا على بعض الإجابات لأنفسهم، وإن لم يتم تقديم أي إجابة، فسيجد الطفل أحدها لنفسه، وفقاً للمنطق الخاص بعمره. والحقيقة أن هذه الأسئلة تقلق الطفل كثيراً؛ لارتباطها الوثيق بعلاقته العاطفية العامة بالعالم المحيط به.
سأل طفل يبلغ من العمر ست سنوات والدته عما إذا مات الجميع في منزل ما، هل سيصبح هذا المنزل فارغاً ومهجوراً؟ أجابت الأم "إذا مات الجميع، فلن يكون منزلهم خالياً أبداً، لأنه عندما يموت الوالدان، يُترك الأطفال في المنزل، ثم أطفال الأطفال، وهكذا سيكون الأمر دائماً. طمأنت هذه الإجابة الطفل وأبهجته. يشير هذا إلى أن وعي طفل ما قبل المدرسة لا يحتوي فقط على صور معزولة ورسومات ومعرفة مجزأة، بل يُظهر أيضاً تصوراً ومفهوماً متكاملين معينين للواقع المحيط والعلاقة به. يمكن القول أن الطفل لديه رؤيته الخاصة عن العالم، بما في ذلك علاقته مع الآخرين الذين هم في النهاية جزء من هذا العالم.
أظهرت الدراسات النفسية أنه خلال فترة ما قبل المدرسة يكتسب الطفل إحساساً معيناً بالذات. وبالطبع، فهو ليس مثل (إدراك الذات) الذي نجده عند الأطفال الأكبر سناً، ويختلف أيضاً عن مفهوم الذات لدى الأطفال الأصغر سناً. حيث أن الأطفال الأصغر (من سن الثانية إلى الثالثة) عادةً ما يعتبرون أنفسهم جيدين وطيّبين، بغض النظر عن أي شيء. في المقابل، يعتمد المفهوم الذاتي الذي تشكّل لدى أطفال ما قبل المدرسة على تقدير اكتسبوه بطريقة ما لفعالية تصرفاتهم وتقديرات من حولهم وموافقة والديهم. يمكننا القول أنه خلال هذه الفترة تتشكل لدى الأطفال نظرة فريدة للعالم؛ وتتضمن هذه النظرة تصوراً عاماً معيناً عن العالم وموقفاً تجاهه وتجاه الذات داخل هذا العالم.
لكن لا يكفي مجرد القول بأن الوعي والنظرة الى العالم اللذين نجدهما عند أطفال ما قبل المدرسة يمتاز بطابعٍ خاص وفريد. بل يجب علينا معرفة ما هي الخصائص المحددة لهذه النظرة، وما هي الخصائص النفسية المتعلقة بها التي تميز الأطفال الأكبر سنا في سن ما قبل المدرسة والتي يدخلون بها إلى الحياة المدرسية، والتي لا تتغير حتى نهاية سنوات الدراسة الابتدائية نتيجة التعليم المدرسي.
ان نظرية فيغوتسكي حول المفاهيم العلمية ومفاهيم الحياة اليومية، مُتعلقة بما قيل أعلاه. يقول إنه قبل أن يبدأ الطفل بالتعلم في المدرسة وباستيعاب مختلف نظم المفاهيم العلمية المتعلقة بمجالات الواقع المختلفة بطريقة منظمة، يكون لديه بالفعل معرفة معينة استمدها من حياته العملية اليومية ومن اتصاله بالآخرين، وتشتمل هذه المعرفة على نظام من التعميمات التي قام بها الطفل بنفسه. وتشير نتائج العديد من الدراسات النفسية إلى أن هذه التعميمات لها سمات متشابهة لدى جميع الأطفال من نفس الفئة العمرية، حيث يتم الاحتفاظ بها بشكل راسخ في وعي الطفل، كما أنها مُقاومة للتغييرات المفروضة من الخارج، ولا تتغير إلا تدريجياً في عملية التعليم المدرسي. إن دراسة هذه التعميمات تتيح لنا فهم ما هو فريد نوعياً في وعي الطفل.
تُظهر الدراسات النفسية للمفاهيم اليومية، أولاً، أن التعميمات التي تقوم عليها غير مُنتظمة، وثانياً، أنها على الرغم من ذلك فهي تمكّن الطفل من التصرف بشكل مناسب في العالم من حوله. وعلى حد تعبير فيغوتسكي، على الرغم من أن الأطفال لا يدركون المعايير الحقيقية التي تميز الحي عن الجماد، إلا أنهم لا يخطئون في تصنيف الأشياء في فئات محددة (أحياء، جمادات). وباستخدام بعض المعايير أو غيرها، فإنهم يتعرفون بشكل صحيح على الأشياء ذات الأصل الطبيعي أو الاصطناعي، على الرغم من عدم معرفتهم الواعية بجميع المعايير الحقيقية التي يستخدمونها في القيام بهذا التمييز.
تم الكشف بوضوح تام عن هذا التفرد في فكر الطفل من خلال دراسة تجريبية مصممة خصيصاً لبحث هذه المسألة. (11) كانت طريقتنا على النحو التالي: تم عرض شيء معين على الأطفال (بشكل فردي) ثم تم عرض شيء آخر وسئلوا عما إذا كان سيطفو أو يغرق مثل، عصا أو مسمار أو كرة أو علبة من الصفيح أو فلين، وما إلى ذلك. ثم اختبر الطفل إجابته عمليا. تبيّن أن تلاميذ المدارس لم يخطئوا أبدًا في إجاباتهم على الرغم من أنهم لم يدرسوا بعد مبدأ أرخميدس (تبين لاحقاً أنه حتى الأطفال في منتصف وأواخر سن ما قبل المدرسة لم يخطئوا أيضاً). وعندما سُئلوا عن سبب طفو شيء ما أو غرقه، قدموا تفسيرات صحيحة جزئياً، إلا أنها لا يمكن أن تكون بمثابة أساس حقيقي وعلمي لأحكامهم؛ وبالتالي، وعلى الرغم من أن الأطفال قد يكون لديهم موقف صحيح تجاه ظاهرة معينة، إلا أنهم في الواقع لا يبنون أحكامهم على السمات التي ذكروها فقط.
إليكم إحدى المحادثات التي أجريناها مع صبي يبلغ من العمر سبع سنوات كمثال. سُئل عما إذا كانت الكرة المطاطية ستطفو أم تغرق. فأجاب: "بالطبع سوف تطفو". "لماذا؟" "لأنها خفيفة" "والمسمار؟" "المسمار سيغرق"، " لماذا؟ أليس المسمار أخف من الكرة؟" "نعم، ولكنه مصنوع من الحديد" "ولكن ماذا عن علبة الصفيح؟" "سوف تطفو." "لكنها مصنوعة من الحديد أيضًا." "لكن لها أرضية مُسطحة" الخ.
من الواضح تماماً أن الطفل استخدم الخاصية التي ذكرها كتفسير فقط استجابةً لمطالب الشخص البالغ. ولم يكن واعياً بالأساس الحقيقي لحكمه. كما أنه لم يكن واعياً بالتناقض في أحكامه. إن تنبؤاته، التي كانت صحيحة تماماً، هي في الواقع مبنية على معرفة معينة (مباشرة) كانت في حد ذاتها مبنية على بعض التعميمات، التي لم يكن هو نفسه مدرك لها، والتي كانت تعادل مفهوم الثقل النوعي للأشياء(ب).
هناك أيضاً تعميمات لاواعية تظهر في الكلام والتواصل العملي، والتي تولد إحساساً باللغة لدى الأطفال قبل وقت طويل من تعلم قواعد هذه اللغة في المدرسة. وهذه الحاسة تمكنهم من فهم كلام البالغين والتعلم بسرعة مذهلة، وحتى ابتكار كلماتهم وعباراتهم الأصلية كما لو كانوا يعرفون القواعد التي تقوم عليها هذه اللغة. وبنفس الطريقة بالنسبة للمعرفة الأخلاقية التي تعتمد أيضاً بشكل أساسي على نظام من التعميمات اللامُدرَكة بشكل كامل، والتي بدورها تحدد طبيعة معينة لفهمهم ولعلاقتهم بالواقع.
لدى البالغين أيضاً العديد من هذه المفاهيم، والتي يستخدمونها بشكل صحيح على أساس بديهي؛ لكنهم غير قادرين على نقل هذه المفاهيم إلى الوعي الكامل للأطفال وعلى شرحها شرحاَ دقيقاَ وشاملاً. ومع ذلك، فإن مثل هذه المفاهيم لا تحتل مكانة مهيمنة في وعي الأطفال. ومن ناحية أخرى، قبل دخول الأطفال إلى المدرسة وقبل اكتسابهم المفاهيم العلمية، فإن هذا النوع من التعميم هو السمة المميزة لوعيهم وهو الذي يحدد طبيعة تصورهم للعالم الحقيقي وعلاقتهم به. ومن ثم، فعندما نقول إن الطفل يصبح واعياً بذاته أولاً كذات لأفعاله، ثم لاحقاً كذات اجتماعي (الذات ضمن العلاقات الاجتماعية المتبادلة)، فإننا نعني أن هذا "الوعي" هو أكثر من مجرد عملية بديهية وأكثر من مجرد عملية عقلانية فقط. ولهذا السبب وإذا ما أردنا استخدام مصطلح سيتشينوفSechenov، سيكون من الأدق أن نطلق على نظرة طفل ما قبل المدرسة للعالم توصيف "الإدراك الحسي التكاملي للعالم".
إن طبيعة هذا النوع من التفكير لا تزال غير واضحة تماما. حتى دراسات جان بياجيه عن "الفكر ما قبل العملياتي لدى الطفل"، المتميزة بدقتها وإحكامها، لا تساعدنا هنا، فلا "الفكر الرمزي" للطفل، المبني على العلامات الحسية الحركية، ولا الفكر خلال مرحلة "العمليات الملموسة" تلقي أي ضوء على آلية تكوين وعمل تلك المفاهيم الحياتية اليومية المعقدة (على سبيل المثال، مفهوم الثقل النوعي) التي يمتلكها الطفل ويستخدمها لفهم العالم والأشياء من حوله، والتي لا تزال بعيدة المنال عن مستوى تفكيره المنطقي. لم تكن مجرد نزوة اعتباطية هي التي دفعت بياجيه إلى اضفاء طابع سلبي على الفكر ما قبل العملياتي (وهنا يكمن ضعفه) مقارنة بالفكر العملياتي. لقد اعتبره مرحلة مبكرة وأكثر أولية في تطور الفكر المنطقي (المُحمّل بعلامات اجتماعية). لكن الفكر على مستوى المفاهيم اليومية ليس مرحلة، بل هو نوع خاص من الفكر له خصائصه وطريقه في النمو. هذا الشكل من التفكير هو غير واعٍ بالنسبة للشخص الذي لا يتحكم فيه -اي بالتفكير- بوعي؛ ومع ذلك، فهو، في التحليل النهائي، قادر على تحقيق نتائج إبداعية لا تقل وربما أعظم من التفكير المنطقي.
يركز العديد من الباحثين جهودهم اليوم، على دراسة الفكر البديهي، ولكن لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه عن جوانبه النفسية. ومع ذلك، وبحلول نهاية فترة ما قبل المدرسة، يكون الطفل قد اكتسب من خلال تطوير قدراته المعرفية، القدرة على الوعي الذاتي (بالشكل الفريد الذي وضحناه في هذا المقال)، وبحلول ذلك الوقت يكون قد تشكلت وحدة موضوعية ومحددة ووعياً بالمكانة التي يشغلها. إن وعي الطفل بذاته الاجتماعية وبوضعه الداخلي الذي يتشكل على أساسها، أي علاقة تكاملية معينة مع العالم الخارجي ومع نفسه، يولد احتياجات ورغبات معينة لدى الطفل. وبطبيعة الحال، فإن الأطفال في هذا العمر لا يدركون تماماً الأسس التي تقوم عليها هذه الاحتياجات الجديدة، ولكنهم يعرفون ما يحتاجون إليه وما يرغبون فيه. نتيجة لذلك، فإن اللعبة التي ملأت حياة الطفل طوال فترة ما قبل المدرسة بأكملها بمشاركة وهمية في حياة البالغين ذات الأهمية الاجتماعية، فإنها بحلول نهاية هذه الفترة، تتوقف عن إرضاء الطفل. وتظهر حاجة جديدة لتجاوز حدود أسلوب حياته الطفولي، ورغبة في تولي مكانة جديدة للانخراط في نشاط اجتماعي جدّي. وإن تعذّر تلبية هذه الحاجة تؤدي إلى إزدياد أزمة السبع سنوات.
هذا إذن هو محتوى الوضع الداخلي الذي يتطور لدى الطفل في فترة ما قبل دخوله المدرسة والذي يحدد خصائص نموه خلال فترة المدرسة الابتدائية. إن وضع نفسية الطفل الداخلية خلال هذه المرحلة يضعف في البداية، ثم يتغير محتواه، وذلك لارتباطه بتطور مستوى جديد من الوعي الذاتي الذي يميز أزمة سن المراهقة؛ ولكن هذه المسألة سنقوم ببحثها في المقال القادم.
* ليديا إليينيتشنا بوجوفيتش 1908-1981، عالمة نفس ماركسية وتلميذة لليف فيغوتيسكي.
دَرَسَت في جامعة موسكو وأجرَت أُولى تجاربها السيكولوجية حول المُحاكاة تحت إشراف فيغوتيسكي في الثلاثينيات. عَمِلَت كمُدرسة في مدرسة المصحة النفسية العصبية، ومن ثُم في أكاديمية التعليم الشيوعي في قسم السيكولوجيا الذي كان يرأسه فيغوتيسكي عام 1931. دافَعَت عام 1939 عن اطروحتها للدكتوراة حول مسائل استيعاب التهجئة. عَمِلَت في معهد الأبحاث السيكولوجية التربوية التابع لأكاديمية العلوم التربوية السوفييتية، وترأست منذ عام 1945 مُختبر سيكولوجيا تشكّل الشخصية الذي أنشأته، حتى عام 1975. كانت بوجوفيتش مُتخصصة في سيكولوجيا الطفل ومسائل نموه وتشكّل دوافعه. كَتَبَت بوجوفيتش عشرات المقالات والأبحاث وأجرت عدداً من التجارب السيكولوجية.

أ‌) البُنى الأخلاقية المرجعية: أي المفاهيم والمشاعر الأخلاقية التي يكتسبها الطفل خلال الفترة العمرية (3 سنوات إلى 7 سنوات) والتي تشكّل أساسا للنمو المعرفي والأخلاقي اللاحق للطفل.

ب‌) الثقل النوعي لجسم ما هي كثافة ذلك الجسم مقسومة على كثافة الماء. كثافة الماء تساوي 1000 كيلوجرام لكل متر مكعب. على سبيل المثال، تبلغ كثافة الذهب 19300 كيلوجرام لكل متر مكعب. وبالتالي فإن الوزن النوعي للذهب هو 19.3.

1- L. I. Bozhovich, [Stages in the formation of personality in ontogeny]. Vop. Psikhol., 1978, NO. 4.
2- For a detailed discussion of this, see Izv. APN RSFSR, 1951, No. 36 and L. I. Bozhovich, [The personality and its development in childhood]. Moscow, 1968. P. 446.
3- ربما يكون من الأدق الحديث هنا ليس عن الوعي، بل عن تجربة الذات كذات اجتماعية، لأن هذه التجربة تتحقق بشكل خاص وفريد للأطفال في هذا السن. ولكننا سنتناول هذاه المسألة عندما نتناول طبيعة فكر ووعي طفل ما قبل المدرسة.
4- D. B. El konin, [Child psychology]. Moscow, 1960. P. 316.
5- L. I. Bozhovich, [The personality and its formation in childhood]. Moscow, 1968. P. 446.
6- L. S. Vygotsky, [Play and its role in the child s mental development]. Vop. Psikhol., 1966, No. 6, p. 63.
7- Ibid. P. 64.
8- Ibid. P. 62.
9- See, for example, studies published in the book D. B. El konin, [Child psychology]. Moscow, 1960. P. 316.
10- A. N. Leont ev, [The child s mental development in the preschool period]. In [The psychology of the preschool child]. MOSCOW, 1948. Pp. 4-15.
11- L. I. Bozhovich, [A psychological analysis of formalism in school learning]. Sovet. Pedagog., 1945, No. 11.

ترجمة لمقال: L. I. Bozhovich (1980) Stages in the Formation of the Personality in Ontogeny, Soviet Psychology, 18:3, 36-52








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي