الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التشحير والتجريس

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2024 / 1 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التشحير والتجريس
الجذور اللغوية لمفهاهيم حمصية
كان يسكن بجانبنا جيران أيام الطفولة في أحد الأحياء الشعبية ، وكان عندهم كثير من الأولاد ، فعندما تريد الأم أن تنادي على بنتها في الشارع، تمد رأسها من طرف الباب وتصيح حتى تسمعها الحارة كلها: يا مشحّرة.. فوتي لجوّة.(أي أدخلي).. ثم تتبعها بعبارة.. والله لأقول لأبوك ياحسن صبي.. ومرة نشبت طوشة بين هذه المرأة وبين جارة أخرى فصاحت بأعلى صوتها شاتمة تلك الجارة : يامجرسّة.. ويافلتانة..
كنا نضحك ونحن صغار على شجار نسوان الحارة، لكن لم أستطع أن أفك شيفرة فلانة مشّحرة وأخرى مجرسّة. وعرفت فيما بعد أن هاتين العبارتين يمكن أن تطلقا على المؤنث والمذكر. فيقال فلان مشحّر أو فلان مجرّس. سألت في شبابي أحد عجائزالعيلة عن معنى هذه الألفاظ، فجاوبني ضاحكاً. أنها قصة ترتبط بالتاريخ العثماني القديم وسياسته حيال الناس في محاكمة المجرمين والمعارضين له. بشكل عام، فإن التشحّير يساوي التجريس، فهما عمليتان تفيد التعريض والذم بمن يخالف أو يعارض قانون السلطان أو الوالي.
فمن كان يسرق أو يعارض أو يغش، يضعه صاحب الشرطة على جحش ويكون ركوبه بالمقلوب، أي يمشي الجحش في جهة ووجه المجني عليه في جهة أخرى، ويطلى وحهه بالشحّار فيصبح أسود .
والشحّار هو مادة الكربون ناتج عن نقص في أحتراق الأخشاب، فكما هو معروف فإن إحتراق المواد العضوية ينتج عنه بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، أو أول أكسيد الكربون والحرارة والكربون الذي يتجمع على أطراف الموقد. فيأخذ هذا الشحّار ويطلى كما قلنا وجه المخالف لمراسيم السلطان أو المخالف للعرف. ويُدار في الحارات على حمار أسود مثل وجهه. ويجر الجحش رجل يعيّنه الآمر، ينادي بأعلى صوته : ياناس وياهو.. هذا قد فعل كذا من الغش والسرقة أو الجريمة.. فيتوافد الناس حاملين ماتيسر لهم من خضار معفنة يضربونه بها وخاصة البندورة. ومايصل الرجل لبيته أو السجن في آخر النهار حتى تزين بكل أنواع الخضار المعفّنة أو البيض الفاسد. هذه التعريض هو نوع من الردع والفضيحة، ويظل التشحير واسوداد الوجه يتبعه طوال عمره. فيما بعد، لا أحد يتعامل معه وتستنكره الناس. ومن هنا أتى اسوداد الوجه، إذا يقال فلان سوّد وجهنا، أو لقد أسود وجهنا أي طلي بالشحار، وهذا عكس ابيضاض الوجه. أي وجه نظيف ليس فيه شحّار ولم يلحقه عاارُ أو عيبٌ.
أما التجريس فهي عملية مشابهة. فمن فعل العيب وخالف العرف، يركبونه أيضاً على جحش أسود بالمقلوب ويضعوا في عنق الحمار جرس يطنطن على مشية الحمار وتسمعه الحارات ويفعل الناس بهذا المجرّس كما يفعلون بالمشحّر، برجمونه بما تيسر لهم من بيض وخضار تالفة. كان هذا نوع من العقاب في العهد العثماني وحتى في عصر المماليك. وقد تحدث المقريزي عن عقوبات أرذل من ذلك يقف لها شعر الرأس.
وفي العودة على مفردة المشحّر والمشحّرة، ففي الغالب يتحول هذا المشحّر لإنسان مسكين لايرفع عينه في وجه أحد بعد تلك الفضيحة المجلجلة، وفي الغالب يصبح بلا عمل ولايحتمل حتى قوت يومه. فيصبح كما قلنا من المساكين المشردين يرمي له هذا بلقمة وذاك برغيف. أي يصبح مثل دراويش الحي. وهنا تغير المفهوم مع مرور الزمن فلم يعد معنى المشحّر أو المشحّرة مرتبط فقط بإسوداد الوجه، لكن أصبح لها معنىً مرافقاً للمعنى الأول ومغايراً له. ففي مدينة حمص أصبح المشحّر هو الإنسان المسكين، أو الانسان الفقير الذي لايقدر حتى على إطعام نفسه. فيقال فلان مشحّر أي مسكين يستحق الصدقة. أما مفهوم المجرّس بقي على حاله، فهو الإنسان الذي لحقته الفضيحة والعار. وعندما كنت في زيارة طويلة لحمص، كنت أتابع هذه المفاهيم اللغوية التي يتداولها أهل الأحياء الشعبية القديمة ، وكان معظهم لايعرف معناها أو جذورها التاريخية، وكنت أبحث عن أصولها.
بمعنى آخر، قد يتوقف المجتمع عن ممارسة عادة متبعة لسبب ديني أو تطور إجتماعي، لكن تظل الجذور اللغوية عائشة أو حية بين الناس يتداولونها دون معرفة امتداداتها التاريخية.
كانون نثاني- 2- 2024








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب