الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق

2024 / 1 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"إن الشرط الاساسي لنهضة الأمة، هي أن يتوفر لديها المبدأ الصالح الذي يحدد لها أهدافها وغاياتها، ويضع لها مثلها العليا، ويرسم اتجاهها في الحياة، فتسير في ضوئه واثقة من رسالتها، مطمئنة إلى طريقها، متطلعة إلى ما تستهدفه، من مثل وغايات مستوحية من مبدأ وجودها الفكري وكيانها الروحي، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر".
المقدمة:
ارتبط تدريس الاقتصاد منذ نشوئه بكونه جزءاً من فلسفة الاخلاق، حتى شرعت جامعة كامبردج بتدريسه بوصفه فرعاً مستقلاً عام 1903، عندما نجح الفريد مارشال(1842_1924) في اقناع الجامعة بذلك، وقبل أن يصبح الاقتصاد علماً مستقلاً، كانت جميع الافكار الاقتصادية لا تتعدى كونها نواتج عرضية لفلسفة الاخلاق واللاهوت والسياسة، بل إن مؤسسي علم الاقتصاد أنفسهم، كانوا من الفلاسفة.
يصف السيد محمد باقر الصدر كتابه في الاقتصاد بأنه محاولة تقديم صورة كاملة عن الاقتصاد الاسلامي، من مصادره وينابيعه، وقد سعى السيد الصدر تقديم صورة نظرية متكاملة للاقتصاد الإسلامي، منتظراً من العلماء والباحثين دراستها وتطويرها، وهي محاولة تأسيسية للاعتبارات الزمنية والعلمية معاً، فمن حيث الاعتبار الزمني، كانت المحاولة الأقدم من نوعها، إذ لم يسبق أحد في خوض هذا المضمار وتقديم صورة متكاملة ومتجانسة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، أما على الصعيد العلمي فهي تأسيسية نظراً لتوفر عناصر الابداع والابتكار، مع الاحتفاظ بعنصر الأصالة الفقهية، وبذلك إن محاولة السيد الصدر الرائدة لازالت تنتظر اهتمام المفكرين ومساهمتهم لتطوير الدراسات الاقتصادية الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال الدراسات الجادة والهادفة للبحث العلمي والتزاماً بالخلق الإسلامي، والابتعاد عن الدراسات العقيمة التي لا يقصد منها سوى المصالح الآنية من شهرة ووجاهة، إذ ليس من الموضوعية والإنصاف التنكر لمفكر إسلامي كبير، شهد له الداني والقاصي بجلالة القدر، وسعة الاطلاع، وطول الباع، وإلى يومنا هذا يحتل كتاب اقتصادنا مرتبة الصدارة، بصفته أبرز وأكثر الكتب تداولاً في مجال الاقتصاد الإسلامي في الكثير من الجامعات، فكلما دار الحديث عن الاقتصاد الإسلامي اتجهت الأنظار إلى كتاب (اقتصادنا)، إذ ظهر كتاب (اقتصادنا) في مرحلة تأريخيه حساسة للغاية، ذلك أن التيار الماركسي والأحزاب الشيوعية كانت قد أخذت تنتشر بشكل كبير في معظم الدول الإسلامية، فأعاد ظهور الكتاب الكفة لصالح التيارات الإسلامية، التي طالما كانت ترفع شعار قدرة الإسلام على تخطي عاملي الزمان والمكان ومواكبة جميع العصور، والتي أخفقت عندما وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام المد الماركسي والشيوعي المثقل بالمفاهيم والقواعد والأفكار والنظريات الاقتصادية والمصطلحات العلمية، كالقاعدة، والبناء العلوي، وعلاقات الإنتاج ومصادر الإنتاج، والثورة العمالية، وغير ذلك، ولا زال الكتاب يشكل مرجعاً للكثير من قواعد البنوك الإسلامية، حيث إنه كتاب يتحدث عن الاقتصاد الإسلامي ومزاياه ويتحدث عن أضرار الاقتصاديات الأخرى مثل الاشتراكية والرأسمالية وغيرها ويقارن بينها، وتميز الكتاب بأسلوبه الراقي وأسلوب النقاش الصحيح في تفنيد وتوضيح السلبيات التي تقع في الأنظمة الاقتصادية الأخرى، وكيف أن الاقتصاد الإسلامي هو الاقتصاد الذي يجب أن يكون لعدم وجود خلل به أو يؤدي إلى بعض الأمور والعقبات التي تخل بالاقتصاد، وهو يعد بحق أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة، من خلال استعراضها استعراضاً تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته.
الاقتصاد في اللغة والاصطلاح:
في اللغة العربية، يستعمل مصطلح الاقتصاد كمرادف للادخار أو لخفض الإنفاق، أي بين الإسراف والتقتير، وقد جاء في مختار الصحاح "القصد بين الاسراف والتقتير يقال فلان مقتصد في النفقة". أما الاقتصاد (Economy) في اللغة الإنكليزية فهو من أصل إغريقي قديم يدل على إدارة المنزل.
أما اصطلاحاً فيعرف الاقتصاد على أنه المجال الاجتماعي الذي يركز على الممارسات والنقاشات والتعبيرات المادية المرتبطة بإنتاج الموارد المحدودة واستعمالها وإدارتها، و اقتصاد مجتمع ما هو مجموعة العمليات التي تشمل ثقافته وقيمه وتعليمه وتطوره التقني وتاريخه وتنظيمه الاجتماعي وبنيته السياسية ونظامه القانوني، والجغرافي وموارده الطبيعية وبيئته، وهذه هي العوامل الرئيسة في الاقتصاد، و تعطي هذه العوامل سياقاً ومحتوى ومجموعة شروط ومتطلبات يعمل فيها الاقتصاد، وبعبارة أخرى، المجال الاقتصادي هو المجال الاجتماعي للممارسات البشرية المترابطة والمعاملات التي لا يمكن عزلها.
كما يشير المصطلح إلى الاقتصاد بالمعنى الواسع أو الحالة الاقتصادية لبلد أو منطقة ما، وهذا يعني وضعها الاقتصادي، أي يهتم علم الاقتصاد بأحد وجوه النشاط الإنساني في العالم، وهو النشاط الاقتصادي الذي يشتمل على جميع تصرفات الأفراد التي تتصل بكل من الإنتاج و التوزيع و الاستهلاك والتبادل، وما يتفرع عنها من ظواهر اقتصادية مثل التنمية والدخل والادخار والاستثمار والتضخم والدورات الاقتصادية والبطالة وغيرها، والنشاط الاقتصادي واحد من أهم جوانب السلوك الإنساني العام، ووحدة شخصية الإنسان تؤدي إلى انعكاس الأوضاع الاقتصادية في مختلف المجالات القانونية والسياسية والفكرية للمجتمع، وبذلك يعد علم الاقتصاد (economics) فرع من فروع العلوم الاجتماعية و هو العلم الذي يهتم بمشكلة الموارد النادرة أو المحدودة واستعمالها على نحو يسمح بالحصول على أكبر إشباع لحاجات المجتمع غير المحدودة، و بعبارة أخرى علم إدارة الموارد المحدودة لتلبية حاجات غير محدودة، فموضوعه هو الثروة الاجتماعية من جهة، وسلوك الإنسان الاقتصادي من جهة ثانية.
محطات الاقتصاد في فكر الفلاسفة:
يرى السيد الصدر أن كلمة الاقتصاد ذات تأريخ طويل في التفكير الإنساني، وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مر بها(1). إذ يعتبر الفكر الاقتصادي قديم قدم الإنسان وكان متداخلا مع الاعتبارات الفلسفية والدينية والسياسية ولم يقع الفصل بين البحث في الاقتصاد وفروع المعرفة الأخرى إلا حديثاً عندما ظهر الاقتصاد كعلم متميز الحدود، فعلم الاقتصاد حديث النشأة ويمكن اعتبار كتاب آدم سميث سنة 1776 ( ثروة الأمم ) أول دراسة منظمة للاقتصاد السياسي، غير أن هناك من يعتبر كتابات الطبيعيين السابقة لآدم سميث لها منهج علمي ويمكن أن تكون ايضاً منطلقاً لعلم الاقتصاد، وبذلك أن تاريخ الفكر الاقتصادي يتعلق بتاريخ الأفكار والخواطر التي عرضت الإنسان في حياته الاقتصادية وليس بالضرورة أن يكون علمياً، لأن هذا الفكر ظهر في الغالب مختلطاً ومندمجاً مع أفكار سياسية باعتبار أن المنهج العلمي الاقتصادي لم يظهر إلا حديثاً لذلك كان تناول المسائل الاقتصادية بأسلوب تقديري حيث كان الحكم على المسائل الاقتصادية ( خير أو شر ) يخضع لاعتبارات دينية وأخلاقية وإلى الآن فإن الفصل بين الدراسة العلمية للظواهر الاقتصادية والأحكام التقديرية لم يتحقق وذلك لتأثر شخصية الباحث بالموضوع الذي يبحث فيه والذي يوجه نتائجه كما يرى حسب اعتقاداته وانتماءاته الدينية والسياسية وغيرها.
الاقتصاد في الفلسفة اليونانية:
أثرى الفلاسفة القدامى الفكر الاقتصادي بالعديد من الملاحظات أو الأفكار، وقدمت الحضارة اليونانية افكار مهمة للفكر الاقتصادي على الرغم من أنها لم تكن تعتمد على التحليل العلمي المعروف حالياً، وقد كانت تلك الأفكار هي الحاضنة لمذاهب سياسية أو دينية، إذ كانت الفلسفة الإغريقية حاضنة للأفكار الاقتصادية التي تبلورت آنذاك، وبرع في هذا المجال، أفلاطون وبعده أرسطو الذي تعمق في تحليل الظواهر الاقتصادية، وقد بدأ الاقتصاد الإغريقي عائلياً وبالتالي لم تنشأ مشاكل اقتصادية نظرية وعرف الاقتصاد في هذه المرحلة على أنه علم إدارة المنزل أي سيادة الاقتصاد العائلي على الحضارة اليونانية ولم تحصل مشاكل إلا في وقت متأخر نتيجة الحصول على غنائم وازدهار التجارة وبالرغم من ذلك لا يوجد بناء فكري اقتصادي متكاملاً رغم اهتمام الإغريق بالمسائل الفكرية ويفسر ذلك بأن الإغريق احتقروا العمل اليدوي وتركوه للرق ولم يكن العمل ما عدا الزراعة محل اهتمام المفكرين ولهذا تراجع الاهتمام بالإنتاج.
افلاطون(427_347ق.م):
تناول افلاطون بعض المشاكل الاقتصادية في كتاباته الفلسفية خاصة في كتاب( الجمهورية) وكتاب( القوانين ) ويبرز نشأة الدولة باعتبارات اقتصادية حيث لابد من اجتماع الأفراد لتلبية حاجياتهم، ودعا إلى مدينة مثالية قائمة على تقسيم العمل والاختصاصات والمزايا بين طبقات المجتمع، وبالنسبة لأفلاطون فإن الحكومة هي للفلاسفة والحكماء والنبلاء والمحاربون والبقية تتولى العمل في الزراعة والصناعة، كما ألغى الملكية الخاصة والميراث بالنسبة للطبقة الحاكمة لكي تكون لها رغبة في الخدمة العامة، أما بقية الناس يحق لهم الملكية الفردية لتشجيعهم على الإنتاج والربح، أما الرق هو عنصر دائم ولا يمكن الاستغناء عنه وأفضل العبيد عند افلاطون هم الأجانب المستولي عليهم في الحرب، ومن أشهر ما عرف به أفلاطون في ميدان الفكر الاقتصادي هو تجنيده لفكرة الشيوعية بالنسبة لطبقة الحكام في مدينته المثالية .
ارسطو(384_322ق.م):
يعد ارسطو أول من استعمل كلمة اقتصاد، وكان معناها يقتصر على علم قوانين تدبير الشؤون المنزلية، وقد حاول أرسطو تفسير بعض الظواهر الاقتصادية مثل الفرق بين قيمة الاستعمال وقيمة التبادل، أما نظرية القيمة عند أرسطو كانت نموذجية وأخلاقية أكثر منها علمية لأنها اقتصرت على فكرة الثمن العادل، ولذلك أدان الاحتكار وتحدث عن عيوب المقايضة، ورغم عدم وجود نظرية واضحة عن التوزيع إلا أن أرسطو قدم إشارات في ذلك حيث ذكر نظرية الاستغلال من خلال التفرقة بين الإثراء الطبيعي والإثراء غير الطبيعي واعتبر التجارة من قبيل الإثراء غير الطبيعي وعارض سعر الفائدة مبرراً ذلك بأن النفوذ غير منتجة وفوائدها هي إثراء غير طبيعي وفرق بين الأموال التي تهلك بالاستعمال والأموال التي لا تهلك بالاستعمال، واستطاع أرسطو أن يصور الوقائع الاقتصادية والعلاقات التي توجد بينها في ضوء إيديولوجية رجل يعيش ويكتب لطبقة مترفة ومثقفة لا تعمل، واستند تحليل أرسطو الاقتصادي إلى الحاجات وكيفية إشباعها، وعد تقسيم العمل أساساً لعملية التبادل العينية (المقايضة)، ثم المبادلة باستعمال النقود، وعارض أرسطو فكرة إلغاء الملكية الخاصة ورأى أنه من الممكن التوفيق بين المصلحة العامة والخاصة وهذه الفكرة تعتبر بذرة للأفكار التي سادت بعد ذلك خصوصاً مع آدم سميث.
الفكر الاقتصادي في العصور الوسطى:
من القرن الرابع إلى القرن العاشر مرت أوروبا بتدهور اقتصادي وعادت بوادر الانتعاش في القرن 11 حيث ظهرت بعض الممالك القوية مثل فرنسا وازدهرت بعض الصناعات الحرفية وبنيت الكنائس في القرن 13، ومن أهم فلاسفتها هو توما الأكويني:
توما الأكويني ( 1225- 1274 ):
كان الأكويني لاهوتياً إيطالياً ، وكان جزءاً من مجموعة من العلماء الكاثوليك المعروفين بالمدرسين، والذين نقلوا استفساراتهم إلى ما بعد اللاهوت، إلى المناقشات الفلسفية والعلمية، تناول الأكويني في كتابه(الخلاصة اللاهوتية) مفهوم السعر العادل الذي اعتبره ضرورياً لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي، على غرار العديد من المفاهيم الحديثة للتوازن طويل المدى، وكان السعر العادل كافياً لتغطية تكاليف الإنتاج، بما في ذلك إعالة العامل وأسرته، ورأى أنه من غير الأخلاقي أن يرفع البائعون أسعارهم لمجرد أن المشترين لديهم حاجة ملحة لمنتج ما، ورفض أي شكل من أشكال الغش وأوصى دائماً بدفع تعويض مقابل الخدمة الجيدة، في حين أن القوانين الإنسانية قد لا تفرض عقوبات على التعامل غير العادل، إلا ان القانون الإلهي قد فعل ذلك حسب رأيه، وأعاد فكرة العدل التوزيعي عند أرسطو وحدد المقابل العادل في المعاملات ( السعر العادل )، ولكن هذا التفكير أخلاقي وليس اقتصادي وقد طبق فكرة المقابل العادل على الأجر والربح، ورفض سعر الفائدة مثل أرسطو وتبنى نفس الحجج إذ يعتبر أن في سعر الفائدة استغلال للفقراء وبالتالي حرمت الفوائد على رجال الدين أولاً ثم على جميع المسيحيين في القرن 13، ورأى أنه من حق الإنسان الحصول على الملكية، لكن هذه الملكية ليست مطلقة.
الفكر الاقتصادي عند المسلمين:
تناول فلاسفة المسلمين الكثير من الظواهر الاقتصادية، ولعل من أبرز ما يمكن الاستعانة بذكره للاستدلال على الفكر الاقتصادي العربي هو ما كتب بخصوص الظواهر النقدية، وكذلك ما كتب حول ظاهرة المجاعات وإرجاعها إلى أسباب طبيعية وأسباب اجتماعية، بعضها سياسي يتمثل في فساد الإدارة، وبعضها اقتصادي يتمثل في تزايد كلف الإنتاج وزيادة المعروض النقدي.
عبدالرحمن أبن خلدون(1332_ 1406):
مثال بارز على مساهمات المفكرين العرب هو ما كتبه أبن خلدون ، الذي تناول مظاهر النشاط الاقتصادي أو ما أسماه (بوجوه المعاش)، وكذلك تناول القيمة و العمل في نظره مصدراً لها، ويذهب أبن خلدون أبعد من ذلك ليصل إلى فكرة فائض القيمة على الرغم من أنه لم يذكر ذلك صراحة بل ذكره ضمناً من خلال تأكيده على استعمال أصحاب الجاه للناس من غير عوض، ليوفروا عليهم قيم أعمال الناس، ويرى أبن خلدون أن المجتمع ظاهرة طبيعية أدى إليها عمران التكافل الاجتماعي، أي أن الأفراد في حاجة لبعضهم البعض لتحقيق حاجاتهم ، ويعتبر أبن خلدون أن ثروة البلد ودرجة تقدمه في العمران يحددان نوع وثمن ما يطلب من السلع وهذا الطلب يؤثر في الصناعات وتقدمها، و حجم السوق عند أبن خلدون يعتمد على زيادة عدد السكان ويقسم العمل وهذا يقترب من التفكير الحالي، وقد أعطى أبن خلدون أهمية كبرى للعمل الذي هو أساس الكسب، لكن الكسب قد يتحقق بدون عمل، وقد أشار أبن خلدون إلى هذه الفكرة عندما اعتبر أن بعض الأموال تزيد قيمتها لأسباب لا ترجع إلى عملها، وأشار في هذا الجانب إلى ما يعتبره معاش غير طبيعي، وقد أهتم بالضرائب والنفقات وكان ذلك ضمن نظرته العامة للدولة وتطورها من الشباب والحيوية إلى الهرم والكهولة، كما كان يعتقد بأن تخفيض الضرائب يحفز على العمل والإنتاج وهذا يزيد من وعاء الضريبة بالنسبة للدولة، وهذه الفكرة تعتبر الآن من أهم النظريات التي تعرف بنظرية العرض المرتبطة بالضرائب، إذ تخفيض الضرائب يؤدي إلى الزيادة في الجباية ومداخيل الدولة.
الاقتصاد في الفكر الغربي الحديث:
حاولت الدول الصاعدة مثل إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا الكبرى وهولندا التحكم بالتجارة بأخذ رسوم جمركية من التاجر، وكان هذا أول أسلوب للتوسط بين الثروة الخاصة والمصلحة العامة، وأتاحت لنفسها أن تستولي على أملاك الكنيسة و قل نفوذ النبلاء في تلك الفترة، وبدأ أول أمناء الدولة الاقتصاديين عملهم، وقد بدأ المصرفيون مثل ماير أمشيل روتشيلد(1744_1812) يمولون المشاريع الوطنية كالحروب والبنى التحتية، ومنذ ذلك الوقت أصبح الاقتصاد هو الاقتصاد الوطني وهو موضوع للأنشطة الاقتصادية للمواطنين في دولة.
جون لوك (1632-1704):
حدد لوك الملكية على نطاق واسع لتشمل حياة الناس وحرياتهم، ويرى إنه لا ينبغي على الحكومة أن تتوقف فقط عن التدخل في ممتلكات الناس أو في حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم، إنما يجب عليها أيضاً أن تعمل بشكل إيجابي لضمان حمايتهم، وعرضت آراؤه بشأن السعر والمال في رسالة إلى عضو في البرلمان عام 1691 بعنوان (بعض الاعتبارات المتعلقة بتبعات خفض الفائدة وزيادة قيمة المال) بحجة أن سعر أي سلعة يرتفع أو ينخفض حسب عدد المشترين والبائعين، وهي قاعدة عالمية تنطبق على جميع الأشياء التي تباع أو تشترى.
الثورة الصناعية:
الثورة الصناعية وهي انتشار وإحلال المكننة محل العمل اليدوي، وقد شهدت أوروبا خلال القرن الثامن عشر نهضة علمية شاملة فتنوعت الأبحاث والتجارب لتشمل مختلف فروع العلم وأدت إلى اختراعات واكتشافات مهمة كانت السبب المباشر في قيام الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر من عمليات التصنيع الكيميائي الجديدة وإنتاج الحديد، وازدياد استعمال الطاقة البخارية والمائية وتطوير أدوات الآلات وظهور نظام المصنع الميكانيكي، وأدت الثورة الصناعية أيضاً إلى ارتفاع غير مسبوق في معدل النمو السكاني، وكذلك كان لها الأثر البالغ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سواء في أوروبا أو خارجها، وقد كانت المنسوجات هي الصناعة المهيمنة في الثورة الصناعية من حيث العمالة وقيمة الإنتاج ورأس المال المستثمر، فكانت صناعة النسيج أول من استعمل طرق الإنتاج الحديثة، وبدأت الثورة الصناعية في بريطانيا، فكانت العديد من الابتكارات التقنية من أصل بريطاني، حتى أضحت في منتصف القرن الثامن عشر الدولة التجارية الرائدة في العالم، وسيطرت على إمبراطورية تجارية عالمية مع مستعمرات في أمريكا الشمالية ومنطقة البحر الكاريبي، وهيمنة عسكرية وسياسية كبيرة على شبه القارة الهندية، فتطور التجارة وظهور المشاريع هي من الأسباب الرئيسية للثورة الصناعية، ومثلت الثورة الصناعية نقطة تحول رئيسية في التاريخ، فإن كل جانب من جوانب الحياة اليومية تأثر بها بطريقة ما، وأدت الثورة الصناعية إلى ظهور الاقتصاد الرأسمالي الحديث، بينما بدأت الثورة الصناعية حقبة من النمو الاقتصادي للفرد في الاقتصاديات الرأسمالية، وتمثل الثورة الصناعية أهم حدث في تاريخ البشرية من حيث الاقتصاد.
آدم سميث(1723_1790):
يعد سميث أول اقتصادي بالمعنى الحديث، ويرتبط الفكر الاقتصادي الحديث في العادة بالاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث الذي ظهرت أفكاره في كتابه الوحيد الذي صدر عام 1776 تحت عنوان (ثروة الأمم)، وتقوم فلسفة سميث على الاقتصاد في سلامة وكفاءة النظام الطبيعي وأفضليته على أي نظام صناعي آخر ويعتبر سميث في هذا النظام بأن الفرد هو أفضل حكم على تقرير مصلحته الخاصة ويجب تركه حراً في سلوكه، ويحقق هذا النظام انسجاماً بين المصلحة الخاصة والعامة، إذ أن الأفراد يحققون المصلحة العامة من خلال سعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة بدون أن يشعروا بذلك، إذن فالمصلحة الخاصة هي آلية لتحقيق المصلحة العامة ولم يكن سميث في هذا الجانب داعية للأنانية أو متجاهلاً للمصلحة العامة، وبالنسبة لسميث فإن السوق هو تنظيم اجتماعي لضبط سلوك الأفراد وفيه تتكفل المصالح الخاصة بتحقيق المصالح العامة، ويرى سميث بأن السوق بحاجة إلى الدولة من خلال حماية الحقوق واحترام العقود لذلك أولى عناية خاصة بالقانون والقضاء، واستخلص سميث أن تدخل الدولة المفرط والذي يتجاوز وضع الإطار القانوني والاقتصادي السليم يحول دون تحقيق المصلحة العامة والخاصة، فالدولة ضرورية ولكن لا تتجاوز الحدود الطبيعية لكي لا تصبح خطراً على الرفاهية العامة، ودور الدولة بالنسبة لسميث هو توفير الامن في الداخل والخارج وتوفير القضاء العام والقيام بالمشروعات التي لا يقدر عليها الأفراد، وقد كان سميث من أهم المدافعين عن الحرية الاقتصادية وهاجم القيود التي تفرض من طرف الدولة وبعض التجار، ولم يعد البحث عن الربح عملاً أنانياً وإنما مساهم في تحقيق المصلحة العامة، ورغم اقتناع سميث بأن الملكية الفردية قد تكون سبباً في القهر والتفاوت الاجتماعي إلا أنه لم يعتبرها متعارضة مع النظام الطبيعي وانما متفقة معه تماماً.
كارل ماركس ( 1818 – 1883 ):
نادى ماركس بضرورة القضاء على مظاهر الملكية الفردية من خلال ثورة الطبقة العاملة ، وتحقيق المساواة في توزيع الموارد والناتج القومي على الناس كافة، وهذهِ أحد ركائز قيام الفكر الشيوعي في روسيا، ويميز ماركس بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والتي تعتبر الهيكل أو البنيان الأساسي للاقتصاد وبين مجموعة الأفكار والعلاقات السياسية والقانونية والتي تمثل الهيكل العلوي، وأن تطور قوى الإنتاج يؤدي إلى تطور علاقات الإنتاج لكن لا يعني هذا أن هناك تناسق بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وفي غياب هذا التناسق ووجود تناقض فلابد من تغيير من خلال ثورة اجتماعية تؤدي إلى إزالة التعارض، ويعتبر ماركس أن علاقات الإنتاج تحكم جميع مظاهر الحياة الاجتماعية، لكن تطور المجتمع يبقى رهين تطور قوي الإنتاج وهذا هو المقصود بالمادية التاريخية أو التفسير المادي للتاريخ أو التفسير الاقتصادي للتاريخ، ومن خلال المادية التاريخية فإن الإنسانية مرت بعديد من الأنظمة الاجتماعية ولكل نظام علاقات إنتاج وقوى إنتاج، واعتقد ماركس أن عدد العاطلين عن العمل سوف ينمو وينمو، مما يزيد من الضغط على الأجور، لأن الناس اليائسين سيقبلون العمل مقابل بدل أقل، ولكن هذا من شأنه أن ينتج عجزاً في الطلب حيث أن قدرة الشعب على شراء المنتجات ستنخفض، وقد ينتج عن وفرة من المنتجات غير المباعة وانخفاض في مستوى الإنتاج وتراجع في الأرباح إلى أن نقع في ركود اقتصادي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ثورة ستنشئ مجتمعاً بلا طبقية.
الاقتصاد الاسلامي ليس علماً:
الاقتصاد الاسلامي جزء من المذهب الاسلامي الشامل لشتى فروع الحياة، ويختلف عن الاقتصاد الماركسي الذي يحمل طابعاً علمياً، لأنه يعتبر في عقيدة أنصاره نتيجة محتومة للقوانين الطبيعية التي تهيمن على التأريخ وتتصرف فيه، وعلى العكس من المذهب الرأسمالي والذي عبر عن الصورة الاجتماعية التي تتفق مع القيم العملية والمثل التي يعتقد بها، فالمذهب الاقتصادي الاسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرد عن اساس عقائدي معين ونظرة رئيسية إلى الحياة والكون كالرأسمالية، فالإسلام ليس علماً لأنه دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية، كما يعالج سائر نواحي الحياة، وليس علماً اقتصادياً على طراز علم الاقتصاد ، وهنا هو يشبه الاقتصاد الرأسمالي من ناحية أنه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له، فالوظيفة المذهبية تجاه الاقتصاد الاسلامي هي الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقاً للشريعة الاسلامية، ودرس الافكار والمفاهيم العامة التي تشع من وراء تلك الصورة، كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الانتاج، وما إليها من أفكار.(2)
يشير السيد الصدر إلى أنه يجب أن نميز علم الاقتصاد عن المذهب الاقتصادي وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي، ويعرف السيد الصدر علم الاقتصاد بأنه" هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها". وهذا العلم حديث الولادة فهو لم يحدث بالمعنى الدقيق إلا في بداية العصر الرأسمالي، وأن كانت جذوره تمتد إلى أعماق التأريخ، فقد ساهمت كل حضارة في التفكير الاقتصادي بمقدار ما أتيح لها من إمكانات، وأما المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكلها العملية، وعلى هذا الاساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي، لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها، ولا بد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية، إذ أن اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباطاً مطلقاً، وإنما يقوم دائماً على اساس أفكار ومفاهيم معينة ذات طابع أخلاقي أو علمي أو أي طابع آخر، وهذه المفاهيم والأفكار تكون الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي القائم على اساسها، ولذلك حين دراسة أي مذهب اقتصادي يجب أن يتناول من ناحية طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية ومن ناحية أخرى رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط بها.(3)
أن كلمة الاقتصاد الاسلامي من وجهة نظر السيد الصدر هو لا يعني به علم الاقتصاد ، وإنما الاقتصاد الاسلامي هو المذهب الاقتصاد الاسلامي الذي تتجسد فيه الطريقة الاسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية، وبما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري يتألف من أفكار الاسلام الاخلاقية و الافكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تستقل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل المجتمعات البشرية، والاقتصاد الاسلامي هو المذهب الاقتصادي منظوراً إليه في إطاره الكامل، وفي ارتباطه بالرصيد الفكري الذي يعتمد عليه ويفسر وجهة نظر المذهب في المشاكل التي يعالجها.(4)
يرى السيد الصدر أن المذهب الاقتصادي عبارة عن نهج خاص للحياة ويطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على اساسه، بوصفه المخطط الأفضل، الذي يحقق للإنسانية ما تصبو إليه من رضاء وسعادة، على الصعيد الاقتصادي، وأما العلوم الاقتصادية فهي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية، التي تتحكم في المجتمع كما تجري في حياته الاقتصادية، فالمذهب تصميم عمل ودعوة، والعلم كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون، لهذا السبب كان المذهب عنصراً مثالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد، وأما العلم فهو يسجل ما يقع في مجرى الحوادث الاقتصادية، كما هو دون تصرف أو تلاعب(5).والمذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة اساسية في الحياة الاقتصادية تتمثل بفكرة العدالة الاجتماعية، والعلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية، بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة أو مثل أعلى للعدالة، أذن فكرة العدالة هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تميز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأن فكرة العدالة نفسها ليست علمية ولا أمراً حسياً قابل للقياس والملاحظة أو خاضعاً للتجربة بالوسائل العلمية، وإنما العدالة تقدير وتقويم خلقي، وأن وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصادية وترتبط بفكرته ومثله في العدالة، وأن تعبير الحلال والحرام في الاسلام تجسيد للقيم والمثل التي يؤمن بها الاسلام، فمن الطبيعي أن تنتهي من ذلك إلى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي اسلامي، لأن قصة الحلال والحرام في الاسلام تمتد إلى جميع النشاطات الانسانية وألوان السلوك، سلوك الحاكم والمحكوم وسلوك البائع والمشتري وسلوك المستأجر والأجير وسلوك العامل والمتعطل، فكل وحدة من وحدات هذا السلوك هي إما حرام وإما حلال، وبالتالي هي إما عدل وإما ظلم، لأن الاسلام أن كان يشتمل على نص يمنع عن سلوك معين سلبي أو ايجابي، فهذا السلوك حرام و إلا فهو حلال.(6)
الفرق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي:
1_ مهمة علم الاقتصاد اكتشاف الحياة الاقتصادية وظواهرها كما توجد في الواقع، أما المذهب الاقتصادي هو ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية كما ينبغي أن توجد وفقاً لتصوراته العامة عن العدالة، فالعلم يعمل لتجسيد الواقع، والمذهب يعمل لتجسيد العدالة.
2_ علم الاقتصاد يبحث في الانتاج والتوزيع معاً، كما أن المذهب الاقتصادي يبحث في الانتاج والتوزيع أيضاً، فهنا العلم والمذهب يختلفان في مهمة البحث وطريقته لا في موضوعه.
3_ أن قوانين علم الاقتصاد في الانتاج تعبر عن حقائق ثابته في مختلف المجتمعات مهما كان نوع المذهب الاقتصادي المطبق عليها، وأما قوانين علم الاقتصاد في التوزيع فهي تشرط عادة بإطار مذهبي معين، بمعنى أن العالم الاقتصادي يفترض مجتمعاً يطبق مذهباً كالرأسمالية والحرية الاقتصادية ثم يحاول أن يكتشف قوانينه وحركة الحياة الاقتصادية فيه.(7)
يعتقد السيد الصدر أنه يمكن أن يكون الاقتصاد الاسلامي علماً عند تطبيقه فبعض الأمور الاقتصادية تتطلب وضع قوانين علمية لها، وهكذا يمكن أن يكون الاقتصاد الاسلامي علماً بعد أن يدرس دراسة مذهبية شاملة من خلال دراسة الواقع، و علم الاقتصاد الاسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلا إذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع بجذوره ومعالمه وتفاصيله ودرست الاحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة، ويرتكز التفسير العلمي للاقتصاد على أمرين وهما:
1_ جمع الاحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة، وتنظيمها تنظيماً علمياً يكشف القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة وشروطها الخاصة.
2_ البدء في البحث العلمي من مسلمات معينه تفترض افتراضاً، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الاحداث.(8)
الاقتصاد الاسلامي:
يعتقد السيد الصدر بأن البلدان الاوربية درجت على تقسيم العالم على اساس المستوى الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى بلاد راقية اقتصادياً وبلاد فقيرة أو متخلفة اقتصادياً، وبلدان الوطن العربي المسلمة من ضمن التقسيم الثاني، وهكذا دشن العالم الاسلامي وعبر عن تبعيته لتجربة الإنسان الاوربي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسه بثلاثة اشكال وهي:
1_ التبعية السياسية، التي تمثلت في ممارسة الشعوب الاوربية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.
2_ التبعية الاقتصادية، والتي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسية في البلاد المتخلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الاوربي.
3_ التبعية في المنهج، التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الاسلامي وحاولت أن تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الاوربي اقتصادياً، إلا أنها وجدت نفسها مدعوه لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الاوربي في بناءه الشامخ للاقتصاد الحديث.(9)
يشير السيد الصدر إلى أن الاخذ بالاقتصاد الاوربي يؤدي إلى القضاء على العقيدة الدينية، والانسان الاوربي ينظر دائماً إلى الارض، كما أن انقطاع الصلة الحقيقية للإنسان الاوربي بالله (جل جلاله) ونظرته إلى الأرض بدلاً عن النظر إلى السماء، وهذا لا يناسب الإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء وافتنانه بعالم الغيب قبل عالم الشهادة، وقد ربته هذه الطيبة على الشعور برقابة غير منظور، وأن الاقتصاد الاسلامي هو منهج قادر على الاستفادة من اخلاقيات إنسان العالم الاسلامي وتحويلها إلى طاقة دفع وبناء كبير في عمليات التنمية والنجاح بتخطيط سليم للحياة الاقتصادية، فالأخذ بالاقتصاد الاسلامي هو الأخذ بالأخلاقيات الاسلامية، وهذا افضل من الأخذ باقتصاد يرتبط بأخلاقيات غير أخلاقنا.(10)
المشكلة الاقتصادية لدى المذاهب الاقتصادية:
ومن معالم الشيوعية وهي:
1_ محو الملكية الخاصة، لا في مجال الانتاج الرأسمالي فحسب، بل في مجال الانتاج بصورة عامة وفي مجال الاستهلاك أيضاً، فتؤمم كل وسائل الانتاج وكل البضائع الاستهلاكية.
2_ محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة نهائية.(11)
الاشتراكية ومن أبرز معالمها وهي:
1_ محو الطبقية وتصفية حسابها نهائياً بخلق المجتمع اللاطبقي.
2_ استلام البروليتاريا للأداة السياسية بأنشاء حكومة دكتاتورية قادرة على تحقيق الرسالة التاريخية للمجتمع الاشتراكي.
3_تأميم مصادر الثروة ووسائل الانتاج الرأسمالي في البلاد، وهي الوسائل التي يستثمرها لكنها عن طريق العمل المأجور واعتبار ملكاً للمجمع.
4_ قيام التوزيع على قاعدة من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.(12)
الرأسمالية:
كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك ينقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى هذين القسمين، الجانب العلمي والذي تحاول فيه الرأسمالي أن تفسر مجرى الحياة الاقتصادية تفسيراً موضوعياً، قائم على اساس الاستقراء والتحليل، والجانب المذهبي الذي تدعوا الرأسمالية إلى تطبيقه وتتبنى الدعوة إليه(13). ومن أبرز معالم الرأسمالية وهي:
1_ الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود، وهي القاعدة التي تمتد إلى كل المجالات وميادين الثروة المتنوعة وعلى هذا الاساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك وتسمح للملكية الخاصة بغزو جميع عناصر الانتاج من الأرض والآلات والمباني والمصارف وغير ذلك من ألوان الثروة، ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
2_ فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكيته وإمكاناته على الوجه الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والاساليب التي يتمكن منها، وتستهدف هذه الحرية الرأسمالية للمالك، أن تجعل للفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية.
3_ ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال، فلكل فرد أو شخص الحرية في الانفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته، وهو الذي يختار نوع السلع التي يستهلكها.(14)
المذهب الرأسمالي مذهب فردي، يقدس الدوافع الذاتية ويعتبر الفرد هو المحور الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه، ويضمن مصالحه الخاصة، وهو عكس المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي يرفض الدوافع الذاتية والأنانية، ويفني الفرد في المجتمع، ويتخذ المجتمع محوراً له، وهو لأجل هذا لا يعترف بالحريات الفردية، بل يهدرها في سبيل القضية الاساسية، قضية المجتمع بكامله، وهنا نشير إلى أن الرأسمالية تعتقد أن المشكلة الاقتصادية هي قلة الموارد الطبيعية، فالطبيعة محدودة وحاجات الإنسان تنمو باطراد وفقاً لتقدم المدينة وازدهارها، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافة فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الأفراد على اشباع حاجاتهم، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية، أما الماركسية فترى أن المشكلة الاقتصادية هي مشكلة التناقض بين شكل الانتاج وعلاقات التوزيع، فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الانتاج وعلاقات التوزيع.(15)
أما الاسلام فهو لا يعتقد مع الرأسمالية أن المشكلة في قلة الموارد الطبيعية، لأنه يرى أن الطبيعة قادرة على ضمان كل حاجات الحياة، كما لا يرى الاسلام أن المشكلة هي التناقض بين شكل الانتاج وعلاقات التوزيع، كما تقرر الماركسية وإنما المشكلة قبل كل شيء مشكلة الإنسان نفسه لا الطبيعة ولا اشكال الانتاج وهذا ما يقرره الاسلام في القرآن الكريم في قوله تعالى" وأن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار".( سورة إبراهيم من الآية 34) ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع ويتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها، وحين يمحي الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي(16). وأن الاسلام هو طريق الخلاص وأن النظام الاسلامي هو الغطاء الطبيعي الذي يجب أن تحقق حياتها وتفجر طاقاتها ضمنه وتنشأ كيانها على اساسه، ويتألف الاقتصاد الاسلامي من أركان رئيسية ثلاثة وهي:
1_ مبدأ الملكية المزدوجة.
2_ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3_ مبدأ العدالة الاجتماعية.
يختلف الاسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقرها اختلافاً جوهرياً، فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية أي يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا يعترف بالملكية العامة إلا في ظروف اجتماعية ضرورية، أما المجتمع الاشتراكي فيؤمن بالملكية الاشتراكية وهي المبدأ العام الذي يطبق كل أنواع الثروة في البلاد، وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناء، وقد يعترف بها أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية، أما المجتمع الاسلامي لا يتفق مع الرأسمالية بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاماً، بل أنه يقرر الاشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة( الملكية ذات الاشكال المتنوعة) بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية، فهو يؤمن بالملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة.(17)
المذهب الاقتصادي في الاسلام له صفتان اساسيتان وهما الواقعية والاخلاقية، فهو اقتصاد واقعي وأخلاقي معاً، لأنه يستهدف فيه أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، والصفة الاخلاقية للاقتصاد الاسلامي، أن الاسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الانسان، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها، وإنما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها(18). وأن الاقتصاد الاسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله، وهو بدوره يرتبط الاسلام بمجموعة من العناصر التي يتغذى منها وهي:
1_ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بالعقيدة التي هي مصدر التموين الروحي للمذهب وتخلق في نفس المسلم شعوراً بالاطمئنان النفسي في ظل المذهب، باعتباره منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها.
2_ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بمفاهيم الاسلام عن الكون والحياة وطريقته الخاصة في تفسير الاشياء كالمفهوم الاسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح.
3_ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بما يبثه الاسلام في البيئة الاسلامية عن عواطف وأحاسيس قائمة على اساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعاً من الحب للآخرين والمشاركة لهم في الآمهم وأفراحهم.
4_ الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، فالسياسة المالية في الاسلام لا تكفي بتموين الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في اقرار التوازن الاجتماعي والتكافل العام.
5_ الارتباط بين الاقتصاد الاسلامي والنظام السياسي في الاسلام، فالإسلام يعطي للدولة في المذهب الاقتصادي وتؤمن بصحة اعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة لها في الاسلام.
6_ الارتباط بين رأس المال الربوي واحكام الاسلام الأخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي.
7_ الارتباط بين احكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الاسلامي واحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب.
8_ الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الاسلام، فالتكافل العام والضمان الاجتماعي في الاقتصاد الاسلامي، يلقيان الضوء على طبيعة العقوبة التي فرضت في بعض الجنايات.(19)
يمتاز المذهب الاقتصادي الاسلامي عن بقية المذاهب الاقتصادية، فيشكل الدين اطاره العام، وهذا الاطار هو الذي يجعل النظام الاقتصادي الاسلامي قادراً على النجاح وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان، لأن هذه المصالح الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين، فالدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن أن تجد ضمنه حلها الصحيح، وهو الحل الذي يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية، لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقتة، وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات مثل قوله تعالى" ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب".( سورة غافر، من الآية 40) ومثل قوله تعالى" من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها".(سورة فصلت، من الآية 46)، ويرى السيد الصدر أن الدين يساهم في إزالة التعارض بين المصلحة الخاصة (للأفراد) والمصلحة العامة (للمجتمع)، لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه المؤقتة التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلا تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما التجارية المادية، وأن الاقتصاد الاسلامي بوصفه جزءاً من تنظيم اجتماعي شامل للحياة، يجب أن يندرج ضمن الاطار العام لذلك التنظيم وهو الدين، فالدين هو الاطار العام لاقتصادنا، ووظيفة الدين بوصفه إطاراً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في الاسلام، أن يوفق بين الدوافع الذاتية والمصالح الخاصة من ناحية، والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني.(20)
ملخص القواعد الرئيسية للمذهب الاقتصادي الإسلامي:
1_كل مصادر الثروة الطبيعية تدخل في القطاع العام، ويكتسب الأفراد الحقوق الخاصة بالانتفاع على أساس وحيد وهو العمل الذي يتمثل في الإحياء ويراد به العمل المباشر.
2_كل الثروات المنقولة في الطبيعة تملك على أساس العمل لحيازتها، ويراد بذلك العمل المباشر ولا تملك لسبب آخر إلا عن طريق الانتقال من العامل بإرث أو معاوضة أو غير ذلك من نواقل التمليك.
3_الإنتاج لخدمة الإنسان وليس لخدمة الإنتاج.
4_يقوم توزيع الثروة المنتجة في الإنتاج الأولي على أساسين: أحدهما: العمل، والآخر: الحاجة، وتستأصل كل أشكال الإنتاج الرأسمالي.
5_الثروة التي تدخل في عملية الإنتاج الثانوي تظل ملكاً للعامل الذي ملكها بالإنتاج الأولي ما لم يحصل بينه وبين فرد آخر اتفاق يعدل ذلك.
6_تحدد أجور أدوات الإنتاج وأجور العمل من قبل الدولة مع الاتجاه إلى إلغاء عامل الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار.
7_يمنع ادخار النقد واكتنازه.
8_يتجه العمل لمنع أي كسب تولده الأثمان الاحتكارية النقدية بما في ذلك الفوائد الربوية.
9_تتجه السياسة الاقتصادية في الدولة الإسلامية إلى تضييق الهوة بين المنتج والمستهلك واستئصال دور عملية المبادلة نفسها كأساس للكسب بصورة منفصلة عن الإنتاج والعمل.
10_إن مستوى معيشة الفرد يجب ألا يتجاوز بصورة حادة مستوى الرخاء العام للجميع، وللدولة تقدير ذلك وبما يكفل عدم الإسراف.
11_على الدولة أن تطبق العناصر الثابتة في الاقتصاد الإسلامي وتحدد العناصر المتحركة وفقاً للمؤشرات الإسلامية العامة.
12_على الدولة من خلال ممارستها لتطبيق العناصر الثابتة والمتحركة أن تحقق:
أ_ ضمانا اجتماعياً يكفل حداً أدنى من الرفاه لجميع أفراد المجتمع.
ب_ توازناً اجتماعيا في المعيشة بالتقريب بين مستويات المعيشة وفي الدخل بمنع الاحتكار وتركز الأموال.
ت_ استثمار بأعلى درجة ممكنة للقطاع العام مع وضع سياسة عامة للتنمية الاقتصادية.
ث_ عملا مستمراً في سبيل تقريب أثمان السلع وأشكال العمل نحو قيمها التبادلية الحقيقية، وذلك بمقاومة الاحتكار لكل ميادين الحياة الاقتصادية.
أهداف الاقتصاد:
ولعل من أهم ما يهدف إليه المذهب الاقتصادي الإسلامي في تشريعه هو:
1_تحقيق الضمان الاجتماعي الذي يعتبر من أهم مسؤوليات الدولة الإسلامية، وقد اعتبر السيد الصدر أن الطريقة المذهبية التي وضعت لتنفيذ فكرة الضمان الاجتماعي هي إنشاء القطاع العام .
2- تحقيق التوازن الاجتماعي والحؤول دون نشوء ملكيات خاصة ضخمة، وقد تم ذلك عبر عدة تشريعات، لعل من أهمها تحريم الإسلام للاكتناز، وهو ما سهل عملية القضاء على مشكلة من أهم مشاكل الإنتاج التي تمنى بها الرأسمالية، إذ يعتمد المجتمع الإسلامي في سبيل تنمية الإنتاج وإقامة المشاريع الكبيرة على حقول الملكية العامة وملكية الدولة، ويبقى للملكيات الخاصة المجالات التي تتسع لها إمكاناتها .
3- مكن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها القطاع العام، إذ تمتلك الدولة الوسائل المؤثرة والفاعلة في قيادة الإنتاج والتوجيه والإشراف عليه باعتبارها مالكة لأكبر المشاريع الإنتاجية في البلاد.
4- منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى البشرية العاملة والاستفادة منها في مجالات القطاع العام، وبذلك يمكن للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجات القطاع الخاص من تلك القوى البشرية وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلي.
الانتاج:
يرى السيد الصدر أن الاقتصاد الماركسي يعتقد أن كل تطور في عمليات الانتاج واشكاله يواكب تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن أن يتغير شكل الانتاج وتبقى العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، فمن المستحيل أن يبقى نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن أو أن يصلح للحياة الإنسانية في مراحل متعددة من الانتاج، لأن أشكال الانتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية، فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، مادام شكل الانتاج مختلف في المجتمعين(21).فالوضع الاقتصادي لكل مجتمع، هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي، فوسائل الانتاج هي القوى الكبرى التي تصنع تأريخ الناس وتطورهم وتنظمهم، وهكذا تضع الماركسية يدها على رأس الخيط، وهنا يتم طرح سؤالان وهما ما هي وسائل الانتاج، وكيف تنشأ عنها حركة التأريخ والحياة الاجتماعية كلها؟ وتجيب الماركسية كما يعتقد السيد الصدر عن السؤال الأول: وهو بأن وسائل الانتاج هي الادوات التي يتحملها الناس في انتاج حاجاتهم المادية، وذلك أن الإنسان مضطر إلى الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده، وهذا الصراع يتطلب وجود قوى وأدوات معينة، يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها، وأول أداة استعملها الإنسان في هذا المجال هي يده ثم أخذت الأداة تظهر في حياته شيئاً فشيئاً، فاستفاد من الحجر بصفته كتلة ذات ثقل خاص في القطع والطحن والطرق واستطاع بعد مرحلة طويلة من التأريخ أن يثبت هذه الكتلة الحجرية على مقبض فنشأت المطرقة، وأخذت هذه الأدوات تنمو وتتطور كلما ازدادت سلطة الإنسان على الطبيعة، فصنع الفؤوس والحراب والسكاكين الحجرية، ثم تمكن بعد ذلك من صنع القوس والسهم، وهكذا تدرجت القوى المنتجة تدرجاً بطيئاً خلال الآلف السنين حتى وصلت إلى مرحلتها التاريخية الحاضرة التي اصبح فيها البخار والكهرباء والذرة هي الطاقات التي يعتمد عليها الانتاج الحديث، فهذه هي القوى المنتجة التي تصنع للإنسان حاجاته المادية. أما السؤال الثاني، فتجيب الماركسية أن الوسائل المنتجة تولد الحركة التاريخية طبقاً لتطوراتها وتناقضاتها، فالقوى المنتجة في تطور ونمو مستمر، وكل درجة معينة من هذا التطور لها شكل خاص من اشكال الانتاج، فالإنتاج الذي يعتمد على الأدوات الحجرية البسيطة، يختلف عن الانتاج القائم على السهم والقوس وانتاج الصائد يختلف عن الراعي والمزارع، وهكذا يصبح لكل مرحلة تاريخية للمجتمع البشري اسلوبه الخاص في الانتاج وفقاً لنوعية القوى المنتجة ودرجة نموها وتطورها، والانتاج هو انتاج جماعي ومن الطبيعي أن يقيم الناس بينهم علاقات معينة، بصفتهم مجموعة(22). ويشير السيد الصدر إلى أن الوضع الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي حقق في وقتنا الحاضر نتائج كبيرة من حيث وسائل الانتاج والتطور الهائل في الانتاج، لكن في المقابل اندثرت المسألة الاخلاقية واصبح الفقير عندهم متشرد ويموت على الأرصفة وأن كان لديهم ضمان اجتماعي لكنه بشروط صعبة، وبذلك تؤمن الاشتراكية بأن الوضع الاقتصادي لشعب ما هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب يحدد بدوره وضعه السياسي والديني، وهكذا دواليك، وبذلك المادية التاريخية هي قائمة على التناقض والصراع الذي يخوضه الإنسان مع الطبيعة، وأن علاقات الانتاج تحدد جميع العلاقات الأخرى التي توجد بين الناس في حياتهم الاجتماعية، وأما علاقات الانتاج فيحددها وضع القوى المنتجة، فالقوى المنتجة هي التي تخلق الوضع الاقتصادي وتطوره تبعاً لتطورها، والوضع الاقتصادي هو الاساس العام لهيكل البناء الاجتماعي وما فيه من ظواهر وأوضاع، هذه هي الوجهة العامة للمادية التاريخية، ويرى السيد الصدر في الرد على المادية التاريخية بأن التاريخ إذا كان محكوماً للعامل الاقتصادي وللقوى المنتجة وفقاً لقوانين الطبيعة، فلماذا تبذل هذه الجهود الجبارة من الماركسية لشن ثورة على الرأسمالية، ولم لا يدع الماركسيون قوانين التاريخ تعمل فتكفيهم هذه المهمة الشاقة. ثانياً أن كل إنسان يحس أن له دوافع أخرى، لا تمت إلى الطابع الاقتصادي بصلة، بل قد يضحي في سبيلها بمصالحه الاقتصادية وبحياته كلها، فكيف يعتبر العامل الاقتصادي هو المحرك للتأريخ.(23)
الاسلام يرفض الصلة الحتمية المزعومة بين تطور الانتاج وتطور النظام الاجتماعي ويرى أن للإنسان حقلين، يمارس في احدهما عمله من الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخرها لإشباع حاجاته ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، وأشكال الانتاج هي حصيلة الحقل الأول والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني، وكل من الحقلين بوجوده التاريخي تعرض لتطورات كثيرة في شكل الانتاج أو في النظام الاجتماعي، ولكن الاسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم، بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية، وبذلك أن الاقتصاد في الاسلام ممكن أن يحتفظ بنظام اجتماعي واحد، بكيانه وصلاحيته على مر الزمن، مهما أختلف أشكال الانتاج وصالح للأمة في كل مراحل انتاجها.(24)
التوزيع:
وضع الاسلام جهاز التوزيع للمجتمع الاسلامي بالشكل الذي تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة، فلم يحل بين الفرد وحقه اشباع ميوله الطبيعة، كما لم يسلب الجماعة كرامتها ولم يهدد حياتها، وبذلك امتاز عن أجهزة التوزيع المختلفة التي جربها الإنسان على مر التاريخ، وجهاز التوزيع في الاسلام يتكون من أداتين وهما العمل والحاجة ولكل من الأداتين دورهما الفعال في الحقل العام للثروة الاجتماعية(25). وهذه الصورة الاسلامية للتوزيع وهي:
1_ العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه اساساً للملكية، فمن يعمل في حقل الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.
2_ الحاجة أداة رئيسية للتوزيع، بوصفها تعبيراً عن حق إنساني ثابت في الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الاسلامي ويضمن اشباعها.
3_ الملكية أداة ثانوية للتوزيع، عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الاسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الاسلامية للعدالة الاجتماعية التي ضمن الاسلام تحقيقها(26).
يرى السيد الصدر أن المجتمع يحتوي على ثلاثة فئات، وهي فئة قادرة بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية، على توفير معيشتها في مستوى مرفه غني، وفئة أخرى تستطيع أن تعمل ولكنها لا تنتج في عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الاساسية، وفئة ثالثة لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية وما إلى ذلك من الاسباب التي تشل نشاط الإنسان وتقذف به خارج نطاق العمل والانتاج.
تعتمد الفئة الأولى في كسب نصيبها من التوزيع، على العمل بوصفه اساساً للملكية وأداة رئيسية للتوزيع فيحصل كل فرد من هذه الفئة على حظه من التوزيع، وفقاً لإمكاناته الخاصة والحاجة لا تعمل شيئاً بالنسبة إلى هذه الفئة، وإنما العمل هو اساس نصيبها من التوزيع، وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده، ويرتكز دخل الفئة الثالثة وكيانها الاقتصادية في الاسلام على اساس الحاجة وحدها، لأن هذه الفئة عاجزة عن العمل، فهي تحصل على نصيب من التوزيع ويضمن حياتها كاملة على اساس حاجاتها، وفقاً لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع الاسلامي. أما الفئة الثانية، التي تعمل ولا تجني من عملها إلا الحد الأدنى من المعيشة فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معاً، فالعمل يكفل لها معيشتها الضرورية، والحاجة تدعوا وفقاً لمبادئ الكفالة والتضامن إلى زيادة دخل هذه الفئة بأساليب وطرق محدودة في الاقتصاد الاسلامي ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرفاه(27). وبذلك يقف الاسلام ضد الفقر والحرمان وهما ليس نابعين من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، ويرفض الاسلام سوء التوزيع بالإنتاج وكل ربط اسلوب من اساليب التوزيع، ويرى أن النظام يقوم على اسس فكرية وروحية وليس على الطريقة المادية في كسب حاجات الحياة(28).
العمل:
يختلف الاسلام عن الاقتصاد الشيوعي في قطعه الصلة بين عمل الفرد ونتائج عمله وتأكيدها على المجتمع بوصفه المالك الوحيد لنتائج اعمال الأفراد جميعاً، لأن الاسلام لا ينظر إلى المجتمع بصفته كائناً كبيراً يختفي ما وراء الأفراد، ويحركها في هذا الاتجاه، بل ليس المجتمع إلا الكثرة من الأفراد، فالنظرة الواقعية إنما تنصب على الأفراد بوصفهم بشراً يتحركون ويعملون، فلا يمكن بحال من الاحوال أن تنقطع الصلة بين العامل ونتيجة عمله، ويختلف الاسلام عن الاقتصاد الاشتراكي القائل أن الفرد هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية بعمله، فالمواد الطبيعية كالخشب والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة، لا تستمد قيمتها في رأي الاسلام من العمل، بل قيمة كل مادة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول عليها، والعمل في نظر الاسلام سبب لملكية العامل ونتيجة عمله، وهذا الملكية قائمة على اساس العمل، وتعبير عن ميل طبيعي في الانسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى الشعور كل فرد بالسيطرة على عمله فإن هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على اساس العمل للإنسان نابعة من مشاعره الاصيلة، والعمل اساس لتملك العامل في نظر الاسلام وهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الاسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقاً لقاعدة أن العمل سبب الملكية، وبذلك نصل إلى نتيجة أن العمل في نظر الشيوعية هو سبب لتملك المجتمع لا الفرد، أما الاشتراكية فسبب القيمة المادة، وبالتالي سبب تملك العامل لها، أما الاسلام أن العمل سبب لتملك العامل للمادة، وليس سبباً لقيمتها، فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته وإنما يملكه بهذا العمل(29). ويعتبر العمل العنصر الوحيد بين مجموع عوامل الانتاج الذي يسهل حسابه على اسس محسوسة ومباشرة على الاقل باعتباره سلعة لها معادل معين ومحدد، وبهذا يختلف العمل عن بقية العوامل كالرأسمال وعناصر الادارة والتنظيم التي ترتبط كلها بعوامل ذاتية أو فوق اقتصادية عامة، في حين ستمثل الطبيعة عنصراً سلبياً في اعمال الانتاج للسوق ذلك إذا لم يحركه عامل العمل أو الرأسمال، ويرتبط العمل بكيان محدد هو الإنسان وبقدرة خاصة لدى الإنسان وهي قدرته أو قوته على العمل، وأن القدرة على تصور وجود انسان فرد يعيش منعزلا بالاعتماد على جهده الخاص ليس الا، مقابل استحالة تصور أن يعيش رأس المال أو الربح إلا كعلاقة اجتماعية، هذه التصورات تشكل خلفية نظرية، ولكن تاريخية وعملية ايضاً بأن الاساس والاصل في القيم المتولدة هو جهد الانسان وعمله، وعندما نقول القيم المتولدة فأننا نقول أيضاً قيمة البضاعة وبالتالي سعرها وبالتالي الحقوق والمداخيل التي ستتشكل لبقية العناصر المشاركة في مجمل عملية الانتاج والتوزيع والإدارة، لكن هذه الخاصية للعمل التي كان يجب أن تعطيه الحق الأول تحولت في ظل انظمة التعسف والجور والاستبداد إلى نقمة على الإنسان، وعندما نقول انظمة الجور والاستبداد فأننا نشير إلى كل الاشكال التي اخذتها تلك الانظمة عبر التاريخ الاسلامي وغير الاسلامي، والقديم والمعاصر بحيث استطاع هذا الاخير (المعاصر) أن يقنن الاستغلال بقوانين وقيم واعراف أخذت ابعاداً شمولية وعالمية تتحكم اليوم بمصير الشعوب والأمم قاطبة بما في ذلك الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي، وبذلك يفقد الاقتصاد أكثر فأكثر الحبل الأساس الذي يشده إلى أرض الحقيقة والواقع، ونقصد به جهد الإنسان وسعيه وكدحه باعتباره خليفة الله جل جلاله على الارض.
الحاجة:
تعتبر الحاجة في نظر الشيوعية كل وفقاً لطاقاته والحاجة هي المعيار الاساسي في توزيع الناتج، فلا يسمح للعمل بإيجاد ملكية أوسع نطاقاً من حاجة العمل، بينما يعترف الاسلام بالعمل بوصفه أداة للتوزيع إلى جانب الحاجة، وبذلك يفتح المجال في الحياة الاقتصادية لظهور كل الطاقات والمواهب نموها، ويدفع الأفراد الموهوبين إلى انفاق كل إمكاناتهم في مضمار المدينة والاقتصاد، وعلى عكس الشيوعية فإنها اقامت التوزيع على اساس حاجة العامل وحدها دون نوعية عمله ونشاطه، وبذلك تؤدي إلى تجميد الدوافع الطبيعية في الإنسان الباعثة على الجد والنشاط، فإن الذي يبعث الفرد على ذلك أنما هو في الحقيقة مصلحته الخاصة، فإذا جرد العمل عن وصفه أداة توزيع، واتخذت الحاجة وحدها مقياساً نصيب كل فرد كما تصنع الشيوعية، كان في ذلك القضاء على أهم قوة دافعة بالجهاز الاقتصادي إلى الإمام ومحركة له في اتجاه متصاعد.
الحاجة عند الماركسية هي كل حسب طاقته وحسب عمله، فالعمل هو الجهاز الاساسي للتوزيع، ولكل عامل الحق في نتيجة عمله، مهما كانت النتيجة ضئيلة أو كبيرة، وبذلك يلغى دور الحاجة في التوزيع، فلا يقف نصيب العامل عند حاجته إذا كان ينتج في عمله أكثر من حاجته، كما لا يحظى العامل بما يشبع حاجته كاملة، إذا قصر به عمله عن تقديم خدمة إنتاجية توازي ذلك فلكل فرد إذن قيمه عمله، مهما كانت حاجته ومهما حققه العمل من قيمة، وهذا يختلف عن وجهة نظر الاسلام في الحاجة، فإن لها في رأيه دوراً إيجابياً مهماً، لأنها لم تكن سبباً لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله، والاسلام لم يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين، بل جعل الحاجة نصيباً من ذلك، والفرد العاجز عن العمل محكوم عليه في المجتمعات الاشتراكية بالموت والجوع، ولذلك تؤمن الماركسية أن الرق وموت الرقيق تحت السياط وحرمانه من ثمرات عمله كان شيئاً سائغاً في ظروف الصراع الطبقي بين السادة والعبيد، وهذا الفئة عند الماركسية مجردة من الملكية ووسائل الانتاج فهي لا تندرج ضمن أحدى الطبقتين المتصارعتين، الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، أما الاسلام فهو لا يحدد عملية التوزيع على اساس الصراع الطبقي في المجتمع، وإنما يحددها في ضوء المثل الأعلى للمجتمع السعيد، وعلى اساس من القيم الخلقية الثابتة، التي تفرض توزيع الثروة بالشكل الذي يضمن تحقيق تلك القيم وإيجاد ذلك المثل، وتقليص الآم الحرمان بأكبر درجة ممكنة، ويستند السيد الصدر على قوله تعالى" والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم".(سورة المعارج، الآيتان 24_25)، والحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من الأدوات الايجابية للتوزيع، وإنما هي أداة ذات صفة متناقضة، والحاجة لا تعني شيئاً ايجابياً في التوزيع الرأسمالي، وإنما تعني وفرة المعروض من القوى العاملة، وتعني انسحاب الفرد من مجال التوزيع وليست أداة للتوزيع، أما عند الاسلام فهي كلما اشتدت عند الافراد انخفض نصيبهم من التوزيع، حتى يؤدي الانخفاض في نهاية الأمر، إلى انسحاب عدد كبير من مجال العمل والتوزيع(30).
الملكية:
يقرر الاسلام أن العمل سبباً بالملكية، وفقاً للميل الطبيعي في الانسان إلى التملك نتائج عمله، واتخذ من العمل على هذا الاساس أداة رئيسية للتوزيع أنتهى من ذلك إلى أمرين:
الأول: السماح بظهور الملكية الخاصة على الصعيد الاقتصادي، فإن العمل إذا كان اساساً للملكية، فمن الطبيعي أن توجد للعامل ملكية خاصة وللسلع التي تدخل في إيجادها وجعلها مالاً، مثل المزروعات والمنسوجات وما شاكلها، وأن تملك الإنسان العامل للأموال تعبير عن ميل طبيعي فيه، لكنه ليس من حق العامل أن يبذر مادامت ماله الخاص، ولأجل ذلك تدخل الاسلام في تحديد حقوقه، فأنكر واعترف بالبعض الآخر، فقد انكر حق المالك في التبذير بماله أو الاسراف به في مجال الإنفاق وأقر حقه في الاستمتاع به دون تبذير أو اسراف، وأنكر حق المالك في تنمية أمواله التي يملكها عن طريق الربا، واجاز له عن طريق التجارة ضمن حدود وشروط خاصة.
ثانياً: العمل إذا كان هو الاساس الرئيسي للملكية الخاصة، فيجب أن يقتصر نطاق الملكية الخاصة، على الأموال التي يمكن للعمل أن يتدخل في إيجادها أو تركيبها، دون الأموال التي ليس للعمل فيه أدنى تأثير، وعلى هذا الاساس تنقسم الثروات إلى ثروات خاصة وثروات عامة.
أما الثروات الخاصة، كل مال سيتكون أو بتكليف طبقاً للعمل البشري الخاص المتفق عليه كالمزروعات، فالعمل البشري يتدخل هنا أما في تكوين نفس المال، كعمل المزارع أو تكليف وجوده واعداده بالصورة التي تسمح بالاستفادة منه، كالعمل المبذول في استخراج الكهرباء، وهذه الثروات التي يدخل العمل البشري في حسابها، هي المجال المحدد في الاسلام الملكية الخاصة، أي النطاق الذي يسمح الاسلام بظهور الملكية، ومادامت تلك الأموال ممتزجة بالعمل البشري، فالعامل أن يمتلكها ويستعمل حقوق التملك من استمتاع والتجار وغيرها.
أما الثروات العامة، هي كل ما لم تتدخل اليد البشري فيه كالأرض فإنها لم تصنعه اليد البشرية وأن كان يتدخل أحياناً في تكييف الأرض، بالكيفية التي تجعلها صالحة للزراعة والاستثمار، غير أن هذا محدود مهما فرض أمده، فإن عمر الأرض أطول منه، فهو لا يعدو أن يكون تكيفاً لفترة محدودة من عمر الأرض.
أن الاسلام حين سمح بظهور الملكية الخاصة على اساس العمل خالف الرأسمالية والماركسية معاً، في الحق التي منحها للمالك، والمجالات التي فسح له بممارستها، فلم يسمح له باستعمال ماله في تنمية ثروته سماحاً مطلقاً دون تحديد كما صنعت الرأسمالية، فأجازت كل ألوان الربح ولم يغلق عليه فرصة الربح نهائياً كما تفعل الماركسية، إذ تحرم الربح والاستثمار الفردي للمال بمختلف اشكاله، وإنما وقف الاسلام موقفاً وسطاً، فحرم بعض ألوان الربح كالربح الربوي وسمح ببعض أخر كالربح التجاري(31). والمذهب الإسلامي يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فهو يؤمن بالملكية الخاصة والملكية الجماعية وملكية الدولة، ويحدد لهذه الأشكال الثلاثة من الملكية حقلاً ، وتنوع أشكال الملكية في المذهب الإسلامي لا يعني أنه مزج بين المذهبين، وإنما يعبر عن تصميم مذهبي أصيل قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وإن إلغاء الملكية الخاصة واستبدالها بالملكية العامة فحسب لا يحل المشكلة ولا يخلص المجتمع من الفقر والفاقة، ولا ينجيه من سيطرة طبقة معينة على رقاب أبناء المجتمع، فالنظام الاشتراكي وإن صادر ملكيات الطبقة الرأسمالية، لا يقطع الطريق على نشوء طبقة أخرى تتمتع بمزايا الطبقة الرأسمالية ذاتها، بل تكرس الطبقية والاستغلال بحكم القانون وبالقيم الماركسية نفسها، وبأبشع صورها وأَقسى درجاتها، حيث تقرر دكتاتورية البروليتاريا ممثلة بالحزب الشيوعي، حزبها الطليعي الذي يمسك بالأمور وبمنتهى الصرامة وأَشدها، وبأعلى درجات الإدارة المركزية.
التبادل(التداول):
التبادل هو أحد الأركان الاساسية في الحياة الاقتصادية، وهو لا يقل أهمية عن الانتاج والتوزيع، وأن كان متأخر عنهما تاريخياً، فإن الوجود التاريخي للإنتاج والتوزيع يقترن دائماً بالوجود الاجتماعي للإنسان، فمتى وجد مجتمع إنساني فمن الضروري أن يواصل حياته ويكسب معيشته وأن يمارس لوناً من ألوان الانتاج، وأن يوزع الثروة المنتجة على أفراده بأي شكل من أشكال التوزيع التي يتفق عليه، فلا حياة اجتماعية للإنسان دون انتاج وتوزيع، وأما التبادل فلم يكن في الحياة البدائية، لأن المجتمعات في بداية تكوينها تعيش على الأغلب لوناً من الاقتصاد البدائي المقفل الذي يعني قيام كل عائلة في المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج إليه دون الاستعانة بمجهودات الآخرين، وتبدأ المبادلة دورها الفعال على الصعيد الاقتصادي، حين تتنوع حاجات الإنسان وتنمو، وتتعدد السلع التي يحتاجها في حياته، ويصبح كل فرد عاجزاً بمفرده عن انتاج كل ما يحتاجه من تلك السلع بأنواعها واشكالها المختلفة، فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده ويأخذ كل منتج أو فئة من المنتجين بالتخصص في انتاج سلعة معينة من السلع المختلفة التي يحسن انتاجها أكثر من غيرها، ويشبع حاجاته الأخرى بمبادلة الفائض من السلع التي ينتجها، بما يحتاج من السلع التي ينتجها الاخرون، فتبدأ المبادلة في الحياة الاقتصادية وهكذا تنشأ المبادلة تسير الحياة الاقتصادية وتجاوباً مع اتساع الحاجات واتجاه الانتاج إلى التخصص والتطور.
يعرف السيد الصدر المبادلة وهي" المبادلة في الحقيقة تعمل في الحياة الاقتصادية للمجتمع، بوصفها واسطة بين الانتاج والاستهلاك أو بتعبير آخر بين المنتجين والمستهلكين، فالمنتج يجد دائماً عن طريق المبادلة المستهلك الذي يحتاج إلى السلعة التي ينتجها، وهذا المستهلك بدوره، ينتج سلعة من نوع آخر ويحصل في المبادلة على المستهلك الذي يثريها". ويعتقد السيد الصدر أنه نشأ عن المبادلة وضع مليء بالمآسي وألوان الاستغلال، نظيراً ما تنشأ عن الاوضاع الظالمة للتوزيع في مجتمعات الرق والاقطاع، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية، فأصبحت أداة استغلال وتعقيد لا أداة إشباع للحاجات وتسير الحياة وواسطة بين الانتاج والادخار لا بين الانتاج والاستهلاك، وللمبادلة شكلين وهما:
1_ المبادلة على اساس المقايضة.
2_ المبادلة على اساس النقد.
المبادلة على اساس المقايضة، وهي مبادلة سلعة بأخرى، وهذا الشكل هو اسبق تاريخياً إذ كان مثلاً من ينتج حنطة يحتفظ بنصفها لإشباع حاجاته، ويستبدل النصف الثاني بسلعة أخرى مثلاً قطن، لكن هذا التبادل يبدأ يسير بصعوبة وتعقيداً على مر الزمان، كلما ازداد التخصص وتنوعت الحاجات، لأن المقايضة تضطر منتج الحنطة أن يجد حاجته من القطن عند شخص يرغب في الحصول على الحنطة، وهكذا تتولد الصعوبات من ندرة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع أضف إلى ذلك صعوبة التوافق بين قيم الاشياء المعدة للتبادل، فمن كان يملك فرساً لا يستطيع أن يحصل عن طريقها على دجاجة، لأن قيمة الدجاجة أقل من قيمة الفرس، لهذه الاسباب بدأت المجتمعات التي تعتمد على المبادلة، كفكرة في تعديل المقايضة بشكل يعالج تلك المشاكل، فنشأت فكرة استعمال النقد بوصفه أداة للمبادلة بدلاً عن السلعة نفسها، وظهر على هذا الاساس الشكل الثاني للمبادلة، أي المبادلة على اساس النقد، فأصبح النقد وكيلاً عن السلعة التي كان يظهر المشتري إلى تقديمها للبائع في المقايضة، إذ صعوبة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع زالت إذ لم يعد من الضروري للمشتري أن يقدم إلى البائع السلعة التي يحتاجها، إنما يكفي أن يقدم له النقد الذي يمكنه من شراء تلك السلعة من منتجها بعد ذلك، لأن قيمة كل سلعة اصبحت تقدر بالنسبة للنقود، وهي تقدر كلها بالنسبة لسلعة واحدة وهي النقد بوصفه المقياس العام للقيمة، وكل هذه التسهيلات نتجت من وكالة النقد عن السلعة في مجالات التداول، لكنه نشأت عن النقد ظاهرة اكتناز المال وتجميده، والنقد يمتاز عن سائر السلع، فأن السلع لم يستطيع أحد اكتنازها، لأن السلع تنقص على مر الزمن، وقد يتطلب الاحتفاظ بها إلى نفقات عديدة، وعلى عكس النقد فإنه قابل للبقاء والادخار، ولا يكلف اكتناز شيئاً من النفقات، كما أنه بوصفه الوكيل العام عن السلع، ويضمن للمكتنز قدرته على الشراء أي سلعة في كل وقت، ونجم عن ذلك أن تخلت المبادلة وظيفتها الصالحة في الحياة الاقتصادية كواسطة بين الانتاج والاستهلاك، واصبحت واسطة بين الانتاج والادخار، فالبائع ينتج ويبيع ويبادل منتوجه بنقد ليدخر هذه النقد، ويدخر التي يبيعها، ثم لا يتمكن هو بعد ذلك أن يبيع منتوجه بدوره، لأن البائع اكتنز النقد وسحبه من مجال التداول، ونتج عن ذلك كمية كبيرة في التوازن بين كمية العرض وكمية الطلب، ذلك أن العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة، وبعد أن بدأ عصر النقد وسيطرة النقد على التجارة واتجه الانتاج والبيع اتجاهاً جديداً حتى اصبح الانتاج والبيع لأجل اكتناز النقد وتنمية الملك، لأجل اشباع الحاجة، عند ذلك يختل طبعاً التوازن بين العرض والطلب، وتلعب دواعي الاحتكار دورها الخطيرة في تعميق هذا التناقض بين العرض والطلب، حتى أن المحتكر قد يخلق طلباً كاذباً، فيشتري كل أفراد السلعة من السوق، لا لحاجته إليها بل ليرفع ثمنها أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها، بقصد الجاء المنتجين والبائعين الأخرين إلى الانسحاب من ميدان التناقض واعلان الافلاس، وهكذا تتخذ الاثمان وضعاً غير طبيعي، ويصبح السوق تحت سيطرة الاحتكار ويتهاوى الكثير من البائعين والمنتجين الصغار كل حين بين أيدي المحتكرين الكبار الذين سيطروا على السوق، وقد أدى النقد إلى مشكلة أخرى وهي اصبح أداة تنمية المال عن طريق الفائدة، التي يتقاضاها الدائنون من مدينتهم، وهكذا اصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية لتنمية الثروة بدلاً عن الانتاج وانسحبت بذلك رؤوس أموال كثيرة من حقل الانتاج إلى صناديق الادخار في المصارف، وبذلك اصبح التاجر لا يقدم على مشروع من مشاريع الانتاج والتجارة إلا إذا أطمأن إلى أن الربح أكثر من الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها عن طريق اقراض ماله، أو أيداعه في المصاريف، وأخذت الأموال على اساس الفائدة الربوية، تتسرب إلى الصيارفة منذ العصر الرأسمالي، وقامت على اساس هذا التجمع المصارف والبيوت المالية الكبيرة، التي امتلكت زمام الثروة في البلاد وقضت على أي مظهر من مظاهر التوازن في الحياة الاقتصادية، وقد عالج الاسلام المشاكل النابعة من النقد واستطاع أن يعيد للتداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الانتاج والاستهلاك وذلك من خلال عدة نقاط منها:
1_ منع الاسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر في كل عام، حتى تستوعب النقد المكتنز كله تقريباً، إذ طال اكتنازه عدة سنين، ولهذا يعتبر القرآن الكريم الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار، لأن الاكتناز يعني بطبيعة الحال، التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً، وقد ذكر في القرآن الكريم قول تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون".( سورة التوبة الآيتان 34_35)، وعن هذا الطريق ضمن الاسلام بقاء المال في مجالات الانتاج والتبادل والاستهلاك وحال دون تسلله إلى صناديق الاكتناز والادخار.
2_ حرم الاسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه، وبذلك قضى على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك مستقلة بذاتها، ورده إلى دوره الطبيعي الذي يباشر بوصفه وكيلاً عاماً عن السلع، وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها.
3_ اعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول، والاشراف على الاسواق للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهد للتحكم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول(32).
الضمان الاجتماعي:
فرض الاسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الاسلامي ضماناً كاملاً، وهي تقوم بهذه المهمة على مرحلتين، أما الأولى تهيء الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر، ليعيش على اساس عمله وجهده، فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرص عمل، يأتي دور الدولة التي تطبق فيه الضمان الاجتماعي عن طريق تهيئة المال الكافي لسد حاجات الفرد، وتوفير حد خاص من المعيشة له، ومبدأ الضمان في الاقتصاد الاسلامي يسير بمبدأين اساسيين وهما التكافل والآخر حق الجماعة في موارد الدولة(33).
أ_التكافل:
التكافل هو المبدأ الذي يفرض فيه الاسلام على المسلمين كفالة بعضهم لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، ويجب عليه أن يؤديها على أي حال، كما يؤدي سائر فرائضه، والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على اساس هذا المبدأ للتكافل بين المسلمين، يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الاسلام على أنفسهم، فهي بوصفها أمينة على تطبيق أحكام الاسلام، والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(34). وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا لأمر الله جل جلاله، وهذا المبدأ يرقى إلى مفهوم الفريضة بمعنى وجوب كفالة المسلم للمسلم على نحو الوجوب الكفائي، الذي يسقط بامتثال البعض الذي يتحقق في امتثاله هدف الشارع وغايته، وكان يمكن الاكتفاء بما تقوم به الدولة من إجبار الأغنياء على كفالة الفقراء، بفرض ضرائب تؤدي وتستقطع من الطبقات الغنية لحساب الفقيرة دون حاجة لإضفاء صفة الفريضة على هذه العملية أو صبغها بالطابع العبادي، غير أن الإسلام باهتمامه بالعامل الذاتي والنفسي أصر على أن لا يتم تحقيق مبدأ التكافل هذا بطريقة مجردة عن الدافع الخلقي والعامل النفسي، الذي يدفع المكلف بشكل واعي ومقصود لتحقيق هذا المبدأ مصحوباً بالتقرب إلى الله جل جلاله مما يسهل عمل الدولة في تحقيق الضمان بأقل جهد وأدنى رقابة.
حق الجماعة في مصادر الثروة:
حق الجماعة في مصادر الثروة، وعلى اساس هذا الحق تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، وعلى هذا الاساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الاساسية للفرد، من غذاء ومسكن ولباس، وأن يكون اشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية، في مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الاسلامي، كما يجب على الدولة اشباع غير الحاجات الاساسية من سائر الحاجات، التي تدخل في مفهوم المجتمع الاسلامي عن الكفاية تبعاً لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه(35). وعلى أساس هذا الحق تكون الدولة مسئولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين ، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم , وبذلك يتضح أن الضمان الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس الإيمان بحق الجماعة كلها في مصادر الثروة ، لأن هذه المواد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة لا لفئة دون فئة , وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها ، فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة ، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها , ومن لم تتح له فرصة العمل ، أو كان عاجزاً عنه ، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم، ومن الجدير بالذكر أن ضمان الدولة الإسلامية لا يختص بالمسلم وحده، بل يشمل غير المسلم ممن يعيش في ظل الدولة الإسلامية.
التوازن الاجتماعي:
هو التوازن بين افراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل، والتوازن في المعيشة معناه أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم، إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحد من المعيشة مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد وتتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي، وهذا لا يعني أن الاسلام يفرض ايجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة، وإنما جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة هدفاً تسعى الدولة في حدود صلاحياتها إلى تحقيقه والوصول إليه، بمختلف الطرق والاساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها، وقد قام الاسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف، بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الاسراف، وبضغط المستوى من اسفل بالارتفاع بالأفراد والذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع، وبذلك تتقارب المستويات حتى تندمج أخيراً في مستوى واحد، وقد شرع الاسلام ووضع فريضة الزكاة والخمس، لأجل معالجة الفقر والارتفاع بالفقير إلى مستوى المعيشة، وتحقيقاً للتوازن الاجتماعي، وكما وضع الاسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفل أيضاً بتوفير الامكانات اللازمة للدولة، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الإمكانات، ويمكن تلخيص هذه الإمكانات:
1_ فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة، وينفق منها لرعاية التوازن الاجتماعي.
2_ إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن.
3_ طبيعة التشريع الاسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول(36).
الحرية الاقتصادية:
يمارس الافراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبالعكس يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع، أما الاسلام يسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتقلصها وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها، والتحديد الاسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
1_ التحديد الذاتي، الذي ينبع من اعماق النفس ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الاسلامية، وهذا التحديد الذاتي نابع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم، ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً للحرية في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر إنشاءً معنوياً صالحاً.
2_ التحديد الموضوعي، الذي يعبر عن قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي وتضبطه، ويعني به السيد الصدر أنه التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الاسلامي من الخارج بقوة الشرع، فلا حرية للشخص الذي نصت عليه الشريعة، وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الاسلام بالطريقة التالية:
أ_ كفلت الشريعة في مصادرها للعامة النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية المعيقة في نظر الاسلام عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الاسلام كالربا والاحتكار وغير ذلك.
ب_ وضعت الشريعة مبدأ اشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالحة العامة وحراستها، وذلك لضمان العدالة الاجتماعية في المجتمع والسلطة الاسلامية لها حق الطاعة والتدخل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الاجتماعي على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة، فلا يجوز للدولة أن تحلل الربا أو يجيز الغش(37).
العدالة الاجتماعية:
الركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي هو العدالة الاجتماعية، التي جسدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية، وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها، والصورة العامة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامين لكل منه خطوطه الرئيسية: أحدهما مبدأ التكافل العام، والآخر مبدأ التوازن الاجتماعي(38). وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي تتحقق قيم العدالة الاجتماعية، إذ أن الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة، وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين، واستطاع بعد ذلك أن يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
إشراف الدولة على الاقتصاد:
يرى السيد الصدر أن على الدولة في المجتمع الإسلامي أن ترسم سياسة اقتصادية للإنتاج، تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات على أن تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاري له وكما يجب على الدولة في هذا المجال أن تتوخى في رسم سياسة الإنتاج إزالة العوائق الطبيعية بالاستفادة من خيرات العلم ومنجزاته، ووضع خطة موجهة له تقوم على أساليب الإحصاء، كذلك يجب على الدولة أن تزيل العوائق السياسية عن استثمار المجتمع لثروته، وتقضي على كل ظواهرها التي تمس كرامة الأمة وسيادتها على ثرواتها، أما مبررات تدخل الدولة في رسم السياسة الاقتصادية لحركة الإنتاج ومشروعية هذا التدخل فيظهر فيما يلي:
1_ أن إعطاء الدولة الإسلامية الحق في الإشراف على الإنتاج وتخطيطه مركزياً يهدف إلى تفادي الفوضى، التي يؤدي إلى شل حركة الإنتاج، وتعصف بالحياة الاقتصادية.
2_ أن رسم سياسة اقتصادية للتنمية الاقتصادية ورفع مستوى الإنتاج يعتبر واجباً على الدولة في حدود صلاحياتها، وذلك لأن القوة الاقتصادية أصبحت من أكبر القوى الاجتماعية التي تدخل في تقييم المجتمعات، وتحديد درجة قوتها وصمودها على الساحة الدولية، وفي وقت أصبح الضغط الاقتصادي من أشرس وسائل القوى الاحتكارية للنيل من كرامة الشعوب وارتهان مصائرها.
3_ تنبع مسؤولية إشراف الدولة على حركة الإنتاج من وجوب تطبيق السياسة الإسلامية في مجال الإنتاج، وضمان إنتاج الحاجات العامة بدرجة توفر للجميع فرصة الحصول عليها والحيلولة دون الإشراف على الإنتاج، كما أن الفرد يحرم عليه الإشراف في الإنفاق كذلك يحرم على المجتمع الإسراف فيه، بل يبدو الإسراف العام والجماعي أخطر بكثير من الإسراف الفردي إذ يؤدي بثروات المجتمعات إلى الهدر والضياع، ولكي تضمن الدولة الحد الأدنى من السلع الضرورية، التي يحتاجها أفراد المجتمع، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه، فلابد لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدين من إشراف الدولة وتوجيهها، ومضافاً إلى ما تقدم فإن التشريع الإٍسلامي بشأن توزيع الثروات الطبيعية يفسح المجال بتدخل الدولة هذا، إذ يتوجب حفاظاَ على هذه الثروات أن يتم للدولة الهيمنة على الصناعات الاستخراجية، وإنتاج المواد الأولية وهو يعني بالضرورة تدخلها بصورة غير مباشرة على مختلف فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية.
4_ من المبررات التي تستوجب تدخل الدولة في الإنتاج الصلة المذهبية في الإسلام بين عملية الإنتاج والتوزيع، وهي ما يسميها السيد الصدر بفكرة التطبيق الموجه، والتي تحدد الإنتاج بوصفه عملية تطبيق لقواعد التوزيع لضمان عدالة التوزيع، وعلى أساس هذه الفكرة يحق للدولة الإسلامية التدخل في تطبيق القواعد الثابتة في مجال الإنتاج لحساب التوزيع، إذ قد يمكن نمو الإنتاج وتطوير وسائل الأفراد من استغلال هذه القواعد بشكل يؤثر سلبياً على عدالة التوزيع، فتبادر الدولة إلى منع من هذا الاستغلال، ويعتقد السيد الصدر أن هذه الفكرة تعبر بوضوح عن صلاحية قواعد الإسلام العامة في التوزيع، وانسجامها مع تصوراته للعدالة الاجتماعية في كل زمان ومكان.
5_ أن سيطرة الدولة على القطاع العام يجعلها في وضع متميز، يجعل منها قوة موجهة وقائدة للحقول الإنتاجية الأخرى.
6_ يعتبر المفهوم الإسلامي للتداول الأساس الذي يخول الدولة استعمال صلاحياتها في مجالات تنظيم التداول، فتمنع كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج، وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة، فتسعى الدولة إلى استئصال الأدوار الطفيلية للوسطاء بين عمليتي الإنتاج والاستهلاك والتقريب بينهما.
أعطى الإسلام لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول، والإشراف على الأسواق للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهد للتحكم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول، وعلى أساس ذلك تمنع الدولة من حالات التضخم المصطنع في المجتمعات الرأسمالية والذي يظهر في تعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك، وزيادة الهوة بينهما، وهو ما يؤدي بدوره إلى رفع الأسعار والتحكم بالسوق، كما ويظهر إشراف الدولة على السوق في مقاومة الاحتكار، وكل عملية يستهدف منها إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها، وكذلك الأمر في الأسعار فإن تحديدها من شؤون الدولة الإسلامية، ويتم ذلك على أساس موازين العدل وعدم الإجحاف.
تعتبر الدولة الإسلامية الحارس الأمين المكلف بحماية هذه الملكية العامة والمنع من التعدي عليها، وفي هذا الصدد يرى السيد الصدر أن مسؤولية الدولة في رعاية القطاع العام فهي ثابتة بحكم كونها أمانة تتسلمها الدولة للحفاظ عليها، فلابد لولي الأمر من رعاية هذا القطاع والاستفادة من أحدث الأساليب، وكل المستجدات العلمية في سبيل تنميته وإصلاحه والانتفاع بمستوى قدرته الإنتاجية، لكي يكون قوة كبيرة موجهة للحياة الاقتصادية نحو أهدافها الإسلامية الرشيدة، ولذلك اعتبر السيد الصدر أن سماح الدولة للأفراد بالإحياء واكتساب حق الأولوية على مصادر الثروة الطبيعية، ليس إلا أحد الأشكال الممكنة التي تمارسها الدولة في استثمار القطاع العام وتوظيفه اقتصادياً، وللدولة أن تمارس استثمار القطاع العام بأشكال أخرى إذا كانت تحقق نتائج أفضل.
الهوامش:
1_ ينظر السيد محمد باقر الصدر: اقتصادنا، مؤسسة بوستان كتاب قم، إيران، ط2، ص44.
2_ينظر المصدر نفسه، ص315_316.
3_ينظر المصدر نفسه، ص44.
4_ينظر المصدر نفسه، ص46_47.
5_ينظر المصدر نفسه، ص215.
6_ينظر المصدر نفسه، ص359_362_364_365.
7_ينظر السيد محمد باقر الصدر: المدرسة الاسلامية، دار الكتاب المصري، القاهرة، 2010، ص166_167.
8_ينظر السيد محمد باقر الصدر: اقتصادنا، ص317_319.
9_ينظر المصدر نفسه، ص26_27.
10_ينظر المصدر نفسه، ص34_38.
11_ينظر المصدر نفسه، ص235.
12_ينظر المصدر نفسه، ص217.
13_ينظر المصدر نفسه، ص241.
14_ينظر المصدر نفسه، ص243_244.
15_ينظر المصدر نفسه، ص331_332.
16_ينظر المصدر نفسه، ص332.
17_ينظر المصدر نفسه، ص281_282.
18_ينظر المصدر نفسه، ص290_291.
19_ينظر المصدر نفسه، ص294_295_296_297_298.
20_ينظر المصدر نفسه، ص299_300_301.
21_ينظر المصدر نفسه، ص322_323.
22_ينظر المصدر نفسه، ص57_58.
23_ينظر المصدر نفسه، ص107.
24_ينظر المصدر نفسه، ص323.
25_ينظر المصدر نفسه، ص333.
26_ينظر المصدر نفسه، ص346.
27_ينظر المصدر نفسه، ص337_338.
28_ينظر المصدر نفسه، ص328.
29_ينظر المصدر نفسه، ص335_336.
30_ينظر المصدر نفسه، ص338_339_340_341_342.
31_ينظر المصدر نفسه، ص342_343_344_345.
32_ينظر المصدر نفسه، ص346_347_348_349_351_353_354_355.
33_ينظر المصدر نفسه، ص661.
34_ينظر المصدر نفسه، ص662.
35_ينظر المصدر نفسه، ص664_665.
36_ينظر المصدر نفسه، ص673_676.
37_ينظر المصدر نفسه، ص284_285_286.
38_ينظر المصدر نفسه، ص289.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟


.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة




.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه