الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثابت والمتحول عند بارمينيدس

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 1 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٥٦ - بارمينيدس وفلسفة التوفيق بين السكون والحركة

أغلب كتب التاريخ المتعلقة بأعلام الفلسفة تذكر القليل النادر من المعلومات الغير متضاربة عن حياة بارمينيدس، ونكاد لا نعرف عنه أي شيء مؤكد، وفي هذا الأمر يشترك مع الفلاسفة السابقين في نذرة المعلومات وتضارب المصادر. الشيء الأكيد أنه كان من مواطني مدينة إيليا Elea، المستعمرة اليونانية في جنوب إيطاليا الحالية، وكان يمارس الفكر والفلسفة وأسس مدرسة فلسفية تعرف اليوم بالمدرسة الإيلية، كما كان يمارس الشعر والدين، ويعتقد أنه كان كاهنا، أو ذو منصب ديني في أحد معابد أبوللون، وربما يمكن إعتباره من الحكماء ومواصلا للتقاليد اليونانية السابقة، حسب قول الباحثة ميشلين سوفاج في دراستها عن بارمينيدس، فقد أعطى لمدينته العديد من الشرائع والقوانين التي حُكمت بها المدينة بطريقة ناجحة لدرجة أنه كان يُفرض على السياسيين، حسب قول بلوتارك، أن يجددوا القسم كل سنة بأن يظلوا أمناء ومخلصين لهذه الشرائع وينفذوا بنودها. وحسب رواية إفلاطون، فإن بارمينيدس قد زار أثينا، وقابل سقراط مع تلميذه زينون حوالي عام ٤٥٠ ق.م وهو قد تجاوز الستين سنة من عمره. ولا يُعرف بالتأكيد تاريخ ميلاده الحقيقي وإن كان البعض يفترض أن جل حياته كانت بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وبذلك ينتمي إلى ما تسميه المصادر الأكاديمية بـ " ما قبل السقراطيين les anté-socratiques". يعتبر أفلاطون الفلاسفة ما قبل سقراط كفيزيائيين في منتصف الطريق بين علم الكونيات الأسطوري والجهاز العقلاني. أما بروكلوس Proclus فقد فرّق بينهم ووضعهم في مجموعتين: علماء الوجود les ontologues وهم يونانيون من إيطاليا: بارمينيدس وزينون، تلميذه الرئيسي، وكلاهما من إيليا، أما إمبيدوقليس فهو من أغريجنتو. ثم علماء الكونيات les cosmologues وهم هيراقليطس (504)، أناكساغوراس (مواليد 500)، طاليس (585) وهم يونانيون من الأناضول.
من ناحية أخرى ، سيؤسس بارمينيدس طريقة جديدة للتفكير وممارسة اللوغوس، والتي ستكون الخطوة الأولى في الفلسفة، ويوجد أثر هذه المؤسسة البارمينيدية الجديدة في حوارين لأفلاطون: السفسطائي وبارمينيدس.
ويبدو أن الفلسفة قد أخذت طريقا جديدا مع ظهور بارمينيدس على الساحة الفكرية في نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد، بإعتباره من أوائل المهتمين بالقضية الأساسية في الفلسفة، وهي معاينة الكائن والكينونة وعلاقتهما بالعدم. ويعتبر بحق، مع هيراقليطس، مؤسس الأنطولوجيا وواضع أسس فلسفة الكينونة، فأغلب الفلاسفة أو الحكماء أو العلماء الذين سبقوه، كانوا يريدون تفسير العالم والأشياء ويبحثون عن الأسباب والعلل لظهور الكائنات في العالم، مندهشين من ميكانيكية الحركة والسكون، البرودة والحرارة، الرطوبة والجفاف .. وحاولوا إيجاد ومعرفة العلة أو السبب أو الجوهر ألأول للظواهر، وبحثوا في كل العناصر المعروفة، الماء والتراب والهوء والنار، أو الأعداد كما فعل الفيثاغويون. كانوا مندهشين من هذا البناء الضخم والمعقد والذي لم يتم بعد فك شفرته، وكأنهم كانوا يريدون معرفة كيف تسير ساعة إينشتاين وميكانيكيتها العامة دون الإهتمام بما تقيسه هذه الساعة .. فهيراقليطس الفيلسوف الغامض والمتعجرف، كان غاضبا من الشعر والشعراء، لان الملاحم الشعبية ذات المضمون الأسطوري والديني هي مجرد خرافات وأوهام، ذلك ان كل قول لا يصغي لصوت الحق - اللوغوس- لا يعدو ان يكون مجرد احلام . فهو يفصل ويميز بين الفلسفة و الشعر او بين العقل و الخيال :"بالنسبة للأيقاظ هناك كون منظم واحد مشترك بالنسبة للجميع، على حين أن كل إنسان في النوم، يشيح عن هذا العالم إلى عالم خاص ". أما بارمنيدس فقد أختار طريق الشعر، ليس الشعر الملحمي الخرافي، وإنما الشعر العقلي أو الفلسفي، حيث الحدس والتأمل العقلي للحقيقة ذات المصدر المتعالي، حيث الآلهة تلهم الفيلسوف الذي اختار طريق الغرابة وصعوبة الترحال بعيدا نحو الحقيقة .. مع بارمنيدس يريد أن يصبح الشعر نورا يضيء عتمة الطريق المؤدي الى الحقيقة، الطريق الذي يمر عبر المغامرة العقلية والصراع مع المجهول وغير المألوف بعيدا عن الطرق العامة التي يرتادها بقية البشر. ذاك هو في نظره الفيلسوف الحق المختار من قبل الالهة Thémis ومن قبل العدالة Dikê.. إن ما تجسده قصيدة بارمنيدس "في الطبيعة" هو هذا الترابط الوثيق بين الفلسفة و الشعر ومحاولة الاصغاء لصوت اللوغوس رغم أنه لم يتخلص من الغموض والعبارات الايحائية المبهمة مثله مثل هيراقليطس الذي كان يقول " اللوغوس ليس بالسهل و ليس بالممتنع ." وإفلاطون الذي كان يخاف ألا نفهم كلام بارمينيدس، كان يخاف أكثر عدم فهم تفكيره وإستحالة الوصول إليه. وتضاربت الآراء في تفسير هذا النص لدرجة التناقض بين المتخصصين، غير أنه يبدو أن أغلبيتهم اتفقوا على فكرتين أساسيتين بخصوصه. الفكرة الأولى هي أن بارمينيدس يعتبر مؤسس الأنطولوجيا أو علم الكينونة، وفي نفس الوقت وضع الأسس الأولية للمثالية. أي أنه تخلى عن محاولة فهم العالم وأكتفى بتأمل الكينونة كما هي، وأحل المفهوم المجرد محل الواقع الحقيقي، حيث يستشهد العديد من المحققين والمترجمين بالفقرة الثالثة من النص " إنه شيء واحد التفكير والكينونة ".
وبارمينيدس هو الأول الذي لم يهتم بالعلل والأسباب ولا بميكانيكية الطبيعة كما سبق القول، وأراد معرفة ماهية الكائن ومواصفات الكينونة ومواصفات العدم لبناء أنطولوجيا عقلية وذلك في قصيدة غريبة، يتلقى فيها توصيات وأوامر الإلاهة التي أستقبلته وتبنت تأهيله العلمي وإرشاده إلى طريق الحقيقة. وهذه الحقيقة التي يحاول بارمينيدس الوصول إليها هي بناء نظرية كونية عامة توفق بين دوام العالم الفيزيقي والتغير الدائم لكل الأشياء الكائنة.
تعتبر قصيدة بارمينيدس من أصعب النصوص الفلسفية والشعرية في التراث اليوناني. حيث تجادل الفلاسفة القدماء من قبل سقراط ومن بعده في معنى هذا النص المبتور وأهميته. وبعد أن ألقى نيتشه الضوء على عمق وأهمية المفكرين قبل سقراط، أزداد الإهتمام ببقايا نص بارمينيدس التي تم حفظها وهي بضع عشرات من الأبيات المنظومة على وتيرة القصائد الملحمية لهوميروس، أدت بالفعل إلى ظهور العديد من الطبعات والتفسيرات والتعليقات والتراجم، لدرجة أن قراءة هذه الأجزاء الغامضة في كثير من الأحيان انتهى بها الأمر لتصبح واحدة من التمارين الحاسمة لممارسة نوع من الإركيولوجيا النقدية للمفاهيم الأساسية للفكر الفلسفي عموما ولبداية الأنطولوجيا بصورة خاصة.
على مدى نصف القرن الماضي، صدرت دراسات عديدة بجميع اللغات الأوروبية، ففي فرنسا على سبيل المثال صدرت دراسة جان بوفريه - Jean Beaufret سنة ١٩٥٥، دينيس أوبراين Denis O Brien سنة ١٩٨٧، ريمي براغ Rémi Brague في نفس السنة، مارسيل كونش Marcel Conche سنة ١٩٩٦، باربرا كاسان Barbara Cassin سنة ١٩٩٨، ميشلين سوفاج Micheline Sauvage التي أصدرت دراسة بعنوان "بارمينيدس أو الحكمة المستحيلة " سنة ١٩٧٣ والذي تم ترجمته للعربية من قِبل بشارة صارجي، كذلك صدرت نسخة جديدة من القصيدة منقحة من قبل موريس ساشو Maurice Sachot، أصدرت سنة ٢٠١٦ عن جامعة ستراسبورغ. كما صدرت دراسات لا تحصى بالإنجليزية والألمانية والإيطالية .. إلخ ، بينما باللغة الألمانية، بعد مساهمة راينهاردت Reinhardt في عام ١٩١٦ ، كانت دروس هايدجر، التي تمت مراجعتها وإصدارها عدة مرات، هي التي مارست أقوى تأثير على المعلقين المختلفين الذين أهتموا ببارمينيدس. بالنسبة لهايدغر، بارمينيدس، يعتبر "راعيًا للوجود" على غرار هيراقليطس، حاسمًا في مفهومه الخاص عن الأنطولوجيا والبحث عن الكينونة الغائبة، مما دفع جان بولاك Jean Bollack، في ترجمته الجديدة لقصيدة بارمينيدس في كتابه " من الكائن إلى العالم - de l Etant au monde " الصادر سنة سنة ٢٠٠٦ إلى القول بأن مشروعه الفلسفي في هذا الكتاب هو تخليص بارمينيدس من مخالب هايدغر "désheideggeirianiser" وقراءة النص البارمينيدي قراءة جديدة بعيدة عن تعقيدات اللغة الألمانية وضبابية هايدغر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل