الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل العقلانية حكر على الشعوب الغربية ؟

عبد الحق سرار
مفكر جزائري مهتم بالواقع السياسي و الاجتماعي

(Abdelhak Serrar)

2024 / 1 / 8
المجتمع المدني


-جمعني حديث مع رئيس حزب يساري جزائري، وكان من بين المواضيع "ما بعد الحداثة وعلاقتها بدول الجنوب والدول المتخلفة" وهل لهذا الفكر أثر إيجابي عليها، فكان رأيه هو أن ما بعد الحداثة هي نقد للإمبريالية الغربية والعقلية الكولونيالية الأبوية، وأنها تمثل تحررا من سلطة خطابهم وفرضهم للحقائق كما يرى ميشال فوكو، وأن التفكير العقلاني يخدم تلك الدول الاستعمارية على حسابنا، بالتالي فما بعد الحداثة تخدمنا وهي ملجأنا الوحيد.
سأستخدم أدبيات ما بعد الحداثة في نقدها، وأقول أن هذه "السردية" التي تقول: "إن العقلانية منتج غربي" خاطئة، لأنها تربط العقلانية بالاستعمار و تسلط القوى الامبريالية على شعوب العالم الثالث منه يجب علينا أن نكون لا عقليين و ما بعد حداثيين، وهنا سأستعير لفظة ما بعد حداثية أخرى و أدعي أنني سأفكك هذه السردية "تفكيكا" ديريديا –جاك ديريدا –رغم أنني سأحللها تحليلا منطقيا فقط.

إن هذه الفكرة تعتمد على مغالطة منطقية فادحة، حيث يُفترض بأن العقلانية والتفكير المنطقي هما منتج غربي غير قابل للتطبيق على الشعوب الأخرى. وبناءً على هذا الافتراض الخاطئ، يتبع الاستنتاج بضرورة عدم تبني العقلانية وتفضيل فكر ما بعد الحداثة كرد فعل على هذه الفكرة الخاطئة، ولكن من قال أن العقلانية منتج غربي؟ كثير من الحضارات أنتجت تيارات عقلية منطقية منذ قرون قبل الحضارة الغربية فنجد في الحضارات الشرقية كالهند تيارات لها طابع عقلاني في طريقة التفكير كمدرسة "شارفاكا" و "سامخيا" ومدرسة "نيايا" و لن تجد في مختلف الحضارات قولا يعبر عن العقلانية مثل مقولة بوذا:

" لا تؤمن بأي شيءٍ فقط لأنك سمعته، لا تؤمن بأي شيءٍ فقط لأن الكثير من الناس يتحدثون به ويشيعونه بينهم، لا تؤمن بأي شيءٍ فقط لأنه موجودٌ في كتبك المقدسة، لا تؤمن بأي شيءٍ عن معلميك ومسنيك لمجرد أنك خاضعٌ لسلطتهم، لا تؤمن بالتقاليد لأنها قد تناقلتها الأجيال واحد تلو الآخر، وانما على اثر الملاحظة والتحليل، وعندما تجد أي شيءٍ متفقاً مع عقلك ومساهماً في تحقيق خير الفرد وخير الكل على حدٍ سواء، تقبله إذاً وامض حياتك وفياً له. "

أما الحضارة الإسلامية فقد أنتجت الكثير من التيارات العقلية كالمعتزلة وعقلانيين كابن رشد والفارابي وابن سينا والكندي وغيرهم

وحتى لو كان الغرب هو منتج التفكير العقلاني لو فرضنا ذلك جدلا فهذا لا يجعل من العقلانية غربية، ببساطة لأن الأفكار ميتافيزيقية يمكن لأي شعب تبنيها فلا يمكن أن نقول أن الهندسة هندية أو الجبر فارسي أو الرواقية يونانية أو الشعر عربي

نعم يمكن القول أن نمطا معينا من التفكير قد ظهر في منطقة معينة ولكن لا يمكننا ربطه بتلك المنطقة أو ذلك الشعب وجعله حكرا عليه هذا كلام غير صحيح.

العقلانية في جوهرها ليست فكرا أو أيديولوجية، بل هي ببساطة أن تفكر بطريقة صحيحة وتبحث عن الأفكار الصحيحة وتبرهن بطريقة صحيحة فهل الشعوب الغربية هي الشعوب الوحيدة في العالم القادرة على ذلك؟ طبعا لا

ثم لماذا لا نقول أن السفسطة غربية؟ مادامت ظهرت في اليونان القديم؟ والسفسطة لا تختلف قيد أنملة عن ما بعد الحداثة

بنفس المنطق لم لا نقول أن ما بعد الحداثة منتج غربي لا يصلح لشعوب العالم الأخرى؟

لقد ظهرت السفسطة في الغرب وظهرت ما بعد الحداثة – السفسطة المعاصرة-في الغرب أيضا فلما لا نقول أن ما بعد الحداثة منتج غربي لا يصلح لنا؟

لقد اشترك كثير من منظري ما بعد الحداثة على ربط العقلانية بالغرب، وجعل العقلانية فكرا ذكوريا تسلطيا غربيا يفرض على دول العالم الثالث وهذا غير صحيح تماما فالعقلانية تفكير منطقي يتحرى الصدق، ونقصد بالصدق هنا الأفكار الصحيحة، أو بلغة الفلسفة، "القضايا الصادقة"، فلو كانت هناك حضارة فضائية في كوكب ما في مجرتنا أو مجرة أخرى، و لنفرض أنها حضارة عاقلة متطورة يتحدث فيها الفضائيون بلغة ما، ربما عن طريق إشارات ضوئية فإنه حتما ستظهر عندهم العقلانية لأنها ببساطة التفكير المنطقي البعيد عن المغالطات المنطقية و العواطف، فهل نقول عندها أن العقلانية فكر فضائي أو من مجرة أندرومدا ؟ هل يمكن لسكان كوكب ما أن يطلبوا من سكان كوكب آخر ألا يفكروا بعقلانية لأن العقلانية منتج ناميكي –كوكب ناميك-؟

الأفكار ليست ملكا لأحد، الأفكار مجردة، يمكن أن يقتنع بها كل شخص، وكل شعب، فليست حكرا على أحد، ومن يروج لهذه الخرافة فهو مشترك في هذه المؤامرة لتجهيل الشعوب وتدجينها عن قصد أو عن غير قصد.

"يا شعوب العالم الثالث لا تكونوا عقلانيين لأن العقلانية منتج غربي"

نعم هكذا تكلم دجالو ما بعد الحداثة "كونوا ما بعد حداثيين كونوا مدلسين مسفسطين متناقضين غير عقلانيين حتى تتحرروا من ربقة الغرب"


ولكن من الذي روج لهذه الأفكار؟ الغرب ههههه

فْهْمْتْ؟ يعني هل فهمت؟



------------------------

بصوت منانوك الجزائري عندما قص قصة عن جزائري يحضر رسالة دكتوراه في إنجلترا وزار منانوك وبينما يدردشان حول الفرق بين الشعوب ولماذا نحن متخلفون، فرمى علبة مشروب غازي ، و جاءت طفلة انجليزية فقالت له "لا يمكنك رمي النفايات هنا توجد سلة نفايات هناك" فقام ذلك الرجل وألقى العلبة في سلة النفايات وهو خجل من تصرفه وعندما عاد وجلس أمام منانوك نظر إليه وقال له بالدارجة الجزائرية:"فْهْمْتْ؟"

----------------------------------------------------------

مفكرون غربيون يريدون منا أن نتحرر من الغرب عن طريق اتباعنا لأفكارهم فْهْمْتْ؟

العقلانية هي أفضل طريقة للتفكير، وليست حكرا على شعب ما، ليس الغرب هم أول من فكر بعقلانية ومنطق، حتى لو كانوا هم أول من فعل ذلك فالعقلانية ليست ملكا لهم، لهذا يجب علينا أن نفهم ونعي أن العقلانية هي الملاذ الوحيد لكل من أراد أن يتحرر،السلطة الحقيقية اليوم في العالم تريد منا أن نصبح ما بعد حداثيين غير عقلانيين، والسبب واضح فعندما تريد أن تتحكم في شعب ما فأنت لا تريد منه أن يكون عقلانيا


إن النخبة العالمية تريد من الشعوب كلها أن تصبح شعوبا غير عقلانية، انظر جيدا من حولك استفق استنر كل شيء يدعوا للاعقلانية :الأفلام التي تروج للسفسطة، الأغاني، الكتب، المفكرون، وسائل الإعلام، وسائل الاتصال التي تروج للتفاهة والسخف.

كل هذه الأمور تعمل معا لهدف واحد مشترك، ألا وهو تسخيف العقل الجمعي للشعوب رفع التافهين وجعلهم قدوة وتسخيف العقلانيين وتتفيههم واتهامهم مرة بالمثالية ومرة بالرجعية ومرة بكونهم يؤمنون بالمؤامرة وبادعاء امتلاك الحقيقة، رغم أنهم ليسوا كذلك، فالعقلاني آخر من يدعي أنه يمتلك الحقيقة لذاته بل العقلاني يطلب منك أن تحلل أفكاره وتناقشها.

الخلاصة:

إن دجالي ما بعد الحداثة الغربين يريدون من شعوب العالم الثالث أن تبتعد عن العقلانية لأنها منتج غربي ذكوري تسلطي، بالتالي يجب عليها أن تصبح لاعقلانية وهذه نفسها عقلية أبوية، دعوا هذه الشعوب تفكر كما تريد وليس كما تريدون أنتم.

العالم الثالث أيضا لديه مفكروه ومنظروه وعقوله القادرة على انتاج فكر حقيقي وليس مجرد ببغاوات تعيد ما يلفظه الغرب.

مرة كان الغرب عقلانيا فأرادوا منا أن نتبعه، ومرة صار لاعقلانيا فأرادوا منا أن نتبعه أيضا في لاعقلانيته!

ما هذا العبث؟

إن كنتم فعلا تريدون منا أن نتحرر منكم فلا تملوا علينا أفكارنا!

العقلانية هي الحل.

صرح نعوم تشومسكي في حوار له أن ما بعد الحداثة تعتبر خطرا كبيرا على دول العالم الثالث، لأنها تفصل نخبها المفكرة عن نضالات الشعوب من أجل التقدم والازدهار

فْهْمْتْ؟

إن هذا خير توصيف للمشكلة، لأن ما بعد الحداثة عندما تحارب العقلانية لن تستطيع الشعوب بمثقفيها وعوامها مواجهة مشاكلها، وتصبح قابلة للتدجين وهذا هو هدف ما بعد الحداثة الأسمى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي