الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرجعية الخطاب السياسي البورقيبي التونسي والحقول المرجعية

محمد الهاجي حاجي

2024 / 1 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الخطاب السياسي البورقيبي التونسي والحقول المرجعية:
تظهر التأثيرات الواضحة للفكر السياسي الليبرالي الفرنسي على الخطاب السياسي البورقيبي جليا، فهو قد درس في الجامعة الفرنسية ومكنته الدراسة النهل من الثقافة الفرنسية المشبعة بالتوجه الإنساني وعاين أنظمة الأحزاب الكبرى في فرنسا وتأثر بأسلوب عملها في التعبئة الجماهيرية وتوجهها العقلاني ودور نخبها المثقفة في إحداث النقلة النوعية على مستوى الوعي الجماهيري، وهذه الثقافة ذات المضمون الفرنسي جعلت "كاميل بيقي" يقول عن بورقيبة "إذا كان من حقنا أن نرجع إلهام بورقيبة إلى مؤثرات خارجية نسجل الإغراء الكبير الذي سلطته الثقافة الفرنسية عليه فقد تفرنس هذا العربي من أم رأسه إلى أخمص قدميه"(1) وهذا يدلل على أن الرؤية البورقيبية في العمل السياسي تعكس توجه يسميه حليم بركات بالتيار الليبرالي الغربي الذي نشأ في البلاد العربية وتمكن من فرض نفسه خاصة في تونس يقوم على محاولة تحديث المجتمع متأثرا بالفكر السياسي الفرنسي في إطار مرجعي عام له، مقترحا قراءة جديدة ترتكز على بناء تجربة سياسية مماثلة للفرنسية ويعبر هذا النموذج عن مرحلة تاريخية وسياسية من تطور تونس المعاصرة.
ذلك أن تجربة الدستور الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة ستكون امتدادا وتجاوز في نفس الوقت لتيارات أخرى مثل التيار السلفي الوطني، وحتى وإن كانت إمكانية اصطدامها بالمجتمع التونسي آنذاك واردا فإن بورقيبة تبنى أطروحات جديدة ذات مرجعية غربية هكذا خاطب بناة الدولة في تونس الشخصية التونسية منذ الثلاثينات ولم يتردد بورقيبة في الانتقاص من العروبة بل ووجه سهام انتقاداته للتراث الإسلامي وفي أكثر من مناسبة ألقى الرئيس خطابات كانت معادية للإسلام بشكل صريح ومباشر فهو يقول في إحدى خطبه " إن دستور الإسلام هو القرآن قصد ميزه عن بقية الأديان ولكن القرآن لم يحدد في صيغ دستورية مضبوطة مشاكل الحكم وتقليد سلطات الدولة ومن أجل ذلك حدث ما حدث من الاختلاف... وبالرغم من المبايعات فقد بقيت حزازات... في القلوب، وثارت النزعات القبلية والعصبيات العائلية وصار الأمر تناحر على الحكم"(2) وقد رافق هذه الرؤية النقدية للإسلام عديد الإجراءات (الأحوال الشخصية، توحيد القضاء، استبدال المؤسسات الدينية...) كما أن العروبة

(1) كاميل بيقي، رسالة بورقيبة، سياسة الإنسان، ترجمة رياض المرزوقي وتوفيق بن عامر، مؤسسات بن عبد لله للنشر والتوزيع، تونس 1981، ص 40-43.
(2) الرائد الرسمي للجمهورية، مناقشات المجلس القومي التأسيسي، ص 347

لم تكن إطار مرجعيا للخطاب السياسي البورقيبي(1) ويتجلى ذلك خاصة في تأكيد بورقيبة على فكرة "الأمة" بعيدا عن كل إيديولوجيا عربية توحيدية وهو مفهوم يتكرر بشكل شبه كلي في الخطب السياسية، وهو مفهوم ملتصق بالمفهوم الغربي يكشف عن موقف يرفض الأمة الجماعة العربية والإسلامية يقول بورقيبة في هذا السياق "ها هو الشباب المتخرج من أوروبا يعمل من أجل إستفاقة الضمير القومي، إن هؤلاء الشباب سيعتمدون أسلوب الصراحة الكاملة تجاه الأمة، إن الأمة بدأت تفهم وإنها لا تترد بالالتحاق بهؤلاء الرجال وبفضل الدعاية استطعنا تغيير نفسية الشعب التونسي..."(2). أصبحت الأمة في الخطاب السياسي كيان حي لا تستقيم الدولة بدونه وهي فكرة مركزية في الخطاب تتصدر محور اهتماماته سنحاول البحث فيها ضمن مفاهيم الخطاب السياسي ويمكن القول في هذا السياق أن الثقافة العربية لم تكن مصدرا فكريا أو مرجعا سياسيا للخطاب السياسي البورقيبي على اعتبار أن المصدر الفكري الغربي هو رمز المعاصرة ووحده القادر على إحداث البديل والتأثير على الهياكل التقليدية وثقافتها حسب التصور البورقيبي الذي يرى أنه لا يمكن الجمع بين عناصر التحديث وعناصر التقليد، وجدير بنا في هذا السياق الإشارة إلى أن لا يمكننا الفصل المنهجي بين مؤثرات الخطاب السياسي الخارجية (الإطار المرجعي العربي العام) والبعد الذاتي للتكوين البورقيبي، فهما متداخلان ومحددان للسياسة الثقافية لتونس المعاصرة فتجد بورقيبة مثلا يشير إلى انتماءه لجامعة السربون التي تعتبر من أكبر الجامعات الفرنسية وفي ذلك إشارة ضمنية إلى طبيعة المؤسسات التعليمية التقليدية وتذكير بأهمية المراجع الفكرية المؤثرة في السياسة التعليمية الثقافية التونسية فمنذ النشأة الأولى لبورقيبة في وسط البورجوازية الصغيرة مرورا بمراحل الدراسة وصولا إلى النشاط السياسي في صلب الحركة الوطنية يمكن القول بأن هذه المحددات وبتأثير متفاوت ساهمت في تبلور خطاب سياسي يعتمد على الأدبيات والأدوات السياسية الغربية التي ساعدت في أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
إن المتأمل في الخطاب السياسي البورقيبي يلاحظ جليا المزج بين عناصر المرجعية ذات البعد الديني ومقولات غربية ورغم هيمنة المفاهيم الوافدة فإن التعبير الديني لم يختفي مما يجعل التجانس في الخطاب يكون نسبي، فنجد الحبيب بورقيبة يستعرض الأمثلة التاريخية الدينية ويستعمل مفردات مثل "الجهاد"،"الفتنة"،"دستور الإسلام"، "الجماعة الإسلامية"،"الخلافة"،
"المبايعة"، إضافة إلى الشخصيات الإسلامية التاريخية مثل "الرسول"، "أبو بكر الصديق" "سيدنا

(1) عبد الباقي الهرماس، "السياسة والثقافة في الوطن العربي"، المستقبل العربي العدد 45، نوفمبر 1982، ص 6.
(2) الحبيب بورقيبة، خطاب مؤتمر قصر هلال المنعقد في 2 مارس 1934
علي" سيدنا عثمان" (1) إضافة إلى استشهاد بورقيبة ببعض الآيات القرآنية في بعض خطبه (إسشهد بسورة الفتح في خطابه بتطاوين يوم 08/12/1958) (2) وهي إشارات تتنزل ضمن المراجع التاريخية الدينية ولا تقطع مع مكوناتها بل وتدعم الرؤية الساعية للإصلاح والتحديث على الأنموذج الأوروبي على اعتبار الإنتماء الحضاري للمجتمع التونسي ومحددات الهوية الجماعية التي لا يمكن فصلها عن شخصية ومشاعر الفرد المسلم. ثم أن "التكوين القومي كمصدر ولاء مباشر وأساسي للفرد ليس مسألة إرادية، ولا يمكن التوصيه عليه والحصول عليه في الوقت الذي نشاء وبالقدر الذي نشاء وإنما هو مسألة تاريخية أي تجسيد لضرورة اجتماعية تاريخية"(3) هذا إضافة إلى عدم قدرة البورقيبية على انتماءها استيعاب واستبطان التراث الفكري والسياسي الليبرالي الغربي على اختلاف البنيات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات. مما يمكننا أن القول الخطاب السياسي البورقيبي لا يندمج أو يتجانس في مكوناته الداخلية على مستوى الحقول المرجعية مما يجعل الحديث عن مرجعية محددة أمر غامض نسبيا. فإذا كانت الأطر الكبرى موجودة فإن ذلك يعكس التصور البراقماتي لبورقيبة، فوجود الآيات والأحاديث والقصص... لم يكن وجودا مرجعيا في الخطاب السياسي وإنما فقط لأنها رموز حضارية قريبة من البنى الذهنية للتونسي ويعتبر ذلك تكتيكا سياسيا يعطي هذه المفاهيم الدينية معاني ودلالات جديدة تخدم المجتمع في تطوره من خلال إخضاع الدين لمنطق العقل والعلم، لذلك يحضر الدين في الخطاب السياسي البورقيبي حضورا سجاليا لا مرجعيا.
يمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى أن الدستور التونسي وفي فصله الأول نص على إحدى مقومات العروبة وهو الجانب اللغوي فحسب فجاء فيه أن العربية لغة الدولة التونسية، وهو تنصيص هو في الآن نفسه تدوين لواقع اجتماعي وسوسيولوجي وهو أن اللغة الطاغية في البلاد التونسية هي العربية وتأكيد على مقوم من مقومات الشخصية التونسية وقد نص أيضا على انتماء الشعب التونسي للأسرة العربية ونلاحظ هنا أنه لم يتحدث عن الوحدة ولم يستعمل خاصة عبارة الأمة العربية فالمشرع الدستوري اكتفى هنا بتأكيد الانتماء الحضاري فقط وهو انتماء لا تترتب عنه أحكام قانونية فيما يتعلق بالدولة وبإمكانية انصهارها في كيان سياسي عربي متكامل باستعمال عبارة الأسرة العربية كما كان الدستور لم يقرر أن الشرعية الإسلامية تشكل مصدرا من مصادر التشريع القانوني(4).


(1) الحبيب بورقيبة، خطاب ختم دستور البلاد في 1 جوان 1959، مرجع سابق، ص 220-221
(2) الحبيب بورقيبة، خطب، الجزء الثامن، نشر وزارة الإعلام، 1958، ص142.
(3) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، بيروت، المركز الثقافي العربي 1990، ص 7.
(4) راافع بن عاشور، المؤسسات و النظام السياسي بتونس الإطار التاريخي، النظام الحالي، مركز النشر الجامعي 2000، ص 99-100.

إن الانطباع الأول الذي يحصل لدارس الخطاب السياسي البورقيبي هو مدى التصاق البورقيبية بالغرب واختياراته السياسية والحضارية وقربها من مبادئ الثورة الفرنسية وعصر الأنوار والفكر السياسي الأوروبي عامة ويظهر ذلك جليا خاصة في خطابه السياسي، الذي لا يترك الفرصة تمر دون الالتجاء إلى الشخصيات السياسية والثقافية الغربية، دون نسيان القادة المشهورين مثل حنبعل ويوغرطة وهي شخصيات تاريخية وكذلك "الجنرال فرانكو" و"تشرشل" و"الماريشال تيتو" و"منداس فرانس"... ويمكن القول في هذا السياق بأن الخطاب البورقيبي جاهر معترفا بإعجابه ببعض الشخصيات الأدبية الفرنسية مثل "لامرتين" و"فيكتور هيقو"، كما نلاحظ شدة الإعجاب والرغبة الجامحة في سلك مسلك التحديث الذي عرفته تركيا مع مصطفى كمال أتاتورك فهناك تأكيد مهم على قدرة هذا القائد التركي في المجال العسكري والسياسي وتحرير الوطن وبناء تركيا الجديدة، وبالرغم من قلة الخطب التي ذكر فيها هذا الرمز فإنه لا يخفي على أحد إعجاب بورقيبة بهذه الشخصية حد التقديس فهو "صانع معجزة"، "النمط المثالي للبطل والقائد الأعلى"، "مصدر الفخر الوطني لتركيا"، "رائد النضال الشعبي في تركيا"، "باني تركيا الحديثة"، "رجل حرب وميدان"، ويقول بورقيبة في ذات السياق " ومن الشخصيات الأخرى التي كان لها أكبر تأثير في نفسي آنذاك كمال أتاتورك الذي يرجع أول عهده بالحياة السياسية إلى سنة 1919 وهو من مواليد صالونيك عندما كانت هذه المدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية"(1) وهذا اعتراف بورقيبي ضمني بتأثير السياسة الثقافية التركية في نفسه وهو ما سيؤثر على عماية البناءلاحقا.
(1) منصف وناس، الدولة والمسألة الثقافية في تونس،
(2) الحبيب بورقيبة، حياتي، آرائي، جهادي، مرجع سابق ص 183

تصل إلى مستوى التأثر وإنما فقط لتشخيص أخطاءهم والتصريح بفشلهم وتقييم تجاربهم كذلك يشير الخطاب السياسي إلى بعض الشخصيات الأدبية العربية مثل عنترة إبن شداد، أمية السموءل والشنفرى وهي تلميحات لا تتعدى السحر الأسطوري الجذاب الذي تحفظه الذاكرة الجماعية وهو ما يعني أن الثقافة العربية كان حضورها عرضيا بالنسبة للخطاب مقارنة برموز الثقافة الفرنسية ويرجع ذلك أساسا إلى محدودية الثقافة الأولى في استجابتها للعصر حسب التصور البورقيبي فقد سئل بورقيبة، أي مكانة ستخصص للثقافة الفرنسية في البلاد التونسية ؟ فأجاب قائلا " سنبقى على وفائنا للثقافة الفرنسية ..." (1)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع