الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح8

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 1 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وجدت امرأة تملكهم

من أساليب القرآن الكريم في السرد القصصي أنه يذكر الحدث والمحدث بالتحديد في حالات أن لا تكون معروفة أو عليها لبس وأختلاف، أو أن ذكر القضية المرتبطة بالحدث سوف تثير الشك والتنازع في النسبة، لذا مثلا ذكر زكريا ومريم في موضوع الكفالة، وذكر سليمان وداوود والصلة التي تربط بينهما كما فعل مع إبراهيم وإسحق وبعقوب ويوسف، في حين لم بذكر أسماء أخوة يوسف بالرغم من المساحة التي أشغلها هؤلاء في النص السردي القرآني، كما ذكر شعيب وموسى ولم يذكر مثلا أسم بنت شعيب ولا من هي كانت الكبرى أم الصغرى، وقد حدث هذا من قبل حين لم يذكر في قصة يوسف المسمى لليم الذي رمي فيه موسى، هذه القضية لمن يفهم أسلوب القرأن والسياق المقصود من الذكر وعدم الذكر فيه، ما يصار سابقا وخاصة أن ذكر هذه الامرأة في التاريخ الديني ليس جديدا وليس محل أتفاق على مكان وجودها ووجود مملكتها لا سيما وقد ذكر إشارة جغرافية مهمة مع النص وهو اسم "سبأ" مرتين لتوكيد المكان.
• ” فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ” (22) النمل ٢٢ .
• ” لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ” (15) سبأ: ١٥ .
وقبل البحث عن الملكة التي أشارت إليها الآية والسورة والقصة والحدث علينا أن نبحث عن المكان الذي أشار إليه الطير، خاصة أن النص يحمل قنبلة فكرية وبلاغية لم يحط بها أحد وقد تم تفسيرها على غير ما تحتمل، العبارة أو اللغم الزمني التعريفي محصور في كلمتين من النص " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"، البعض فسر أن المكث هنا الفترة الزمنية اللاحقة لسؤال سليمان عن الطير ووروده حاملا مع الخبر، بمعنى أن الطير عاد إلى سليمان بفترة وجزيرة حاملا النبأ، الحقيقة هذا التفسير والتأويل لا يمكن قبوله لمن يعرف اللغة العربية وأساليب البلاغة القرآنية وطبيعة اللسان العربي المبين، فلو كان المقصود الزمن لكان النص كالآتي " فَمَكَثَ غَيْرَ قليل"، بأعتبار الزمن لا يقاس في الحديث عرضا بالبعد ولكن بالقرب في معرض التقصير، والدليل أن ذكر قريبا في تحديد قصر المسافة الزمنية جاء في تسع مرات في القرآن، مرتان ( فتحا قريبا ) في سورة الفتح / قريب : سبع عشرة مرة، مرتان بزيادة الهمزة ( أقريب )، ووحيدة بزيادة الباء ( أليس الصبح بقريب ) في هود ٨١.
أما بعيدا فقد ذكرت في القرآن ست مرات وكلمة بعيد ستة عشرة مرة، ومرتان بزيادة الباء ( ببعيد ) والبعيد ثلاث مرات هي من مكان بعيد أربع مرات في القرآن ، من مكان قريب مرتان، من قريب مرة وحيدة في سورة النساء ١٧، أما من المكان فقد وردت ست مرات إشارة للمكان، في حين ذكرت أربع عشرة مرة كلمة بعيد ست عشرة مرة، مرتان بزيادة الباء (ببعيد) غيما ذكرت قريب الزمانية سبع عشرة مرة، وحيدة بزيادة الباء (أليس الصبح بقريب) هود ٨١، ومرتان بزيادة الهمزة ( أقريب ) ومرتان (من مكان قريب)، ثلاث مرات ( إلى أجل قريب )، وعشر مواضع وحيدة ( بقريب - فإني - نصر الله - من - رحمت الله - إن ربي - عذاب - سميع - الساعة - وفتح ) قريب.
وطالما ذكر المكث مقرونا بالزمان أكثر من دلالته على المكان كما في خلاصة ما قاله أئمة اللغة والمختصين بها أنها تدل على (تدل على الانتظار أولا وغالبا وهو مزى زمني واللبث في المكان بمعنى علاقة المكان بالزمن المستحق للوصول إلى الغاية)، فقد وردت مادة "مكث" في القرآن في الصيغ التالية:
1. يمكث: فعل مضارع، ووردت في القرآن مرة واحدة.
2. ماكثين: حال، ووردت في القرآن مرة واحدة.
3. على مكث: جار ومجرور، ووردت في القرآن مرة واحدة.
4. امكثوا: فِعل أمْر، ووردت في القرآن مرتين.
5. فمكث: فعل ماضٍ، ووردت في القرآن مرة واحدة.
6. ماكثون: خبرُ (إن)، ووردت في القرآن مرة واحدة.
وبهذا نجد أن (مكث) وردت في القرآن سبع مرات، والآن ننظر إلى السياق الذي وردت فيه في القرآن الكريم في كل واحدة على يتبين أن المعنى العام والإجمالي والرئيسي هو البقاء في حالة الأنتظار لوقوع حدث أو نتيجة كما في مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، أو امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا، أو فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، والدلالة الزمنية البينة تماما في النص وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، هذه النماذج تدل على حقيقة الأنتظار والصبر والتأمل الموعود، بمعنى دلالة المكث في الآية أعلاه دلالة زمنية تتعلق بالبعد المكاني، فيكون الفهم الحقيقي للنص، أن سليمان مكث منتظرا الطير الذي كان غير بعيد عن مكانه هو والذي عاد من سبأ ينبأ، أي أن القياس الجغرافي عند الطير كان قياسا غير بعيد مكانيا، وهذه الإشارة مهمة في تحديد علاقة المكان بسليمان وسبأ ويكشف لنا جزء مما هو غائب عن النص ظاهريا، فسبأ بالنتيجة كانت ليست ببعيدة عن سليمان والدليل أنه مكث ينتظر الطير الذي عاد من مهمة قريبة.
من ما تقدم عرفنا أن المكان ليس ببعيد عن ملك سليمان ذلك الذي تحكم فيه أمراه شعبها ولها عرش عظيم، وهو في الإشارة المكانية الواضحة والصريحة والتي لا تقبل تأويل أن المكان هو "سبأ" وليس غيره، فمن هي مملكة سبأ وأين تقع وحقيقة وجودها التأريخي زمانا وعظمة حال كما ورد في النص القرآني، لنتحول بعدها للبحث في سلسلة ملوكها عن هذه المرأة التي ذكرها الطير وجرت الأحداث معها ويخصها النص بالتجهيل دون التصريح باسمها.
مملكة سبأ تأريخيا.
في الوارد التأريخي المتعلق بسبأ وتأريخها هناك الكثير مما يصدم الاكرة التقليدية عند الكثير من الناس، منها أصل السبأيين لغتهم أسماء ملوكهم علاقتهم بما حولهم وقريب منهم في مناطق الجزية العربية والعراق والشام وحزر البحر وشمال أثيوبيا وما يعرف اليوم بالصومال وأرتيريا تحديدا منطقة التغراي، والأغرب إدعاء الأثيوبيين لجزء مهم وكبير من تأريخ ووجود سبأ الحضاري وكأن ما يحكى عن سبأ إنما يقصد به تأريخ أثيوبيا أو الحبشة الأفريقية وليس تأريخ منطقة الجزيرة العربية التي تعج بأثره الأركولوجي وأنتشار لغة سبأ وتأريخها المتواصل لليوم، حيث أحفادهم قبائل حاشد وبكير يشكلان عمود الوجود الديموغرافي في اليمن وجنوب الجزيرة وصولا لمكة وجده وجبال عسير.
إلا أن المهم الذي لفت الأنظار من خلال تعقب السبأيين أن التأريخ يذكرنا بوجود ضخم ومترامي الأطراف ومتعدد الأتجاهات التي تصل حدوده في بعض الأحيان إلى وسط العراق وغالب بلاد الشام، فالغساسنة والمناذرة هم شعوب سبأية تربطها مع سبأ الأم رابطة الأصل المشترك وربما الملك الواحد، هناك عدة نظريات بشأن أصول السبئيتين القديمة، فعند الإخباريين والنسابة العرب هم أبناء حمير وكهلان بني سبأ حفيد النبي هود (سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن يقطان/ قحطان بن هود)، وأن سبأ كان والد كهلان وحِميَّر وهم القسمان الذين يعود اليهم قسم من العرب عرفوا في الأدبيات بالعرب السبئية أو اليمانية، وزعم اهل الأخبار أن عبد شمس أو سبأ قبيل وفاته بعد خمسمئة سنة من الحياة، اوصى حمير بالملك ووزع كهلان خارج بلاد اليمن ليحموا المملكة، وسردوا عددا من الأسماء لملوك خرافيين مثل مزيقياء الملطوم ومزيقياء هذا اسمه عامر بن عمرو الأزدي وسمي بإسمه ذاك لأنه كانت تنسج له في كل سنة ثلاث مائة وستون حلة، ثم يأذن للناس في الدخول فإذا أرادوا الخروج استلبت عنه وتمزق قطعاً فسمي على ما زعموا ثم خرج مزيقياء هذا من اليمن قبيل انهيار سد مأرب وبقي الملك لبني حِميَّر وعلى هذا تنتهي قصة سبأ عند النسابة وأهل الأخبار.
ولكن الدراسات الحديثة عن سبأ تظهر تاريخاً أكثر تفصيلاً، اعتمد العلماء في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على العهد القديم كمصدر أساسي ينقلون منه أحداث تأريخية بلا تحفظ وكأنها مسلمات ثابتة، وكذبك من الأساطير العربية والإثيوبية لمحاولة تدوين تاريخ متسلسل عن هذه المملكة، فيستنبط من العهد القديم وجود ثلاث ممالك باسم سبأ بسلسلة لها أنساب مختلفة، واحدة منها على حدود الهلال الخصيب تحديدا، وأخرى بجنوب الجزيرة العربية وأخرى فيما يعرف بإثيوبيا اليوم، وهنا لا يمكن التأكد من أي هذه الادعاءات سواء روايات الإخباريين والنسابة العرب، العهد القديم، والأساطير الإثيوبية، ولكن لا يمكن إستبعادها تماماً فهي تحوي لمحات عن تاريخ سبأ خاصة مع وجود اللقى والآثاريات والأدلة الأركولوجية التي تثبت وتنفي أيا من المزاعم تلك.
أيضا لا يمكننا أن نتجاهل وجود ثغرات تاريخية كبرى زمنيا في تسلسل الوجود الحضاري لشعب ممتد من شمال العراق الحالي وصولا إلى اقصى جنوب اليمن، عاش في حركة وتنقل وهجرات متعاكسة وتواصل في حراك طبيعي داخل حاضن طبيعي له يدل على أن هذه المجتمعات والشعوب هي مجموعة عرقية ذات أصل مشترك وربما المكان أو العامل الخارجي هو من قسم وهميا تأريخ وتسميات وواقع هذا الجزء من العالم القديم لأسباب ومباعث كثيرة أهمها الصراع الديني، فكما كان العراقيون مثلا لا يعرفون مفهوم الملك الذي نفهمه اليوم ويستعيضون بذلك بلفظ "جل" أو "قل" بمعنى الحاكم العظيم، ، نجد أن تأريخ سبا في معظمه هو تأريخ هذا الجل ولنفس التسمية (كانت سبأ تضم عددا كبيرا من القبائل ومقر الحكم الأساسي كان في مدينة "مرب" أو مأرب، وكل قبيلة أو اتحاد بالأصح تحكم أراضيها ذاتيا وعلى رأسهم قيل أو ذو)، من هه الفجوات التأريخية هي الفترة المحصورة قبل وجود مملكة كندة، وممالك الغساسنة والمناذرة وصلاهما بالواقع "بلاد الهلال الخصيب أو الجزيرة العربية، حيث لا يمكن أن تنشأ مملكة كبرى وعظيمة لمجرد نزوح قبيلة أو أسرة من مكان لمكان دون أن تكون هناك مقدمات وأسس أجتماعية وبشرية وإمكانيات تسهل وتهيء لهذا النشوء.
هناك دلائل على وجود أثار ودلائل سبئية في نفس الفترة التي تحكي تأريخ سليمان وهي أواخ ر الألفية الأولى قبل الميلاد في شمال الجزيرة العربية، فقد ورد في نص آشوري للملك سرجون الثاني اسم "يثع أمر" واختلف الباحثون في المقصود ما إذا كان هو مكرب سبأ في مأرب أم أنه زعيم أو زعيمة قبيلة سبئية في مناطق قريبة من الآشوريين، يحكي النص الآشوري أن "يثع أمر" هذا قدم هدية للملك واختلف الباحثون في سبب ذلك ومغزاه، فلا توجد دلائل أن الآشوريين وصلوا لليمن فالهدية قد تكون من أحد زعماء المستعمرات السبئية في جنوب العراق شمال الجزيرة، والغالب كان من باب التلطف للآشوريين وكسب ثقتهم في حماية وتأمين القوافل السبئية التي لها تجارة كبيرة في أسواق العراق حينها.
ولكن تطابق الأسماء يرجح أن الهدية مرسلة من اليمن فإن كانت كذلك فالأرجح أن غزو الآشوريين لـ"آدوماتو" (دومة الجندل) أثر على القوافل السبئية، فعمل السبئيون في اليمن على تقليل أي ضرر ناتج عن هذه الغزوة على تجارتهم بتقديم هدية، لإيصال رسالة للآشوريين أنهم لا يريدون حربا والإبقاء على سلامة العلاقات التجارية بينهم، قدر الباحثون فترة حكم "يثع أمر وتر" في القرن الثامن ق.م حكم بعد يثع أمر وتر هذا ابنه كربئيل بين وقام بتوسيع وتحسين مدينة "نشق" وهي في محافظة الجوف حاليا، وأرسل كربئيل بين هدية إلى ملك آشوري آخر هو سنحاريب ومثل النص القديم الذي يشير لتقديم يمنيين لهدايا من البخور لفرعون مصر المسيطر على سورية، فإن هدف الهدية المقدمة للملك الآشوري كان تسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن ولكسب ثقة الآشوريين بالقوافل السبئية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب