الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح9

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 1 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ولكن تطابق الأسماء يرجح أن الهدية مرسلة من اليمن فإن كانت كذلك فالأرجح أن غزو الآشوريين لـ"آدوماتو" (دومة الجندل)* أثر على القوافل السبئية، فعمل السبئيون في اليمن على تقليل أي ضرر ناتج عن هذه الغزوة على تجارتهم بتقديم هدية، لإيصال رسالة للآشوريين أنهم لا يريدون حربا والإبقاء على سلامة العلاقات التجارية بينهم، قدر الباحثون فترة حكم "يثع أمر وتر" في القرن الثامن ق.م حكم بعد يثع أمر وتر هذا ابنه كربئيل بين وقام بتوسيع وتحسين مدينة "نشق" وهي في محافظة الجوف حاليا، وأرسل كربئيل بين هدية إلى ملك آشوري آخر هو سنحاريب، ومثل النص القديم الذي يشير لتقديم يمنيين لهدايا من البخور لفرعون مصر المسيطر على سورية، فإن هدف الهدية المقدمة للملك الآشوري كان تسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن ولكسب ثقة الآشوريين بالقوافل السبئية.
جاء في (الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية) (1 / 542) عن تأريخ مملكة سبأ ووجودها الجغرافي وإن لم يكن حاسما بالقدر الذي يشكل يقينا به، أن سبأ أرض وحضارة ومملكة يمنية خالصة (يرى جمهور العلماء أن الآثار الكشفية في اليمن تثبت أرض سبأ وحضارة سبأ في مشرق اليمن، وأن منطقة مارب شهدت حضارة سبئية راقية في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو القرن الذي عاش فيه النبي سليمان عليه السلام، بل إن أحدث الدلائل الأثرية تشير إلى حياة مدنية تقوم على نظام الري منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وحينما يولي المرء وجهه في منطقة مارب اليوم يجد أثراً ما لسبأ أو نقشاً يذكر اسم سبأ أو قبيلة سبأ أو ملك سبأ. بينما لم يُعْثر- فيما نعلم- على أي أثر في شمال غرب الجزيرة من مطلع الألف الأول قبل بالميلاد يمكن أن يُومِئ إلى حضارة راقية أو إلى مملكة سبئية أخرى. وإن كان قد عثر على آثار معينية ولحيانية وغيرها في تلك المناطق خاصةً في العلا (ددان القديمة)كما أن الجهود الأثرية في الحبشة لم تسفر عن اكتشاف حضارة راقية هناك يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد. وتفيد المعلومات الأثرية أن أقدم النقوش التي عثر عليها في الحبشة هي سبئية ومكتوبة بخط المسند مما يرجح القول إن أصحابها كانوا يقتفون آثار حاضرة سبأ في اليمن).
على كل حال نتابع تأريخ سبأ بعد القرن التاسع قبل الميلاد أي بعد حكم سليمان لنرى حقيقة هذه المملكة التي عمرت طويلا وأزدهرت عظيما، ففي القرن السابع ق.م قام "المكرب كربئيل وتر" بتغيير لقبه من قل إلى ملك، فقد بدأ حكمه كمكرب ودون كتابة طويلة بخط المسند يحكي فيها متى صارا ملكا، قام هذا الملك بتوسيع نفوذ سبأ وشن حملة عسكرية خلفت تسعة وعشرين ألف وستمائة قتيل وعددا أكبر من الأسرى، أسمى الباحثون كتابته "كتابة صرواح" كونه كتبها في معبد الإله المقه في تلك المدينة، وتعد هذه الكتابة من أهم النقوش السبئية المكتشفة حتى الآن، وللأسف فإن الإهمال طالها وطمست كثير من الحروف الواردة، فقد ذكر شيخ الأثريين المصري أحمد فخري بأن النقش معرض لعبث العامة بدأ النقش بعبارة (هذا ما أمر بتسطيره كربئيل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ عندما صار ملكا وذلك لإلهه إل مقه ولشعبه، شعب سبأ).
الذي يلفت في هذا النقش أن سبأ كديانة قد تغيرت أو من المفترض أنها تغيرت مع إسلام ملكته مع سليمان كعادة تأريخية معروفة، فقد بقي الشعب السبئي على دينه الجديد كما يبدو من الكتابات التاريخية التي تركها خلفه، فقد (كان السبئيون يعبدون إيل مقه (إيل الحافظ) إلههم القومي يليه آلهة القبائل الخاصة فلكل قبيلة إله يعقب الإله القومي كانوا آباءً للقبائل وفق معتقداتهم القديمة، بالإضافة لتقديسهم للإله عثتر أكبر الآلهة والتي اجتمعت ممالك اليمن الأربع وقبائلها على تقديسه، وإيل هو الإله الاكادي- الكنعاني القديم ويظهر في أسماء السبئيون بكثرة مثل وهب إيل وشرح إيل وهي شراحيل وشرحبيل (شرحب إيل) وكربئيل والتي تعني القريب من إيل (الله) و"إيل شرح" وتعني "نصر إيل" أو " إيل المتلألئ" ويظهر في أسماء الإسرائيليين مثل صامويل وهي صامو إيل وميكائيل وجبرائيل، وقد نقلوا نظام كتابتهم القديم المعروف بخط المسند إلى المواقع التي سيطروا عليها في شمال الجزيرة العربية، وشمال إثيوبيا وكان لهم نظام كتابة آخر عرف باسم الزبور.
ما يمكن أن نستنبطه من هذه اللمحة البسيطة عن ديانة أهل سبأ النقاط التالية:.
• أولا أنهم كانوا موحدين يعبدون إلها واحدا هو "إيل مقه" كما ينقله المترجمون عن اللغة السبأية أو عن اللغات القديمة كالرومانية أو الحبشية أو العبرية بشكل أساسي، ولو دققنا في الأمر أن هؤلاء أقلبوا القاف كاف والكاف قاف لا لحجة أو سبب معين، فقد تحولت مكه إلى مقه وقربئيل إلى كربئيل، زاعمين إن إيل هو الإله الاكادي- الكنعاني، وعندما نعود للإشارة هذه، نجد أن إيل (ليس إلها من ضمن تعداد الآلهة في بلاد الرافدين، وإنما هو إله السماء لدى الكثير من الأقوام العراقية والسورية الذات يمثلان بلاد الهلال الخصيب أو العراق التأريخي، وهو رئيس مجمع الآلهة ويُعادله في المعنى والتسمية والمنزلة آنو لدى أهل البابليين، فقد عَبَده العبرانيون في مطلع عهدهم ولذا فقد ورد اسمه تبادليًّا مع اسم إلههم يهوه في أكثر من موضع في العهد القديم، وهو أصل اسم إيلوهيم الذي يستعمله العبرانيون أيضًا تبادليًّا مع يهوه، وإيل هو الاسم الذي نطق به المسيح قبل أن يُسلم الروح عندما صرخ باللغة الآرامية وفق مرقس: «إيلُوي، إيلُوي، لمَ شبقتني؟ أي إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» .
• هذا جانب مهم من أن أهل سبأ يعبدون إيل وهو ذات معبود العراقيين والعبرانيين الذي هو الله في العربية، ومن هنا جاء الفهم من أستخدام إيل مع أسماء الأعلام من البشر لتدل على طبيعة علاقتهم مع الله، تماما كما هو معروف عند العرب منذ أن جاء الإسلام بتحميد أو تعبيد أسماء الأعلام، مثل عبد الله وعبد الجبار وعبد الخالق ووو إلخ، النقطة الأخرى التي تثبت توحيد ديانة سبأ خاصة في ما هو مدون من تأريخهم القريب من أحداث قصة ملكتهم مع سليمان، هو أن كتابهم هو الزبور، ومعروف أن الزبور هو الذي أنزل على داوود وورث سليمان داوود، بمعنى أن وجود إشارة للزبور في ديانة التوحيد السبئية مع الزبور على أنهم بقوا مسلمين موحدين يعبدون إله مكة، وهو إله أل إبراهيم وهو ذات إله أل داوود، وسمي إيل مكة للقرب الجغرافي ولمنزلة مكة الدينية في العالم القديم حاصة بعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت القديم، ودعوة الناس للحج والمناسك التي نقلها إبراهيم من ربه إيل مكة**.
• ذكرنا في الأقتباس السابق من شيخ الآثاريين المصريين أن جزء من ديانة سبأ المرعية هي عبادة الآلهة عشتار أو تقديسهم للإله عثتر أكبر الآلهة، هذه الملاحظة ذات معزى عميق في إشارتها إلى علاقة ما يعبدون سابقا كما ورد في النص وقبل إسلامهم (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ)، فحسب ما جاء فى الأسطورة العربية القديمة تزوجت (شمس) من الإله قمر، وأنجبت الزهرة (عشتار)، فتكونت العائلة الثالوثية السماوية، وعبدها العرب لقرون مديدة، فعبادة الشمس والقمر وعشتار مما هو شائع في بلاد العرب القديمة، فيكون النص بالإشارة للشمس في النص القرآني على لسان الطير، هو ربط مع ما موجود من أثار أركولوجية تشير لعبادة عشتر أو عثتر في مملكة سبأ رابط قوي ودليل على أن تغيرا دينيا مهما قد جرى في تأريخ السبأيين من عبادة الثالوث إلى عبادة إله مكه.
بعد كل هذا السرد الطويل تأريخي وديني ولغوي نعود للعنوان (وجدت امرأة تملكهم)، فمن خلال ما كشفت الأدلة الآثارية والمدونات السبئية أو الأشورية لم نجد ما يشير إلى ملكة لا باسم بلقيس ولا باسم أخر عدا ما ورد بالنص الآشوري أن "يثع أمر" كان ملكا على سبأ في الفترة المقاربة لأحداث سليمان مع ملكة سبأ، خاصة مع ذكر الهدية وقربها من حدود مملكة أشور أو إمبراطورية أشور في عهدها الوسيط، وبالعودة إلى النص الأشوري وطبعا باللغة الأشورية التي تغترق باللفظ عن السبئية والعربية، تجد أن يثع أسم عربي قديم جدا حسب ما يذكر في معاجم اللغة (يُثَيْعُ كزُبَيْرٍ ويُقَالُ: أُثَيْعٌ بالهَمْزِ وقد تَقَدَّمَ في أوَّلِ الحَرْفِ وقد أهْمَلَه الجَوْهَرِيُّ وصاحِبُ اللِّسانِ وهُو: اسْمُ والِدِ زَيْدٍ التابِعّي الّذِي رَوَى عنْ عليٍّ رضي الله عنه وقد تقَدَّم ذلكَ للمُصَنِّفِ، وقالَ ابنُ حَبِيبَ: يُثَيْعُ بنُ بَكْرِ بنِ يَشْكُرُ في عَدْوانَ ويُثَيْعُ بنُ الأرْغَمِ في الأشْعَرِيِّينَ والأرْغَمُ هو ابْنُ الأشْعَر لِصُلْبِه كما أنَّ يَشْكُرَ بنُ عَدْوَانَ أيْضاً)، أما الكلمة الثانية من الأسم الأشوري فهو "أمر" وبقصد به أول مكرب من مكارب سبأ (يثع أمر بين الأول 1000-950 ق.م).
في قائمة المكاريب السبئية يرد أسم (المكرب "سمه على" ليعد أقدم مكرب وصل إلينا اسمه، ولا نعرف اللقب الذي كان يلقب به، ومن عادة حكام العربية الجنوبية من مكربين وملوك اتخاذ ألقاب يعرفون بها، ومن هذه الألقاب نستطع التفريق بينهم. ولا نعرف شيئاً كذلك من أمر والده، قد عد "كلاسر" الكتابة الموسومة ب Glaser 926 من كتابات أيام هذا المكرب، وتابعه على ذلك "فلبي". وهي من الكتابات المدونة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon، وقد كتبت عند إنشاء بناء، وصاحبها "صبحم بن يثع كرب فقضن". وقد ورد فيها اسم "سبأ" و "مرب" أي مدينة "مأرب" و "فيش" "فيشان"، ووردت فيها لفظة "فراهو" أي "سيدة"، قبل اسم "سمه على" الذي كان يحكم شعب "سبأ" في ذلك العهد، ودونت في النص أسماء الآلهة عثتر، و "المقه" و "ذت بعدن"، على العادة المألوفة في التيمن بذكر أسماء الآلهة في الكتابات، ثم التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب أو ملك يوم تدوين الكتابة*** .
من خلال ربط خيوط النص الأشوري مع النص القرآني مع قائمة المكاريب السبئية مع المخطوطات التي عثر عليها، يمكننا أن نقل الآن أن إشارة أمر مع يثع إنما تشير إلى ما عرفت تأريخيا باسم الملكة بلقيس، والحقيقة التأريخية التي نتوصل لها هي أن ملكة سبأ الأولى (فرحوا أو فراهو سمه علي)، هي من كانت مرسلة الهدية إلى سليمان ومعاصرة له ولملكه مع الأحتمال الأكبر الذي سنبحثه لاحقا من أن سليمان وداوود هم سلالة منفصلة عن بني إسرائيل وحتى عن أل إبراهيم، بما خصهم الله من تسمية وإشارات تؤكد هذا المنحى، وأنهم ليسوا أكثر من سلالة ملوك حكموا العراق في عصر مملكة أشور الوسطى.
في الواقع، ثار جدل طويل بين علماء الآثار الذين نقبّوا في اليمن، عندما عثروا على نقوش مسندية ورد فيها اسم مصر في صورة "مصرن"، وكان عالم الآثار البريطاني فيلبي أول من قرأ في العام 1953 نقشاً بخط المسند اليمني ورد فيه اسم مملكة قديمة ظهرت نحو 950 قبل الميلاد تدعى "معين-مصرن"، فما يقول ويذكر سفر إشعيا 19: 18 (فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَيم خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بلسان كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ النجوم، يُقَالُ لإِحْدَاهَا "مَدِينَةُ الشَّمْسِ")، إذا ما تقبّلنا لأغراض السجال، تفسيرات وتأويلات التيار التوراتي بأن "مصريم" هنا هي مصر البلد العربي، ففي هذه الحالة يجب أن تصبح مصر نفسها "كنعانية"، لكن الحفريات في مصر تكذب هذا الزعم، إذ لا وجود لأي أثر لغوي أو أركولوجي، فمصر لا تعرف "اللغة الكنعانية" في تاريخها، كما لا وجود "لعرق" عاش فيها ويدعى "كنعاني"، وهذا يعني أن مدينة الشمس في أرض مصريم أو مصرن الجنوبية وهي عاصمة دولة المكاريب التي ملكتهم فرحوا أو فرح سمه علي لا غير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هي إحدى محافظات منطقة الجوف، وتقع في شمال المملكة العربية السعودية وإلى الغرب من مدينة سكاكا الشهيرة، وتحتوي على الكثير من الآثار التاريخية والحضارية الهامة، كما يعود سبب تسميتها دومة الجندل إلى حصنها المشيد من الجندل والتي تعني الصخر ويعتبر أشهر معالمها، ورد أول ذكر لها، في النصوص الآشورية العائدة إلى القرن السابع ق.م. وذلك تحت اسم (أدوماتو)، وفي القرن الثالث الميلادي غزتها زنوبيا ملكة تدمر، لكنها لم تتمكن من «قلعة مارد» المنيعة داخلها والمشرفة على المدينة، وتتالت على القلعة عهود وأنماط معمارية متعددة، القديم منها محكم البناء ومن الحجر والأوسط والأحدث من اللبن والطين، وكلاهما متهدم، لكنها ما تزال موجودة إلى اليوم، وكانت في الدومة سوق من أسواق العرب في الجاهلية، ومحطة على طريق التجارة الآتي من جنوبي الجزيرة نحو الشام والعراق.
**مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين، فراس السواح. مؤسسة هنداوي https://www.hindawi.org/books/81859390/0.19.
***. النظام السياسي في سبأ _ المؤلف : جواد علي _ المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ، ج1, ص318-325








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام