الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ بوصفه حاضراً

حسن مدن

2024 / 1 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قبل أيام كنت أتابع أحد مقدّمي البرامج الساخرة، التي تُعرف ب«ستاند أب كوميدي»، حيث تناول مطالبة السود الأمريكان بإزالة تماثيل كل الشخصيات التي تورطت في تجارة العبيد، بعد سيطرة البيض على القارة الأمريكية.

تناول المقدّم للموضوع ملتبس، حين قال ما مفاده: حسناً فلنُزِل تمثال أحدهم لأنه كان تاجر عبيد، ولكن ماذا نعمل بمستشفى بناها نفس الشخص، تقدّم الخدمات للمرضى، فهل نزيلها أيضاً، لأن بانيها تورط في انتزاع الأفارقة من بلدانهم بالقوة، ووضعهم في سفن قطعت المحيطات إلى أمريكا ليصبحوا عبيداً للبيض؟.

كأنّ مقدّم البرنامج يطالب بتعامل «موضوعي» مع شخصيات التاريخ، فنذكر سلبياتها ونقف أيضاً على إيجابياتها، داعياً إلى أن يبقى التمثال المعني في مكانه، ولكن تحته تكتب عبارة من نوع: إنه كان أحد أبطال الحرب الأهلية، وإنه بنى مستشفى أو مدرسة، كما أنه كان متورطاً في تجارة العبيد، ولا بأس، حسب مقدّم البرنامج، بأن نبدأ في الوصف من الآخر، فنقول إنه كان تاجر عبيد، ولكن كانت له أفضال على أمريكا في جوانب معينة.

قضية ملتبسة فعلاً، هل تشفع لتاجر العبيد مسألة أنه بنى مستشفى، خاصة أنه كان في ذهنه، أن تكون خدماتها قصراً على البيض وحدهم، فالسود لا يستحقونها؟، وكيف يمكن محو ذاكرة أجيال من السود نالت ما نالت من اضطهاد واستغلال وتوحش؟، كيف يمكن حملهم على النظر إلى تمثاله كلما مرّوا بالشارع الرئيسي الذي وضع فيه، في صورة من صور «التكريم» له رغم ما اقترفته يداه من جرائم بحق أجدادهم وآبائهم؟

ثمّة دعوة تتكرر كثيراً حول التسامح مع التاريخ، وطيّ صفحاته الموجعة، وفي حالات كثيرة تنطلق مثل هذه الدعوات من نوايا خيّرة، غايتها ألا يبقى الناس أسرى الذاكرة الماضية، جريحة كانت أو متوحشة، وأن يسعوا، معاً، لتأسيس حاضر جديد، يتجاوز ذلك، لكن ليس أبلغ من رد على مثل هذه الدعوات من مقولة الزعيم نيلسون مانديلا، أحد أبرز رموز الكفاح والتسامح في القرن العشرين، فبعد أن انتصر السكان الأصليون في جنوب إفريقيا، بقيادته، على التمييز العنصري الذي مارسه المستوطنون البيض عليهم لأمدٍ طال، قال مانديلا: «نغفر لكننا لا ننسى»!

كان مانديلا، كعهده دائماً، صادقاً فيما يقول. عبارته خالية من روح الانتقام والتشفي، وهو مارس الغفران الذي دعا له. عنده يقترن الفعل مع القول. لكنه حذّر من النسيان، فالمتعيّن، بدلاً من ذلك، استخلاص العبرة، كي لا يعيد التاريخ نفسه، ولا بأس من التذكير بأن مانديلا، الذي تنظر محكمة العدل الدولية في دعوى بلاده ضد إسرائيل لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية في غزّة، هو القائل بعد هزيمة العنصرية في بلاده: «نعلم أن حريتنا منقوصة بدون الحرية للفلسطينيين».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا