الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسئلة الشرطي وأسئلة الفيلسوف

هادي معزوز

2024 / 1 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



يتساءل الشرطي.. ويتساءل الفيلسوف.. سؤال الشرطي سؤال مهووس بالرقابة والوقوف عند الذي وقع من أجل فهم ما يقع.. بيد أنه فهم منغلق على نفسه، لأنه ما إن يتحقق حتى ينتهي الفهم والسؤال وعمل الشرطي نفسه.. أما سؤال الفيلسوف فإنه مهووس بتسليط الضوء على الجوانب المعتمة التي تسكن العالم والوجود على حد سواء. وأما الشرط في التساؤل لدى الفيلسوف فإنه رهين باستعادة أسئلة الماضي إما بغرض تصحيحها أو تدقيقها أو تجديدها أو القطع معها... فإذا تحقق الجواب فإن عمل الفيلسوف يزداد مشقة وتعبا دون أن ينتهي، بل إنه يبدأ من جديد.
يتساءل الشرطي بدافع التصنيف، أي تصنيف المجرم من غيره، وتصنيف البريء من أجل إبعاده عن المذنب، وهكذا فإن سؤاله سؤال محدود يبدأ عند الجريمة وينتهي عند نهاية فك خيوطها. سؤال الفيلسوف جريمة في حد ذاته، جريمة ضد المعنى السائد، لا تبتغي ترميم ما هُدِّم، ولا تنشد الاستحواذ على الفكرة أو المعلومة.. سبب طبيعة سؤال الشرطي يعود إلى سعيه لامتلاك أكبر عدد ممكن من المعلومات حول الأشخاص.. وسبب طبيعة سؤال الفيلسوف، يرجع إلى إتقانه لعبة التنطع والقفز وتفضيل المجهول عن المعلوم.
يصنع الشرطي سجلاّ ثابتا يجمع المعلومة ويصنفها ثم يحتفظ بها في الأرشيف الذي يعود إليه دوما، أما الفيلسوف فإن أرشيفه فارغ، لأنه يؤمن أشد الإيمان بقوة التأويل على المعنى الوحيد، مثلما يضفي هالة كبرى على ما خفي من الأشياء وليس ما ظهر أو ما يظهر منها. وهكذا فإذا صنفنا الشرطي فلسفيا، سنقول أنه يتصرف وفق منطق ميتافيزيقي محض، يتجلى في الإعلاء من شأن التذكر على حساب النسيان، والهوية ضدا في الاختلاف، والوحدة لصالح التعدد. وعلى عكسه، فإن الفيلسوف حينما نصنفه، سنقول أنه يتصرف وفق منطق زئبقي لا يقف على حال. وهكذا فإذا كان سؤال الشرطي يطمئن حين العثور على الجواب، فإن سؤال الفيلسوف ينزعج أكثر فأكثر لأنه ماهر في تأزيم الأجوبة من خلال تحويلها إلى أسئلة.
لسؤال الشرطي زمن خاص به كما لسؤال الفيلسوف نفس الأمر، إلا أن البون بينهما شاسع إلى درجة صعوبة المقارنة بينهما، ومنه، فإن زمن الشرطي زمن تراكمي يفهم الحاضر من خلال العودة إلى الماضي الذي يتراكم رويدا كلما دنا نحو ما يحصل. وعلى النقيض من هذا الأمر، فإن زمن الفيلسوف هو زمن العود الأبدي الذي يعيد ولا يستعيد، فإذا أعاد شيئا فإنه فارغ من المحتوى، من أجل منح المشعل للاختلاف. ومن ثمة فإنه يجد السلوى في زمن اللحظة التي تفتت ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل، دون أن تحمل شيئا مما مضى. لنقل إذن إن زمنه زمن النسيان المتكرر وأن عوده son retour لا يعني عود الشيء كتكرار وإنما كاختلاف يتكرر، أي أن ما يتكرر هو التجاوز وليس الاحتفاظ.
هل يمكن للشرطي أن يلتقي بالفيلسوف؟ سينزعج الشرطي من الفيلسوف، لأن أسئلة الأول لا يمكن أن يجيب عنها الثاني، ليس من باب الترف، وإنما من باب الحذر أمام الأجوبة بصفة عامة، بما أن الفيلسوف لا يعطي ولن يعطي الجواب، إذ أن ما يهمه ليس الجواب في حد ذاته، بله تحليل السؤال والوقوف عند طبيعة وبنية إرادة القوة التي أنتجته في هذا الزمان بالذات دون أن تتمكن من إنتاجه في الماضي. وسينزعج الفيلسوف من أسئلة الشرطي لأنها ترسم نقطة محددة وتريد بلوغها من أجل التمييز فالحكم، أي أن أسئلة الشرطي يتم طرحها بناء على قاعدة مبنية سلفا وفرضية تم إنشاؤها قبل التساؤل، في حين أن الفيلسوف يبدي امتعاضا وانزعاجا من مثيل هاته الطريقة، التي تقتل اللحظة وتعوضها بهيمنة وسطوة ما مضى. أما أسئلة الفيلسوف نحو الشرطي ستبدو مبهمة، أولا لأن الفيلسوف لن يساءل الشرطي، وإذا حدث وأن وقع داخل حقله التأملي، فإنه لن يساءل الشرطي بقدر ما أنه سيساءل سؤال الشرطي ثم سينصرف وكأن لا شيء وقع.
هل يمكن للشرطي أن يلتقي مع الفيلسوف؟ إذا التقيا فإن الفيلسوف سيقوم بتعرية شاملة للجدية التي يدّعيها الشرطي، بينما يمكن للشرطي أن يلعب دور المنزعج أو دور المتهكم من الفيلسوف وأسئلته التي لا تنتهي. أسئلة الشرطي تنتهي وأسئلة الفيلسوف مسار لا يتوقف. أسئلة الشرطي تتجسس لأنها مريضة بالكشف على استعادة الحلقة المفقودة من الماضي، بينما أسئلة الفيلسوف تلعب ثم تنسى مثل الطفل الذي لا يهمه أي شيء. الشرطي يلعب دورا يثير السخرية، والفيلسوف لا يلعب أي دور لأنه خارج فيلم العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة