الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة في زمن خُلوّ العرش: الذات والحقيقة وجها لوجه قراءة في كتاب -الفلسفة في الفضاء العمومي. نحو ديمقراطية العقول- لأم الزين بن شيخة

محمد العربي العياري

2024 / 1 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينطلق الكتاب من فحص رهان فلسفي يتمثّل فيما أسمته أم الزين بن شيخة "بعودة الفيلسوف الى الفضاء العمومي بوصفه مُثقّفا نشيطا ومواطنا فاعلا في تنضيد سياسات الحقيقة". يجعل هذا الرهان من عمليّة تتبُّع سرديات الحقيقة والثقافة والفلسفة ذاتها، بحثا في الراهن وخروجا من أركيولوجيا الحقيقة كما يقع تصويرها، الى ما نعتبره جينيالوجيا الممارسات الخطابية داخل الفضاء العمومي وعلاقة كل ذلك بالسلطة الحيوية وأنطولوجيا الذات المُقاومة. يبدو الكتاب في أسطره الأولى -ومن خلال هذا الرهان-، محاولة للكشف عمّا أسماه ميشال فوكو بألاعيب الحقيقة وممارسات السلطة. حيث أن أزمة الحقيقة إنما هى أزمة القول الفلسفي وأزمة الفيلسوف الذي يُرادُ منه أن يكتب عن تاريخ الفضاء العمومي وعن الفلسفة بألفاظ الحاضر، وأن يتصرّف ضدّ الزمن الراهن وأيضا على الزمن لفائدة زمن مقبل بتعبير نيتشه. من خلال هذه المصفوفة من الأزمات المُركّبة، يتضح أن رهان الاقتراب من بلورة فضاء عمومي مُقاوم وديمقراطي هو بمثابة صراع ومقاومة وصيرورة ورسم لخرائط. لذلك، يبحث هذا الكتاب عن مواقع الصراع وعن هوية للفيلسوف داخل لعبة التمايزات، وإعادة ترتيب موقع الفيلسوف- هندسيا- في وضعية وجها لوجه La situation face à face مع الحقيقة ومع الراهن. هي عودة الفيلسوف الى مُساءلة نفسه، في اللحظة التي توقف فيها المجتمع عن مساءلة نفسه كما كتب كورنيليوس كاستورياديس. أن تُراهن أم الزين بن شيخة على امكان الحديث عن فلسفة عمومية، فهى تخوض بحثا في الراهن، وتصرُّفا لفائدة زمن قيد التشكيل. ضمن هذا الرهان، تنطلق الكاتبة من عرض لما أسمته بهشاشة فضاءاتنا العمومية التي تُعبّر على أزمة دورية ودائمة لم تعُد تُؤمن بالحس السليم ولم يعد من الممكن وسط ذلك، أن نتجرّأ على استخدام عقولنا. تُريد هذه المساحة الاسترجاعية لدور الفلسفة، أن تفحص إمكانية تجاوز السردية العدميّة للعالم، حتى تتطابق هذه الرهانات مع تعريف ميشال فوكو لفعل الكتابة، والتي يُؤرّخها كعملية تهديم في حد ذاتها، وللكاتب في ممارسته لهذه العملية، حقا في الهدم غير قابل للتقادم ويكون الكاتب بالتالي ثوريا، وبقدر ما تكون الكتابة كتابة، بقدر ما تنساب في لزوميتها وتنتج حركة الثورة.
يسمح هذا التأطير أو المدخل المفاهيمي للكتاب، بتحديد الحاجة الفلسفية لفكرة المقاومة والثورة والفضاء العمومي والديمقراطية، والتي تتمظهر كُلّها كتمرين فلسفي تحاول الكاتبة أن تُبلور من خلاله فكرة "جماعة المتساويين" بلغة جاك رونسيير؛ أولئك الذين لا يزال بإمكانهم النجاة من الدراما المرضية التي سيطرت على الفلسفة وعلى الفضاء العمومي. يعمل على التمرين على اظهار ما تسمّيه الكاتبة بفضاء عيني تلمسه العين لا بفضاء بصري نبصر به من بعيد. يتعامل موضوع الفلسفة في الفضاء العمومي. نحو ديمقراطية العقول، مع حالة من حالات "خُلوُّ العرش" بتعبير أنطونيو غرامشي، حين لم يعد بالإمكان أن تكشف الفلسفة على ما أسمته حنة أرنت، بالحقيقة التاريخية-السياسية في مُجملها. سوف تُثبت الكاتبة عبر ثلاثة عشر فصلا من فصول الكتاب، أن إمكانية تكوين إرادة سياسية ورأى عام ومجتمع مدني، واردة جدا في رهان اقتراب السلطة من المواطنين بعد انفصالها عن العالم المعيش وانحسارها في أنساق مغلقة تُمثّل أجهزة فوفيّة مُتشيّئة، والقول هنا ليورغن هابرماس في إطار تحيينه النسقي لمفهوم وبنية وأركيولوجيا الفضاء العمومي، تحت فعل النقد الذي صاغه كارل أوتو آبل ونانسي فريزر وأوسكار نيغت وغيرهم لهذا التصور الهابرماسي. تكتب أم الزين بن شيخة عن الفضاء العمومي وعن ديمقراطية العقول وعن ثورات، تجد في كتابات ألتوسير وجاك رونسيير وآلان باديو ولوك فيري ونيتشه وأنطونيو نيغري وروني جيرار شروطها الموضوعية – الفلسفية ضمن ثُنائية الذات والموضوع أو الحامل والمحمول. وكما تُشرعن قيمة الحرية في مواجهة مفاعيل السلطة، فإنها قد تكون استشرفت الحدث الراهن، ونقصد حدث المقاومة الفلسطينية ومُنجزات جيل وجهة نظره الوحيدة هي الثورة ومقومة التصهين وأسرلة النخب والفكرة والموقف. حيث كتبت في الصفحة 103 "إن الفلسفة فعل مقاومة بامتياز، لكن شريطة أن تكون سلوكا نضاليا لاحتلال الفضاء العمومي وإبداع هندسيات جديدة لمواطن القول والصمت والضجيج والمرئي اللاّمرئي، وكذلك إحباط كل الخطط التي تتم في الغرف السوداء من أجل اعتقال الشعوب وبيع الأوطان والاتجار بالبشر."
تعمل الحرية من وجهة نظر الكاتبة باعتبارها قيمة إيتيقية ونقد على النقد، وأيضا اعتراف بالحق في تملُّك الحقيقة. هذا الاعتراف الذي لم يعد بوسع كنائس العصر (ونقصد الأحزاب والمؤسسات الوسيطة بتعبير جورج طرابيشي)، أن تُقدّمه للجمهور كهدية فلسفية تُمكّنه من بناء سياسة جديدة للحقيقة. كتب أشعياء برلين عن الحرية السالبة والحرية المُوجبة ضمن الحاجة الى تفسير القدرة على فعل الأشياء وتحديد الأشياء التي ينبغي فعلها. تُستحضر هذه الثُنائيّة لفهم جدليّة الفضاء العمومي وديمقراطية العقول؛ وقد يُفضي التركيب Synthèse الى التوقف عند دلالات المقاومة. هذا لأن فعل المقاومة هو حرية موجبة تُواجه تنميطا واستيلابا واغترابا تفرضه الحرية السالبة، بما هي حداثة أخرى بتعبير أولريش بيك؛ حداثة خلقت كائنات زومبية وقع اذابتها داخل فضاء عمومي برجوازي تحوّل الى بانوبتيكون panopticon يمكن فيه مراقبة الجميع كما يصفه جيريمي بنتام. تُعيد الكاتبة عرض أطروحة الفضاء العمومي، فيما نعتبره نقطة انطلاق من فكرة الغياب عن المكان باستعارة لمفاهيم جاك دريدا، وذلك لفهم صيرورة عودة الفيلسوف الى الفضاء العمومي، ولتأويل الحاجة الى ديمقراطية العقول، في ظل هندسة الأرض العائمة التي تضم أفرادا واهنين بواقع تنفذ إليه الموانع من كل مكان، على حد قول ميشال مافيزولي.
يُقرأ الكتاب من داخل ثنائية الفلسفة ومهماتها والفضاء العمومي ودلالاته أولا، والمثقف وسياسات الحقيقة وسردياتها ثانيا؛ ليكشف هذا التركيب في مرحلة أخرى على إمكانية استئناف القول الفلسفي داخل الفضاء العمومي شرط ديمقراطية العقول، أو نحو تنوير هذا الفضاء كحاجة ديمقراطية.



أولا: الفلسفة ومهماتها والفضاء العمومي ودلالاته
إذا كان القصد من الفضاء العمومي عند يورغن هابرماس، ذلك المجال من مجالات حياتنا الاجتماعية، الذي يتشكّل فيه شيء يقترب مما نُسمّيه الرأي العام، ويكون الولوج إلى هذا المجال مُتاحا ومضمونا بالنسبة إلى المواطنين كافة. فإن هذا الكتاب يبحث عن تسييج جديد لهذا الفضاء، تقترح له الكاتبة أطروحة السياسة والتعددية والديمقراطية في استعادة لتصورات حنة أرندت ودلالات انتصار الإنسان الخلاّق. تعرض الكاتبة تحديدا للحظات التمزُّق، في استعارة للعبارة من والتر بنجامين، حيث تُبلور ما نسميه بحلقة الوصل بين المجتمع المدني والدولة؛ أو بين الذات الفاعلة والفكرة الديمقراطية. هذه المشاركة الملتزمة بتعبير مارتن هايدغر، والتي تُشير الى الالتزام حرفيا بالحقيقة بما هي طريق نحو الله –الفيلسوف الذي أصبح يسكن فضاء عموميا على وجه الكراء. لا تطمح الكاتبة الى تثبيت ملكية هذا الفضاء العمومي بقدر ما تريد أن قلب معادلة نخبة في مقابل جمهور، الى جمهور نخب بالمعنى الفلسفي والسياسي، سوف تُمكّنهم المقاومة من اختراع فضاء عمومي محصّن من الوقوع في الفراغ بتوصيف نيغري، واستعارة الكاتبة للعبارة في الصفحة 127. يتماهى دور الفيلسوف مع سياسة الاختراع والخلق والابداع، ابداع لمفاهيم ولشروط موضوعية تُحدّد الحاجة الى المقاومة وكيفياتها وسردياتها وفاعليها. تُعيد الكاتبة تركيب جدليّة الفن والسياسة، لاختبار شرط امكان تحوّل هذا التركيب الى فلسفة، ليس من منطلق إعادة اختبار راهنية سؤال جاك رونسيير، بل لتأكيد الحاجة على ضرورة تحويل ما تراكم احتجاجا وثورة وانتفاضة في السياق التونسي، الى قاعدة انطلاق لمقاومة تُؤمن بالتراكم والتاريخ، وهذا بالضبط ما تعالجه الكاتبة في جزء من هذا الكتاب.



ثانيا: المثقف وسياسات الحقيقة وسردياتها
يُحمل على المثقف أن يكون ثوريا ومقاوما وفيلسوفا وديمقراطيا. غير أن هذه الأسماء الحُسنى التي تُحدّقُ بالممكن "الفلسفي الذي بحوزتنا من جهة ما نحن جزء من إمكانية العالم الحالي"، تفرض من جهة التحديد اختبار قدرة المُثقف على أن يكون ثوريا أو مقاوما أو فيلسوفا. ثم يُحمل كل ذلك على افتراض وجود ديمقراطية ما، قد تساهم في إعادة بناء سرديات الحقيقة. تعود الكاتبة الى رسم لامرئي لملامح هذا المثقف. حيث تبحث في القدرات الإجرائية للفن والشعر والموسيقى مع نيتشة وأدورنو، لمقارعة تنميط الواقع وتشيؤ علاقة الانسان بالفضاء العمومي، ودخوله طوعا الى القفص الحديدي الذي أنهى جزء من أسطورة التنوير، وسرّع بميلاد هويات تتوسّط الحداثة وما بعدها. فحالة ما قبل بعد الحداثة، تُعبّر دلاليا على أزمة ما أصابت المُثقف الذي لم يحسن استثمار ما توفّر داخل الفضاء الاحتجاجي العربي. تُظهر الكاتبة في إطار تشديدها على ضرورة إيجاد فضاء عمومي ديمقراطي عابر لتنميط العقول، ومنفتحا على فلسفة التحرير. يُؤمن هذا الكتاب بإمكانية الاختلاف الذي يصنع الاختلاف، هي فلسفة للاختلاف لا من جهة تصنيفها كما نقرأها في الفلسفة في الفضاء العمومي: نحو ديمقراطية العقول، بل هي ترتيب لمنهجية فلسفية مُفارقة أنطولوجيا، ومغايرة معياريّا في رسم مواضيعها وتحديد محاورها. ربما ترسم الكاتبة مرحلة انتقالية لمرحلة نهائية، هي مرحلة هيمنة المُثقف وسطوة الديمقراطية. تظهر الفلسفة هنا كفعل استدراج للمثقف الى داخل الفضاء العمومي فيما أسميه بالانعطافة الديمغرافية التي تعني توطين الفضاء العمومي بمثقفين جاهزين للمقاومة كشرط أول، وإخلاء هذا الفضاء من كل أشكال السلطة التي لم يعد من الممكن ظهورها بالكيفية الراهنة.
لطالما كانت مهمة المثقف ثورية بإمتياز خاصة في لحظات الأزمة، أو عندما تبدأ السلطة في رحلة البحث عن ضحاياها. تعود أطياف ماى 1968 مع أناجيلها ومُثقفيها من هربرت ماركوز الى جيل دولوز وفوكو وباديو وغيرهم. مع استعادة ما ترتّب عن ثقافة المقاومة حينها مع الألوية الحمراء في إيطاليا، والعمل المباشر في باريس وحركة بادر ماينهوف في المانيا. ربما كانت سياسات الحقيقة في فصلها النهائي غير مُطابقة لوعود بداياتها. لكن هذه السياسة في الفصل الثالث عشر من الكتاب، سوف تتكلّم لغتها المحلية بعيدا عن الكلام المرضي حول أنفسنا. وقد تتحوّل الى سؤال عن المستقبل يبتعد عن الوطنيات المملة بتعبير بيير نورا، وتعمل ضمن دائرة الايلاف الاستذكاري التي يعتبرها كريستيان تيليغا بأنها تحوم حول الذات بوصفها أرشيفا. نجحت الكاتبة في إعادة فحص هذا الأرشيف ليكون هذا الكتاب توثيقا فلسفيا لنسخة عربية من هوية مقاومة يجب إعادة تشكيلها بعقول ديمقراطية أو بدمقرطة العقول.

خاتمة
علينا أن ننتبه الى أن لغة هذا الكتاب هي العربية المُجازفة، كما نُجازف نحن باختراق الفضاء العمومي كما هو عليه بهويته السائلة وهندسته المتداعية نحو التفجير من الداخل بقوة المقاومة كفعل تاريخي، وبممكنات ديمقراطية العقول كنشاط تواصلي، يستعين بالفلسفة والفن والشعر لا بتدبير الاهي أو سلطوي بل بتدبير الفلسفة وحدها. هنا تموت السلطة وتولد الفلسفة، ولادة غورديّة تجمع بين الرغبة والإرادة. في هذا الكتاب ما يستحق القراءة كما أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما دور الجيش اللبناني في الحرب المشتعلة؟ | المسائية


.. قتلى وجرحى في ضربة إسرائيلية استهدفت وسط العاصمة اللبنانية ب




.. مجلة ليسكبريس: ضرورة العناية بالصحة العقلية -الوحدة أصبحت طا


.. ناجون يروون مأساتهم بعد تعرضهم لحروق نتيجة القصف الإسرائيلي




.. يديعوت أحرونوت: الاحتلال يصنف غزة ساحة قتال ثانوية لأول مرة