الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصطفى الصيّاح ( أشباح هافانا)

مقداد مسعود

2024 / 1 / 20
الادب والفن


خاتم ذهبي بين أصابع قرصان خبير
مصطفى الصيّاح وقصصه(أشباح هافانا)
الوضوح مأزوم في فضاء النصوص والملتبس والشاحب والشبحية هي المتحكمة في نصف بلاغة السرد الجميل والنصف الآخر من حصة الوضوح بزرقته الشفيفة والأماكن القصية حيث البحر والقلاع الشامخة والحصون الملكية وأجراس الكاتدرائيات وجامعو التذكارات الفريدة : هذا وجيز شهادتي عن (أشباح هافانا) المجموعة القصصية الأولى للقاص مصطفى صيّاح : (رأى ظللاً داكناً يطفو في زجاج النافذة، لم يكن بالتأكيد ذلك الوجه الذي يعرفه، بدا و كأن شخصاً آخر لا ح أمامه لبرهة ثم أختفى/ قصة أشباح هافانا) هكذا رؤية السارد للمكين. أما رؤيته للمكان فهي كالتالي(لسبب ما، تراءت له الحديقة في هذه الظهيرة الغائمة، مهجورة وموحشة) هذا الفضاء المفتوح، أما.. المغلق فهو له مشاركة سردية شبحية(ظلام الغرفة يحيل ظلال الأشياء إلى كائنات ملغزة) السنوات الخمسون للرجل بطاقات بريدية محروزة في صندوق داخل صندوق. تلاحظ قراءتي أن مصطفى صيّاح يقطرّ السرد قطرة ً قطرة ً ومن خلال هذه القطرات يتضح الفضاء النصي للقارئ
(*)
النص يتوزع بهذه الطريقة : توصيف فضائيّ للمفتوح والمغلق.. ثم بعد فاصلة من نجوم ثلاث. يعلو صوت متكلم ثم يتكشف المشهد عن محاورة بحرية بين شخصين:
( - قلت انكم بدأتم بإفراغ حمولتكم من التمور
- نعم، لقد وصلنا إلى ميناء هافانا في ديسمبر من عام 1962)
التحاور يشكل قفزة ً من البصرة إلى ليل هافانا ونهارها
في هذه القصة حكايات
(1) حكاية السفينة الواحدة التي ابحرت باتجاه الشرق
(2) حكاية طبق روبا فيجا القومي التي يرويها صاحب المطعم للبحار البصري
(3) حكاية حب بين البحار العراقي من أهل البصرة(بحار في مقتبل العمر جاء عبر البحار البعيدة وسيعود عما قريب إلى حيث الشمس والطين وهسهسة السعف اليابس في تنانير الفجر، محملا بالسكر الكوبي الأسمر) الفتاة التي التقاها حين قصد قلعة مورو في كوبا ليرى المدافع الصدئة
(4) حكاية الروائي همنغواي والحانة الكوبية التي تعلق بها
(5) حكاية سيكارا جيفارا التي يرويها بائع كتب همنغوي
(6) حكاية رسالة الفتاة التي أحبت ابن البصرة
بلغة رشيقة استطاع القاص أن يهبنا شفرات مغلقة ثم يقوم بتفكيكها لنا. فتعلم اللغات ضروري لتفهم الآخر المختلف. لكن حين تتعطل هذه اللغات فالأمر( لا يحتاج إلى قاموس. إذ ليس سوى أن أتطلع إلى عينيها وهما تطرفان بهدوء أثناء الكلام، وعندها أكون قد فهمتُ كل ما كانت تريد أن تقوله. ففي عينيها كان يمكنك أن تتعلم أكثر من لغة) .
(*)
الظل الداكن الذي كان يطفو في زجاج النافذة ويظهر ويختفي هو طيف تلك التي سكنت روحه وذاكرته في 1962 حين التقاها في كوبا. وقطرات المطر في بداية القصة لا يختلف عن سماعه لدموعها (وهي تنزل على سماعة الهاتف، مثل بقايا قطرات لا تزال تسقط على حافة شباك بعد ليلة ماطرة)
(*)
من (أشباح هافانا) تسطع بيئة البصرة: شط العرب. السفن. الأب البّحار الذي ابحر في سفينة صيد ولم يعد.. المطر الذي ينزل بهدوء
الظلام والفانوس الذي يطرد الجنيات. وتلك اللقطة التي عايشتها حتى نهاية مرحلة المتوسطة. حين كنا ندرّس في (حديقة الأمة) ونرى حين نعبر الشارع : البواخر وهي تسير بتمهل وترمي الاخشاب للمشاحيف التي كانت تتسابق على التقاط الخشب. . والميزة السردية المشتركة مع القصة الأولى هي توظيف الحوار بين الأخ واخته. وكلا منهما في مكانه. وإذا كانت السيارة الشيفروليه جاثمة في ( أشباح هافانا) (حيث ركن سيارته الشيفروليه، آخر مرة منذ سنوات غير قليلة) ففي قصة (الضباب ظلام أبيض) السيارة تشتغل ومن خلالها نعرف شخصية صاحبها وهو الأستاذ يعقوب إبن صاحب قصر الاطرقجي. في (أشباح هافانا) لم يذكر السارد اسم الشخصيتين
: البحّار والفتاة الكوبية. خلافا لذلك في (الضباب ظلام أبيض) فالبنت اسمها أمينة وشقيقها اسمه سعدي. في القصة الأولى هناك ظل يظهر ويختفي في القصة الثاني مع كل شمعة يشعلها سعدي(يظهر هناك شبح من الظلال المرتجفة على جدران البهو الخشبية. تعقباً أثر الأشباح السبعة على درجات السلم الخشبي).. والظل الثالث هو ظل المصور في الصورة التي التقطتها للعائلة في قفا الصورة يستلم القارئ ثلاث معلومات واحدة تفكك شفرة شخوص الصورة وأخرى ديانة الواقفين وثالثة ظل الشخص الذي التقط الصورة للعائلة.
في (الرقصات المجرية) ندخل للحدث العسكري من خلال عينيّ الطفلة نازك وتحاورها مع أبيها وهي ترصد المتغيرات، المدفأة الهامدة. النافذة الموصدة، الباب الذي حجب ببطانية.. الأب والبنت يحاولان رغم شدة القصف الجوي التصدي للحرب بالموسيقى التي تبثها محطة معينة من الراديو في هذه القصة تشتغل المخيلة السردية للمزج بين الغزو الامريكي للعراق وبين ما تبتسم له نازك وهي في الظلام حيث تطبق جفنيها ومن الفراغ يظهر رجل عجوز يسرد الفرح والقوة من خلال ضغط أصابعه على مفاتيح بيانو.
(*)
في قصة (بيبيسي وأشباح وذرة) يستعيد النص الحدائق المهجورة التي اخبرنا عنها في قصة(أشباح هافانا)..(الحديقة التي لم تكن أكثر من حرش تنمو فيه جميع نباتات الصحراء). وكذلك يعاود المؤلف إلى الصورة الظليّة للشخوص(لمحت ظللا يتحرك في الجزء المظلم من الطريق) وكذلك هناك رجل واحد. والمكان مكتظ بالأشباح والخفافيش وفي هذه القصة يوجد حفيد هو السارد وقد قصد بيت جده وكانت جدته(تجلس في غرفتها لمشاهدة التلفاز طوال اليوم) وهي تختلف عن الجدة في قصة(الضباب ظلام أبيض) هذه حتى لا يشعر الصغار بالخوف تخبرهم(في البرد تحتشد الجنيات أسفل الشبابيك المظلمة)!!
وتشترك (بيبسي وأشباح وذرة) مع قصة (أشباح هافانا) من ناحية شبحية ثريا القصتين وكذلك في القصتين هناك شخص كبير يكون له حصة في السرد. وإذا كانت قصة هافانا تعيد سرديا إلى 1962 فأن قصة (بيبسي...) تعيدنا إلى سنوات الحرب العالمية الثانية والجيش البريطاني في قاعدة الشعيبة ودور شاشة السينما آنذاك(هؤلاء الجنود يضعون التعب جانباً عندما يجلسون في المساء لمشاهدة فيلم الليلة)
يحاول الفتيان : سارد النص وصديقه نايف استعادت الجنود الذين رحلوا بالتعاون مع الرجل الطاعن في السهول والسينما . ويجعل الثلاثة هؤلاء الجنود يرون الفيلم الذي فاتهم وهو(الرجال يفضلون الشقراوات) هنا يجتهد القاص مصطفى صيّاح في تعميق ثريا المجموعة المنبثقة من شبحية الأمكنة والشخوص والأجواء من خلال القول التالي(بدأنا بتوزيع زجاجات البيبسي وأكواب الفشار المملح على أشباح الجنود الموتى الذين بدأوا يستعدون لمشاهدة فيلم شباك التذاكر لهذا الأسبوع) بالمحبة التي لا ضفاف لها يتواصل المرئي بالمغيبين الذين كانوا هنا، أولئك الذين جاؤوا من ما وراء البحار. الآن جثمت خوذاتهم في رمال الشعيبة. جمع السارد وصديقه ثلاثين خوذة ً لثلاثين جنديا. هم كل الجمهور وكان الرجل العجوز الموصوف بالسحر، كلما رفع خوذة ً خاطب لابسها وناداه باسمه ِ
ثم بوفاء عراقي لتلك العشرة يذكرهم( كانوا قريبين مني، اذكرهم جيداً، كانوا لايزالون صغارا لم يبلغوا العشرين..).. ثم تتعمق شبحية القص حين يخبرنا السارد المشارك بالحدث(صدحت موسيقى جاز بنغم بدوي. ثم ظهرت على طابوق الجدار أذرع مفتولة لرجال يلبسون الأبيض مثل أموات يؤدون رقصتهم الأخيرة..).. تشترك هذه القصة مع (أشباح هافانا) بوجود الحكاية المتجسدة بالرجل الساحر، داخل قصة ( بيبسي وأشباح وذرة) وما حكاية الحفيد الذي يقصد بين الجد، سوى إطار تشع داخله حكاية الرجل الساحر.
(*)
في قصة (Hearbreak hoteh) يعاود الظهور الطفل الذي يحصي البواخر الداخل . في قصة (الضباب فوق النهر) والذي تكلف العائلة الثرية المهاجرة بحراسة البيت ورعاية الحديقة في هذه القصة سنراه حارسا في فندق (جبهة النهر) يستعيد وهجا من طفولته وهو يحصي البواخر مجدداً ويغطس في أحلام يقظته (ويداخله شعور غريب بأنه قد سبق له أن رأى هذه المرأة من قبل، أن أمسك بيدها ذات شتاء بعيد وتجولا معا تحت المطر). براعة القاص مصطفى صيّاح هي السرد المتوازي بين أجواء شط العرب والرجل الثالث وأغنية ألفيس بريسلي(القلوب المحطمّة)
(*)
منزل الرياح بداية صعود وشراسة النظام السابق، والبينة هي القصاصة المدسوسة بين كتب المكتبة (أعرف أنك ستبحث عن هذا الكتاب غادر المنزل بأسرع وقت 10/ كانون الثاني/ 1969).
الدخول إلى البيت متسللا كانت من حصة المختلفين مع السلطات المستبدة؟ تشترك مع مجريات قصة (الضباب فوق النهر) وتشترك كافة القصص بسيادة الشبحية والمطر والرياح والبرد والرجل المطارد (كأنه شبح يخطو تحت تأثير نغم ذاتي ساحر). كما تشترك (منزل الرياح) مع قصة(فندق القلوب المحطمة) من ناحية التنصيص.
في (منزل الرياح) يوظف القاص مصطفى سطوراً من رواية جون شتاينبك (شارع السردين المعلّب) ولها التوظيف مغزى دلالي لكل من قرأ رواية شتاينبك التي قرأتها منذ سنوات في هذه الرواية وحدة وصراع الاضداد في الحياة اليومية. أما في (فندق القلوب المحطمة) فقد وظّف مصطفى صيّاح أغنية المغني الأمريكي الفيس بريسلي. وتشترك مع قصة (الضباب ظلام أبيض) بتثبيت تاريخ ميلادي مدون باليوم والشهر والسنة من خلال قصاصة أو قفا صورة، وفي (منزل الرياح) التاريخ مدوّن في قصاصة ورقة والصورة يكتفي السارد بذكر الاسم المرّكب للشخصية النضالية الخالدة
(*)
الشبحية التي صادفتنا في القصة الأولى من المجموعة القصصية(أشباح هافانا) ستودعنا في القصة الأخيرة (ضوء المدفأة) وهي تتجول في البصرة. وتحديدا بتوقيت السابعة مساءً، تهبط من القطار القادم من بغداد(مثل أشباح دائخة..) ثم يتفرد شبح السارد بتعقب شخصا أعني شبحا من الرّكاب الذين دخلوا البصرة، وعند ما أضاءت سيارة مسرعة الشارع للحظات قبل أن تختفي في طريق فرعي، سيخبرنا السارد عنه (رأى ظله الطويل منكسراً على السياج الواطئ) هذه الصورة السردية مكتنزة بعلامة تومئ للمكنون للمسافر الذي قصد العشار ليكون نزيلا في فندق لليلة واحدة. هنا يتوارى السارد التقليدي ويكون النزيل ساردا للفتاة التي تعمل بالفندق وترقص في الملهى. ومن الرسائل المنشورة على سرير تتشقق أسئلة توجهها الفتاة للنزيل. فينكشف للقارئ البعد المخبوء للظل الطويل المنكسر على سياج واطئ في بداية القصة : النزيل يعشق امرأة من البصرة وجاء يبحث عنها. بعد أن توقف بث رسائلها إليه. من جهة ثانية أن التحاور بين فتاة الفندق والنزيل يجعل القصة مشطورة من شطرين من توقف القطار في محطة المعقل حتى وصول النزيل إلى الفندق كانت السيادة للسارد الحيادي. ومِن دخول الفتاة إلى غرفة النزيل تكون السيادة للمحاور بينهما. ومن خلال التحاور، يعتمد المؤلف القاص مصطفى الصيّاح على فطنة القارئ في كيفية وصول النزيل إلى الفتاة التي جاء يبحث عنها. ومصادفة اختيار المسافر لهذا الفندق
حيلة تقنية، وكذبة صاحب الفندق أن هذه الغرفة غرفته يكتشفها النزيل، حين يخبرنا(قال في نفسه، ليست غرفته، أين ملابسه، هذا الدولاب فارغ أيضاً، أنه يكذب)
(*)
مِن فصوص هذه القصص القصيرة تتشكل شذرة الخاتم الذي صنعه القاص مصطفى الصيّاح بيديه الماهرتين. وهذه الفصوص المتلاصقة
تمرين أول لرواية قصيرة. سيطرزها القاص وهو يؤرخ لبصرتنا بطريقة مزج اللحظة التاريخية بمخيلة قصصية تذيب الوثيقة بفاعلية الإبداع
20/ 12/ 2023
البصرة/ بريهه
مصطفى الصيّاح/ أشباح هافانا/ قصص قصيرة/ دار شهريار/ البصرة/ 2024








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا