الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم وفلسفة تاريخ الفلسفة (الجزء الأول)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 1 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


باعتباري من أصدقاء الفلسفة، بشهادة أحد أساتذتها الباحثين الجامعيين بالمغرب على الأقل، خطر على بالي الإقدام على مغامرة ترجمة هذه الدراسة الأكاديمية التي جاد بها جاك بوفريس (Jacques Bouveresse)‏؛ الفيلسوف الفرنسي المولود في 20 غشت 1940 بإبينوي، والذي تتعلق فلسفته بلودفيغ فتغنشتاين والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم والمنطق. منذ عام 1995، شغل كرسي فلسفة اللغة والمعرفة بالكوليج دو فرانس.

"لا ينبغي أن تكون هناك فلسفة. إنها زلقة من جميع الجوانب. مهنة خطيرة مثل بناء الأسقف." ألان

1. الفلسفة وماضيها
في مقدمة الكتاب الذي نشره عام 1978، بالتعاون مع مايكل آيرز وآدم ويستوبي، الفلسفة وماضيها ، يبدأ جوناثان ري، بشكل مفهوم ومتوقع، بالإصرار على حقيقة أن الفلسفة تحافظ على علاقة مع تاريخها، علاقة هي من نوع محدد تماما ومختلف تماما عن تلك الذي ترتبط بها العلوم مع تاريخها:
"تاريخ الفلسفة ليس ملحقا اختياريا للفلسفة. إنه يحدد النظريات والخلافات الرئيسية للفلسفة. إنه يقدس المفكرين العظماء والنصوص الأساسية لهذا التخصص؛ ويحدد الاتجاهات والفترات الرئيسية لتطورها. وهو بهذه الطريقة يقدم تعريفا ضمنيا للفلسفة، مشيرا إلى أن كونك فيلسوفا يعني أن تكون خليفة لأفلاطون وأرسطو والبقية، وأن تداوم على الممارسات التي – منذ بداية تاريخ الفلسفة – خلفها هؤلاء الرجال العظماء كإرث. وبطبيعة الحال، لا تزال هناك خلافات حول طبيعة الفلسفة. مثلا، طرح الفلاسفة الغربيون المعاصرون تعريفات مختلفة متنافسة: الفلسفة هي التحليل المفاهيمي، أو البحث عن الافتراضات النهائية للأنساق الفكرية، أو نظرية الممارسات النظرية، أو الصراع الطبقي على مستوى النظرية [إشارة إلى مفهوم الفلسفة الذي دافع عنه ألتوسير]، وهكذا.. لكن هذه التعريفات لن تكون متنافسة إذا لم تهدف إلى أن تكون تعريفات لنفس الشيء، وتحديد "نفس الشيء" هذا يتأثر بتاريخ الفلسفة. وبالتالي فإن مقولاتها لا يتم تطبيقها بأثر رجعي (وربما بشكل خاطئ) على الماضي فقط. تُترجم صورتها عن الماضي إلى واقع الحاضر: فطبيعة الفلسفة الحديثة تتحدد جزئيا من خلال الافتراضات المسبقة غير المدروسة لتاريخ الفلسفة."
أحد الأشياء التي قد تبدو مثيرة للدهشة في هذا المقطع هي فكرة أن تاريخ الفلسفة نفسه قد يكون بصدد القيام بطريقة أو بأخرى بالتحديد، الذي يحلم به الجميع، للموضوع الدقيق الذي يفترض في المفاهيم المتعددة والمتباينة للغاية تمثيله كل منها بطريقته الخاصة، أو ربما التي تمثل كل منها جانبا مختلفا منه. للوهلة الأولى، في الواقع، ما يمكن أن نتوقعه من تاريخ الفلسفة حول هذه النقطة يبدو قبل كل شيء أنه ينتج عددا أكبر من الإجابات المختلفة على السؤال المطروح، وليس بالتأكيد كونه يقربنا من إجابة محددة من شأنها أن تفرض نفسها بشكل نهائي كما لو أنها الإجابة الصحيحة. من المحتمل أن يكون الخيال الفلسفي قادرا على إظهار نفسه، عندما يتعلق الأمر بالإجابة على هذا السؤال، على أنه مبتكر وغير متوقع كما هو الحال عندما يواجه أي سؤال فلسفي آخر. والفلاسفة الذين اهتموا بشكل صريح بهذا النوع من المشاكل غالبا ما بدأوا بملاحظة أن الخلافات بين الفلاسفة حول مسألة ماهية الفلسفة بالضبط كانت كبيرة وبدت غير قابلة للحل مثل تلك التي تظهر في شأن جميع الأسئلة الفلسفية المعتادة. إذا كنا مستعدين، رغم كل شيء، لقبول فكرة أن تاريخ الفلسفة يمكن أن ينجح في النهاية في تزويد الفلسفة بإجابة مقبولة عالميا عن سؤال واحد على الأقل، وهو سؤال هويتها، فإن الاعتراض الواضح هو أن ذلك يتضمن مفهوما عن تاريخ للفلسفة ليس فقط ضربا من تفاؤلية لا شيء يبررها، لكنه أيضا نوع موضع شك إلى أعلى درجة ومتنازع عليه بشدة بشكل عام.
السبب الذي دفعني إلى اقتباس مقتطف من كتاب، صدر منذ ما يقرب من أربعين عاما، عن العلاقات المحددة والإشكالية التي تقيمها الفلسفة مع تاريخها، هو أن المؤلفين كانوا يناقشون مشكلة كان لها بالنسبة إلي، في تلك اللحظة، أهمية خاصة، بل حاسمة تقريبا. لقول الأشياء بطريقة مبسطة وربما حتى تبسيطية بعض الشيء، وجدت نفسي في مواجهة وضع فيه احتلت مسألة أهمية تاريخ الفلسفة ومسألة طبيعة العلاقة التي يقيمها مع التخصص الذي يؤرخ له مكانة قد توصف بأي شيء ما عدا أنها تافهة. في مقدمة التظلمات التي تم التعبير عنها في فرنسا ضد الفلسفة التحليلية، من قبل أشخاص لم يعرفوا عنها شيئا تقريبا في معظم الأوقات، كانت هناك، بالفعل، طريقتها الحقيقية أو المفترضة في التجاهل العلني لتاريخ الفلسفة وفي كونها تطبق على المشكلات الفلسفية تناولا عيب عليه واقعة إدراكها كما لو كان من الممكن مواجهتها والاقتراب منها بطريقة مباشرة ومستقلة تماما تقريبا عن التقليد الذي جعل ميلادها ممكنا وعن تاريخ هذا التقليد. ولكن، من ناحية أخرى، الانطباع الذي أمكنني الخروج أو خرجت به فعلا من الفلسفة الفرنسية، والذي كان تاريخ الفلسفة بلا شك إحدى نقاط قوته بل ربما نقطة قوته، كان هو الميل إلى منح الأخيرة مثل هذه الأهمية بحيث بدت الفلسفة نفسها مندمجة بشكل أو بآخر مع تاريخها. علاوة على ذلك، يمكننا أن نلاحظ أن مؤرخي الفلسفة بشكل عام لديهم ميل قوي جدا لاعتبار أنفسهم المدافعين عن الفلسفة الحقيقية، وهم المسؤولون عن حمايتها ضد جميع أشكال التخريب التي من المحتمل أن تهدد، بشكل مباشر أو غير مباشر، هويتها ونزاهتها.
عندما يتساءل مارسيال جيرو نفسه، في كتابه "فلسفة تاريخ الفلسفة"، أين بالضبط وبأي شكل يمكننا أن نواجه الفلسفة لأول مرة، يجيب دون تردد أن اللقاء مع الفلسفة هو قبل كل شيء لقاء مع مذاهب وتاريخها:
"من يلجأ إلى الفلسفة القائمة لا يجد مجموعة من الحقائق، بل تاريخها. ومن ثم، يبدو أن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن تاريخ الفلسفة، قبل أي تعريف وأي بحث، يحتفظ بعلاقة محددة مع الفلسفة بشكل عام، تختلف تماما عن العلاقة بين تاريخ العلوم والعلوم بشكل عام."
بمعنى آخر، إذا أردنا مواجهة تخصصات علمية مثل الرياضيات أو الفيزياء، فيكفي للوهلة الأولى أن نقرأ عرضا يصف الرياضيات أو الفيزياء اليوم، أي يقدمها في حالتها الحالية. لكن بالتأكيد لا يمكن فعل أي شيء من هذا القبيل في حالة الفلسفة. إن معرفة الفلسفة تعني، بطريقة أساسية، معرفة ما كانت عليه، وليس فقط ما أصبحت عليه في النهاية. عندما نسعى إلى ربط الاتصال بالفلسفة نفسها، لا نواجه أبدا مجموعة من الحقائق الراسخة التي انتهت بفرض نفسها على مجتمع الممارسين ككل، ولا طريقا قادرا على تشكيل تقدم يمكن التعرف عليه بوضوح نحو حقيقة نهائية. لكن هذا يثير على الفور مشكلة هائلة، وهي ما إذا كان من يسعى إلى ملاقاة الفلسفة سينجح أم لا في ملاقاة شيء آخر غير تاريخها نفسه. ومع ذلك، رغم أن هذا الأخير قد يكون فلسفيا، إلا أنه لا يمكن الخلط بينه وبين التخصص الذي هو تاريخه. الشيء الوحيد الذي يستحق التأكيد عليه الآن هو أن جول فويلمان، في هذا النوع من الأسئلة، هو حقًا وريث جيرو. هو أيضا مقتنع بأن الاتصال بالفلسفة يتم في المقام الأول من خلال اللقاء مع الأنساق الفلسفية التي نقلها إلينا التاريخ. يمكننا أن نفكر في إجابة مختلفة تتمثل في القول بأن الاتصال بالفلسفة هو قبل كل شيء اتصال بالمشكلات الفلسفية. لكن إحدى الخصائص الأساسية لمنهج جيرو، والتي نجدها عند فويلمان، هي أن فهم المشكلات التي يطرحها الفيلسوف ويسعى إلى حلها يبدو أنه يمر بالضرورة عبر الفهم المسبق للنسق الذي ظهرت وصيغت فيه. إن تحليل البنيات يسبق ويؤسس تحليل المشاكل، وليس العكس.
إن الفرق الذي أكده جيرو وآخرون كثر بين العلاقة التي تقيمها الفلسفة بتاريخها وعلاقة العلوم بتاريخها، يبدو بالكاد قابلاً للنقاش، بل وواضحا تماما. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا لا يمنع الفلاسفة من أن يطبقوا بانتظام إلى حد ما على تاريخ الفلسفة معالجة لا ينبغي، باعترافهم الخاص، أن تستخدم في الواقع إلا في حالة تاريخ العلم. في الواقع، في الفترات الثورية، نحن لا نتردد في الحديث، في ما يتعلق بالفلسفة، عن الاضطرابات النظرية والمفاهيمية التي تنطوي تقريبا على نفس النوع من اللارجعة مثل بعض الثورات العلمية. كنت، من جهتي، قلقا جدا بشأن الكم الهائل من الأشياء غير المسبوقة التي كان من المفترض أن "برهن عليها" الفلاسفة الأكثر أهمية في فرنسا في الأعوام 1960-1980، وبشأن كم تلك المتعلقة بالحقائق أو الأدلة التقليدية التي كان من المفترض أن "دحضوها"، دون أي إمكانية للنقاش وبطريقة تحظر من حيث المبدأ أي نوع من العودة إلى الحالة السابقة.
ولا يسعني إلا أن أكرر في هذا الصدد ما كتبته في نص نشر قبل عشر سنوات بعنوان «الفلسفة وتاريخها» عن «الانزعاج الذي أثاره الإعلان في داخلي في فترة زمنية من اكتشافات مذهلة أو أعمال جليلة لا تنسى حققها الفلاسفة أو كانوا بصدد تحقيقها، (تقع) عموما ضمن نوع الاستدلالات السليمة على الاستحالة، والتي قد تتمثل، مثلا، في إثبات بشكل لا يقبل الجدل أنه لم يعد بإمكاننا فعل أي شيء بأفكار تقليدية مثل أفكار الذات، المعنى، الحقيقة، الموضوعية، إلخ .، بل علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لمحاولة التخلص منها تماما". من الغريب، على أقل تقدير، أن نرى الفلاسفة يؤكدون بانتظام على أن فكرة التقدم ليس لها معنى حقيقي في الفلسفة، وفي الوقت نفسه يتحدثون، بشكل لا يقل انتظاما، عن بعضهم على أنهم أظهروا بشكل قاطع أشياء ذات أهمية حاسمة، والتي لم يكن من الممكن أن يكون لدى أسلافهم أي فكرة عنها بعد.
ولكن يمكننا أن نلاحظ في الوقت نفسه أنه حتى أكثر مفكري التقليد الفلسفي تطرفا يحرصون، في معظم الحالات، على تقديم الأمور كما لو أن أسلافهم الأكثر شهرة كان من الممكن أن يكونوا بأي حال من الأحوال ضحايا الأخطاء أو الأوهام التي تم تصحيحها لاحقا. يمكن أن يكون لدينا شكوك جدية حول إمكانية العثور، في مجال مثل الفلسفة، على أمثلة لا جدال فيها عن الحقائق التي يمكن وصفها بأنها "راسخة". ولكن من المؤكد أنه من الأصعب إقناع الفلاسفة بقبول فكرة أن تاريخ تخصصهم ربما أدى إلى الاعتراف بشيء مثل "الأخطاء الراسخة". في الواقع، لكي يحدث هذا، سيكون من الضروري أن تكون بعض التأكيدات التي صاغها الفلاسفة قابلة للدحض وتم دحضها بشكل فعال، وهو احتمال لا يعطيه معظمهم أي معنى تقريبا. الانطباع الذي يحصل عليه المرء من هذا هو أنه عندما يتعلق الأمر بتقييم المذاهب والأنساق الفلسفية، فإن أفكارا مثل فكرتي الحقيقة والخطإ تكاد تكون عديمة الفائدة أو الصلاحية الفعليتين.
(يتبع)
المصدر: https://books.openedition.org/cdf/4936








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرشقون آليات الاحتلال بالحجارة ببلدة بيتا


.. اختتام اليوم الثاني من اجتماع رابطة -آسيان-.. ما أبرز مخرجات




.. إسرائيل لن تنتظر دعم واشنطن لمواجهة حزب الله|#غرفة_الأخبار


.. أولمبياد باريس ..مخاوف من ضعف الجانب الأمني|#هجمة_مرتدة




.. أولمبياد باريس.. حفل غير مسبوق في نهر السين|#هجمة_مرتدة