الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسألة العراقية - او العراق بين الحقيقة والخيال

حافظ الكندي

2024 / 1 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المسألة العراقية: العراق ما بين الخيال والواقع

هنالك الكثير من الشجن الذي يثيره ذكر العراق لدى المتلقي، ومباشرة تأتي بابل وبغداد وهارون الرشيد وألف ليله وليلة على البال.... سحر وغموض، مشاعر وانطباعات تختلط فيها العواطف والأفكار ويختلط التاريخ بالأسطورة. إنجازات شامخه وحضارات مبهره ومتوهجة. فاين هذا كله مما نراه الان من أوضاع مخزيه وفترات طويله من السبات والانحطاط الحضاري والاجتماعي؟ وكيف نفسر ذلك؟
**
عندما نتحدث عن الجزء من العراق الذي نشأت فيه مراكز حضارات مثل سومر وبابل وبغداد فأننا نقصد دلتا الرافدين، أي السهل الرسوبي وهو الجزء الذي يشكل السهل الممتد ما بين سامراء وهيت شمالا وحتى رأس الخليج جنوبا ويمثل حوالي ربع مساحة العراق، أي ما يزيد عن مائة ألف كيلومتر مربع. وينبسط سطح السهل الرسوبي في معظم انحائه انبساطا شديدا، الى حد الناظر يستطيع ان يرى استدارة الافق كاملة دون ان يلحظ انحدارا ملموسا. وكان هذا السهل قد امتلأ برواسب نقلتها اليه الأنهار فتشكلت طبقة طينية سميكة تكاد تغطي سطح السهل برمته. شدة الانبساط جعلت السهل في كثير من انحائه يعاني مشكلة صرف مياه الري. وتعجز الانهار في هذا السهل عن حمل رواسبها لقلة انحدار مجاريها. جغرافيا هذه المنطقة هي امتداد للصحراء من الجنوب والغرب وتحدها الجبال والهضاب من الشرق والشمال، وهي محدودة الامطار ومعرضة لنور للشمس.
هذا الحوض العجيب التركيب، مائة ألف كيلومتر من الأرض المنبسطة كأنما ضربت بمكواة، ذات التربة الغنية، يحيط به الماء من كل جانب، ويقع تحت شمس يندر ان تغيب، تمثل المحيط البيئي الأكثر خصبا والأكثر ملائمه، في العالم القديم على الاقل، لان تصبح مزرعة واسعه لإنتاج الحبوب. يقول هيرودوتس "ليس في كل اقطار العالم بلد يضاهي بابل من حيث خصوبة الأرض وإنتاج الحبوب، فأن الحبوب تعطي مائتي ضعف وعند الاقبال أكثر من ثلاثمائة ضعف وتعوض عن العنب والزيتون والتين التي لا تصح زراعتها في تلك التربة...." . وفي عصر الإمبراطورية الأخمينية التي كانت ممتلكاتها تمتد من البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب إلى وادي السند في الشرق، وتشمل بلاد الشام ومصر، يقول هيرودوتس ان "بابل كانت تقدم المؤن ما يكفي أربعة اشهر في السنة وعلى باقي المقاطعات في سائر انحاء المملكة ان تؤدي مؤن ثمانية اشهر. ومن هنا يستدل ان بابل كانت من الغنى والقدرة معادلة لثلث آسيا بأسرها..." . لا عجب ان معظم الفاتحين اتخذوا من تلك الأرض مراكز لحكمهم مثل الاسكندر المقدوني في بابل، او الساسانيون في المدائن، او المسلمون في بغداد...
ولكن استخلاص ثمر هذه الأرض لن يأتي دون جهودا كبيره ممن يديرها. وكما ان الاجر كبير فان المشقة كبيره. الماء يجب ان يصل الى كل بقعه في تلك الأرض مما يتطلب حفر جداول وقنوات تكون شبكه تنقل المياه من الأنهار الرئيسية الى ابعد نقطه عنها. في نفس الوقت وبسبب طبيعة الأرض وركود المياه وشدة الانبساط فأن السهل في كثير من انحائه يعاني مشكلة صرف مياه الري في الأرض المروية ومن ثمة فأن ملوحة الأرض تتجه الى الازدياد مما يخفض من انتاجيتها بل ويجعلها بورا. هذا يتطلب شبكه أخرى وموازيه من اجل اعمال البزل أي غسل الأراضي وإعادة تأهيلها للزراعة. كما ان طبيعة السهل نفسه ومحدودية الانحدار تجعل ان الفيضانات الموسمية تؤدي الى غمر مساحات كبيرة منه قد تصل الى غمر مدن بكاملها، وأحيانا الى يصبح السهل نفسه اشبه ببحيره كبيره. ولذا يلزم إيجاد حلول مثل سدود وخزانات مياه للوقاية من هذه الاخطار. وكل هذه الأنظمة تحتاج الى صيانة مستمرة على مدار العام لإزالة الترسبات التي تؤدي لأغلاق الأنهار والجداول في هذه الشبكات الواسعة، وهو ما يدعى بعمليه الكراء حيث ترفع الترسبات الطينية من قعر النهر وترمى على الأرض المجاورة.
هذه المهمات ليس ترفا او هي اختيارية، بل هي اما حياة واما اندثار. العصور الذهبية للحضارات في العراق قامت على قدرة هذه الدول وحرصها على انجاز هذه المهام بأعلى درجه من الكفاءة. وتقريبا كانت المهمة الأولى للحكام منذ العصر السومري هي رعاية اعمال الري الى حد ان الملوك صاروا يعملوا كرؤساء عمال زراعيين..."كانت اهم واجبات حاكم المدينة السومرية، علاوة على الكهانة وحفظ النظام، هي السهر على درء اخطار الفيضان والقيام بمشاريع الري وصيانتها وتحسينها..." . ملوك بابل القدماء كانوا يتباهون بما يقومون به من شؤون الري كشق الجداول التي تنقل المياه الى الحقول البعيدة، وتقوية حدود الأنهار لحماية الأراضي الزراعية من الغرق، الى ما هنالك من المشاريع الكبرى كالخزانات والقناطر، بقدر ما كانوا يفخرون بالأعمال الحربية والفتوحات" . "كما ان شريعة حمورابي تضمنت انظمه صارمة فيما يتعلق بشؤون الري والزراعة" . ولم يتوقف الاخمينيون الذين حكموا بابل عن العناية بالري. بل ان كورش الكبير استخدم جيشه لحفر المزيد من الترع والجداول. اما الاسكندر المقدوني فلم يتوقف عن الاهتمام بمشاريع الري طيلة حكمه في العراق، فأصلح مساحة واسعه من الأراضي في منطقة الاهوار من بابل وانشا المزيد من السدود...وقد روى سترابون (أحد مؤرخي الاغريق) ان الاسكندر كان يستقل ضهر سفينة يقودها بنفسه فيفتش صدور الجداول المتفرعة من الأنهر...ثم يستعين برجال جيشه لفتحها او اغلاقها حسب الحاجة".
هذه المهام كي تكون مثمرة فأنها يجب ان تكون شامله لكل تلك البقعة من الأرض، أي ان تكون الشبكة متكاملة لا نقص فيها وتغطي كامل مساحة الحوض. مما تتطلب استثمارات كبيره بشريه واقتصاديه لا يمكن ان تقوم بها عائله او عشيرة او حتى سلطة مدينه بل تتطلب سلطه مركزيه لدولة قوية تمسك بكافة خيوط التكوين السكاني وتوفر الجهد البدني الضروري لإنجاز هذه المهام اللوجستية الصعبة والمعقدة. والاهم ان لديها الحافز لبذل تلك الجهود. في فترات شباب وفتوة هذه الدول وصعودها فان النتيجة هي مردود زراعي وحيواني وغذائي يكفي لإعالة عدد كبير من ساكني المدن مع فائض لجيوش الممالك الحاكمة.
العراق بهذا المعنى هو ارض مصطنعة او هو روضه او حديقة في وسط صحراء في حاجه الى جهد وعين الفلاح التي لا يجب ان تغفو ابدا. كل شيء يعتمد على قوة وشدة ويقظة الدولة المركزية التي بمجرد ان ينتابها أي ضعف او تهاون يفلت كل شيء دفعه واحده. تنهار شبكة الري والبزل، وتكتسح الفيضانات المزارع، وتغرق المدن، وربما حتى تهجر بعد ان تغير الأنهار مجاريها بعد الفيضانات، وتقل الإنتاجية الغذائية ويتقلص عدد السكان. وتستسلم الأرض للصحراء ويدخل البلد في طور انحطاط حضاري. "على إثر وفاة الاسكندر خيمت على البلاد سحابة من الاضطراب السياسي ساد بسبب ذلك النظام العشائري في البلاد، وكثر عدد الملوك والشيوخ الذين صاروا يتمتعون بشبه استقلال ذاتي..." . استمر هذا الوضع الى ان جاء الدور الساساني، الذي اتخذ من المدائن (قرب بغداد) عاصمة له. حيث كان عصر رقي وازدهار. "ولعل أعظم رخاء شاهده العراق كان في تلك الحقبة من الزمن، حيث ازدهر فيها عمران الري بصورة خاصة واعيد احياء معظم المشاريع القديمة المهملة، كما أنشأت السدود الضخمة لاستغلال مرافق البلاد الى اقصى حد ممكن...وفي هذا الدور قامت على أنقاض النظام العشائري سلطه موحده وضعت الركن المتين لنهضه عمرانية جديدة شملت طول البلاد وعرضها..." .
في فترات عز الدول وازدهارها تسود المدنية، حيث انتماء الفرد للدولة والحاكم. والدولة كما هو معروف هي كيان سياسي بالدرجة الأولى ويعني ان الفرد ليست له روابط قبليه او عشائرية او مناطقية او دينية او حرفية تفوق او تتجاوز سلطة الدولة. الملك هو السيد ولا سيد غيره سوى الإلهة. ليست هناك مراكز قوة غير الدولة وعلى رأسها السلطان. في المدينة ينتمي الانسان لعائلته أولا ثم الى الملك ثانيا. الفرد هو انسان سياسي بهذا المعنى بغض النظر عن كيفية ممارسته للسياسة. والمجتمع هو تلك التشكيلة السكانية التي يربطها ذلك الولاء للسلطان ومن ثم فهي تشمل كافة افراد الدولة بغض النظر عن لون البشرة والمنشأ وغير ذلك.
"ولكن هذا العهد الذي دام أكثر من أربعة قرون اذ اخذ الضعف يسري في شرايين المملكة الساسانية في عهدها الأخير.... فأهملت مشاريع الري والسدود وتخربت أكثر الجداول بتأثير الفيضانات سنة بعد أخرى، وأثر ذلك تغيرت مجاري الأنهر وتحولت مراكز المدنية من مواقعها الاصلية الى مواقع جديده" .

**
اخر فترة ازدهار للعراق كانت في القرون الثلاثة الأولى للدولة العباسية في بغداد. كان تركيز الدولة على شبكات الأداء الزراعي واحياء وصيانة شبكات الري والبزل والحماية من الفيضان وتوسيعها كبيرا الى حد البدء في استصلاح اراضي المستنقعات المالحة في الجنوب حيث جلب اعداد كبيره من العبيد من افريقيا لهذا الغرض. "جرت في عهد الحكم العربي جهود لإرجاع البلاد الى رقيها السابق، سواء بتشجيع الزراع على العناية بأرضهم الزراعية وبساتينهم، او بإعادة تخطيط الجداول ...وكذلك احياء وصيانة المشاريع التي يرجع تاريخها الى اسلافهم الساسانيين...ولم يتعرض الفتح الإسلامي لأنظمة الحياة الزراعية ...بل ابقوا على ما كان علية في زمن الفرس...ومنعوا تملك الأراضي من قبل الفاتحين..." . وقد اعترف الخبراء والمؤرخون بعظمة اعمال بني العباس وبمشاريعهم الجبارة اذ يقول خبير الري الشهير وليام ويلكوكس: "ان اعمال الخلفاء في تلك الأيام تشبه اعمال الري في كل من مصر والولايات المتحدة وأستراليا في العصر الحاضر...وأن العراق ليس بحاجة الى تخطيط جديد لشق الاترع وفتح الأنهار، فان في الاثار الباقية من العصر العباسي كافية لتنظيم امر الزراعة والري فيه" . ويضيف الدكتور سوسة:"ان ازدهار الري قد بلغ ذروته في عصر الزهو العباسي، ...حيث ان معظم مياه الرافدين قد استغلت لأغراض الري، وتمكن العرب من استثمار كل الدلتا تقريبا...وقد اطنب المؤرخون في وصف عمران المملكة العباسية ومما جاء في كتاباتهم ان القرى الواقعة على نهر دجلة كانت في اوائل العصر العباسي قريبه بعضها من بعض على طول الطريق بين بغداد والبصرة وان الترع قد تشابكت في ارض السواد بكثرة يصعب تصورها..." .
" وقد نالت أراضي السواد من العناية في عصر العباسيين حظا وافرا حيث كانت الحكومة العليا تراقب كافة الأمور المختصة بالزراعة مراقبة دقيقة وتشرف كذلك على انشاء الجداول وصيانتها واصلاحها وعلى جميع اعمال الري التي تتوقف عليها الحاصلات الزراعية. وكان هناك ديوان خاص مهمته الاشراف على اعمال الري والجداول، وقد كتب قاضي قضاة الإمبراطورية في عهد الرشيد الى الخليفة كتابا يبين فيه ان من واجب الحكومة تشييد الجداول الجديدة على نفقتها لتحسين الزراعة وتنظيف الجداول الموجودة وترميمها والاشتراك مع الشعب في تحمل نفقات الصيانة وتوزيع المياه. ثم أوصى بتشكيل شرطة نهرية ..."
"العصر الذهبي ذاك لم يستمر طويلا، اذ بدأ التفسخ والوهن يدبان في جسم المملكة بعد أواسط القرن الثالث للهجرة وذلك بتقلص نفوذ الخلفاء وسيطرتهم على شؤون المملكة الامر الذي أدى الى انحطاط الري في القطر كله" . تلا ذلك انحدار واضح شمل حتى الحواضر الرئيسية للخلافة. يقول ابن جبير عن بغداد وهي مازالت عاصمة الخلافة العباسية "هذه المدينة العتيقة، وأن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها الا شهير اسمها. وهي بالإضافة ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالظل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي...العقلة والنظر..." .
**
ارض دلتا الرافدين تشكل تحدياً للإنسان، هي اما ازدهار ورقي وثراء وعمران واما خراب وتحلل. والمسافة ما بين الخراب والعمران قصيرة تاريخيا. الانسان وحضارته هنا هما اللذان يحاولا تطويع البيئة الجامحة المتمردة لاعتصارها، وإعادة تشكيلها كي تعطي اقصى ما يريدوا من خيرات، من خلال اليقظة المفرطة وبذل الجهد الخارق والدائم والذي لا مجال فيه للاسترخاء او الضعف او الغفلة. بيئة العراق تجعله يعيش قلق الوجود كمن يقف على رمال متحركة...اي خطوة خاطئة تسبب الغرق والدفن في تلك الرمال.
**
عاملان يشكلان المشهد الذي ينشأ عن ضعف الدولة في العراق. الأول هو ما اسلفناه عن التغييرات البيئية التي تنهي الزراعات الكثيفة، ولا يبقى سوى مراكز المدن العريقة والحواضر التي نجت من الزلزال البيئي والتي تعيش على الزراعات المحلية الصغيرة، وخاصة مناطق غابات النخيل.
العامل الثاني ينبع من حقيقة ان حضور وصلابة المجتمع تقوم على أسس مادية تمثلها البيئة الإنتاجية الزراعية ومن ثم الحرفية. مع انهيار هذه البيئة فأن المجتمع يمسي هشا وضعيفا وآيلا للسقوط في مواجهة أي ريح تكتسحه. تأتي تلك الريح في العراق من واقع ان ذلك البلد جغرافيا هو امتداد للصحراء ولا يوجد حاجز طبيعي يمنع سكانها من البدو ان يتوجهوا اليه والإقامة فيه حيث يوجد الماء وغيره من مستلزمات الحياة. لا علاقة للقادمين الجدد بماضي هذه الأرض ولا بالمنجزات الحضارية. يعيشوا بنمط حياة عشائري ينتمي فيه الفرد الى العشيرة أولا، وولاءه الى الشيخ وليس الى الدولة. نمط الحياة البدوية من قيم وطباع وتقاليد تحل محل المجتمع القديم عملياً. هو غزو خارجي كثيف تتعرض له مجتمعات هشة فقدت ارضيتها المادية الإنتاجية، ولم تعد تملك مقاومة لهذا الغزو ولا قابلية لامتصاصه او التخفيف من حدته.
عمليا يجري هنا استبدال شعب بشعب اخر، او مجتمع متمدن بمجاميع سكانية متنوعة الهوية وذات ولاءات متفرقة لا يربطها رابط. وهنا يحصل الانقطاع التاريخي وتزول او تمحى الذاكرة الاجتماعية. "يكفي لفهم تلك الفترة ان ثلاثة ارباع السكان فيها كانوا يخضعون للتنظيم العشائري وتسيطر عليهم قيم العصبية والغزو والثأر والدخالة وغسل العار وما شابه ذلك. اما الربع الباقي الذين يُمثلون سكان المدن؛ فهم وان كانوا يختلفون عن العشائر في بعض الامور الظاهرية، كالمسكن والملبس وطرق العيش.... غير انهم في اعماق أنفسهم لم يكونوا يختلفون عن اولئك كثيراً... هكذا تمددت اخلاق البداوة لتشكل واحدة من الخصائص العامة في طبيعة المجتمع العراقي "
**
روما، دمشق، أثينا، إسطنبول، مراكش...وغيرها، كانت مراكز لحضارات او ممالك قوية وحواضر العالم المحيط بها يوما. ولكن في تلك المراكز فان البيئة او طبيعة الأرض لن تعاني من زلزال بعد ضعف الحكام، بل ان التضاريس الطبيعية تبقى راسخة تحفظ الفعل الإنتاجي وتبقى راعية لها. ومن ثم تبقى المجتمعات في تلك المناطق أكثر قوة ومنعة على صد الغزو الاجتماعي والثقافي للأقوام الأقل تحضرا المحيطة بها، او على الأقل امتصاصهم وخلق توازن يحفظ تراث المجتمعات الاصلية من ان يذوب ويندثر. بقيت مشاعل تلك الحضارات بائنة في هياكلها العمرانية والاجتماعية، وتواصلت الذاكرة الجمعية تتوارثها الأجيال في طبائعها وشخصياتها. يقول ابن جبير نفسه عن دمشق، وذلك بعد مئات السنين بعد زوال الحكم الاموي "جنة المشرق ومطلع حسنه المؤنق المشرق وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها وعروس المدن... قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين ... ظل ظليل وماء سلسبيل ... قد احدقت البساتين بها أحداق الهالة بالقمر واكتنفتها"
ليس الغرض هنا مقارنه تاريخيه او عمرانية ما بين المدينتين بقدر ما هي تبيان ما نحاول تبيانه من ان نمط الزراعة في غوطة دمشق مثلا ليس معتمدا على الحضور السياسي للدولة، وان ضعف السلطة لا يؤدي الى انهاء الوجود الحضاري، كما هو الامر في السهل العراقي الذي يعتمد كل شي فيه على حضور وقوة دولة مركزية، التي بمجرد ان تسحب يدها من العناية بمنظومة الري وخدمة الزراعة حتى ينفل العقد وتنهار الشبكة وتندرس الحضارة والعمران. الدولة هي عمود الخيمة ان زالت او ضعفت ذهب المجتمع والتحضر وصارا اثرا بعد عين.
**
بعد حوالي ألف سنه من ضعف سلطة الدولة في العراق وغزو البادية وسكانها، فان معالم الحضارة والتمدن القديم قد امحي او كاد. وهو الوضع الذي استلمته الدولة "الوطنية" بعد الحرب العالمية الاولى. الاستعمار البريطاني الذي كان عمليا يحكم العراق آنذاك شجع تلك الدولة على إيلاء الاهتمام بدلتا الرافدين، هذا السهل الفريد والقابل لان يصبح سلة غذاء للاستهلاك المحلي والتصدير الخارجي. وفعلا فأنها وضعت خططا للاستثمار فيما تتطلبه معالجة الوضع الاروائي لهذا الحقل والاستفادة من الخبرات والتجارب القديمة واحياء وتجهيز ما يزال كل صالحا وقابلا للاستخدام من شبكات ري وتوزيع مياه وبزل وتجهيزات الحماية من الفيضانات مثل السدود وخزانات الماء...الخ.
المهمة كانت تحتاج ايضا الى احياء الروح الاجتماعية لهذه الجموع السكانية التي ما تزال تؤثر فيها الانتماءات العشائرية وروح التمرد البدوي، والتي ولم تعتد بعد على قيود العمل والانتماء لسلطة مركزية. ولهذا سعت تلك الدولة الى احياء الهوية الوطنية يمثلها العلم والنشيد الوطني، وطرق الحكم والإدارة الحديثة، وخلقت تقسيمات إدارية جديدة، بالإضافة الى مؤسسات تعليمية وصحية متطورة نسبيا....
توجت تلك الجهود بأنشاء الجيش العراقي والاهتمام به. ذلك الجيش الحديث صار بوتقة انصهرت فيها مكونات الدولة بغض النظر عن انتماءاتها العرقية والقبلية والطائفية والمناطقية، بحيث انه شكل النموذج لما يراد ان يكون عليه شكل المجتمع العراقي مستقبلاً. هل نستغرب من ثم ان اول ما فعلته الإدارة الأمريكية في العراق بعد سنة 2003 هو حل ومحو هذا الجيش...؟!
**
ثلاث عقود، هي كل عمر الدولة العراقية تلك، لم تكن كافية لأحداث تغيير يذكر وانجاز ما تحلم به. عاجلها تغيير سياسي أدى الى إزاحة الدولة الحاكمة ورموزها. الامر الذي ساير موجة الانقلابات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي تحررت فيها المستعمرات ومناطق النفوذ من المراكز الاستعمارية التقليدية.
الوضع الجديد في العراق أنجب سلطه حاكمة شعبوية. هي ليس فقط اهملت تجهيزات ومتطلبات ومشاريع الري والفعاليات الزراعية بل انها فتحت الأبواب مشرعة لاستيراد المواد زراعية او حرفيه او صناعيه، مما أدى للاستغناء عن انتاجها محليا. وعملت قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم وغيرها على تهديم البنى الزراعية التقليدية او ما هو متواجد منها وبدون إحلال أي منظومات فعالة او كفؤة محلها. تحول البلد على أثرها وبسرعة من موقع تصدير الحبوب والمنتجات الحيوانية الى مستورد خالص لمعظم المحاصيل الغذائية. دخل العراق هنا عصر التخلف مثله مثل معظم المستعمرات السابقة في افريقيا والشرق الأوسط.
**
الضربة القاضية - الولوج في عصر التخلف
والتخلف بهذا المعنى هو ظاهرة تاريخية حديثة وفريدة في علاقة التابع بالمتبوع. فتقليديا تتمثل تلك العلاقة بان القوة المسيطرة هي التي تمتص ثروات مستعمراتها وقوة عمل سكانها، وبخاصة الزراعية وكذلك الحرفية. وهو ما وسم التأريخ البشري برمته. القوة المسيطرة تغتتني وتثري وتزدهر على حساب استغلالها للقوة الأضعف. ولكن بعد نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يسير حسب قوانين التوسع الإنتاجي المتواصل لتجنب خطر الركود والانهيار، والقدرات التي وفرتها المكننة والاتمتة بدأت قدرات ذلك النظام الإنتاجية تفوق قابلية سكان البلدان الراسمالية على الاستهلاك. تلك الفجوة كانت تسبب الحروب الكبيرة، التي تعمل على امتصاص الفائض. ولكن بمجرد ان تنتهي الحرب تعود المشكلة بصوره أوضح وأكبر لينتج عنها الركود، والى استعار حروب طاحنه جديدة.
بعد انتهاء الحرب الثانية وجد الغرب نفسه امام جبال من المنتجات التي لا تجد من يستهلكها، ليس فقط الصناعية بل وحتى الزراعية، الى حد انه كان يجرى رمي كميات منها في البحر. في المقلب الاخر هناك ملايين من سكان المستعمرات في افريقيا والشرق الأوسط والذين يعيشوا نمط حياة تقليدية، ولكن لديهم قدرات استهلاكيه غير محدودة تقريبا وغير مستغلة. كان الامر يتطلب خطوتين. الأولى فك ارتباط تلك الشعوب بالقوى الاستعمارية التقليدية. وقد جرى ذلك بتشجيع وتبني حركات التحرر والاستقلال الوطنية التي سادت وانتشرت فجأة كالنار في الهشيم، والتي أدت في بضع سنوات الى فك ارتباط عشرات من المستعمرات القديمة بالمراكز، ابتداء من شبه القارة الهندية ومصر، ومروراً بالشرق الأوسط وافريقيا، وانتهاء بالكيانات العنصرية مثل روديسيا وجنوب افريقيا.
الخطوة الثانية هي جر هذه البلدان الى حلبة الاستهلاك الحديث، والى تخريب منظومات الحياة والعمل الانتاجي التقليدية وبضمنها الشبكات الاجتماعية الناشئة عنها والساندة لها. جوهر الوجود الاجتماعي واللحمة او الرابطة التي تشد الافراد الى بعض تلاشت، ولم تعد هناك مجتمعات بالمعنى التقليدي بل كتل سكانية اشبه بسكان مخيمات اللجوء. لم تعد السطات الحاكمة في تلك البلدان في حاجة لاحد من السكان في اي عمل نافع، بل ويمكنها ان تفني أي عدد منهم وبدون وازع او ان تخشى لومة لائم. وصارت الشعوب تحت رحمة تلك السلطات ذات القدرة المطلقة على إبقاء الفرد حيا او ومنحه الموت تحت التعذيب في الكثير من الأحيان. والفظائع المرتكبة في افريقيا والشرق الأوسط ابتداء من أوائل السبعينات تشهد على ذلك.
اما تمويل هذه الاستيرادات الى العالم الثالث فكانت تتم اما من خلال القروض من مختلف الهيئات وصناديق الإقراض او من الدول الغربية المصدرة نفسها. او من عائدات تصدير المواد الخام، حيثما امكن، وبالذات البترول مثلما الامر في العراق ودول الخليج وليبيا ونيجيريا. ارتفعت تلك العائدات بشده بعد القفزة البترولية أوائل السبعينات. مما أتخم خزائن هذه البلدان وشحن حكامها بالقوة والجبروت.
دخل العراق اذن هذا الطور او النادي التخلفي من أوسع ابوابه. ولم يأخذ الامر وقتا قبل لن تستلم السلطة الفاشية مفاتيح الدولة. لم يعد من شيء يقف في وجهها في عمليات تدجين البيئة العراقية ذات الطابع العشائري المتمرد مخلوطاً بروح الحداثة السياسية. وفي خلال عقدين من الزمن ذهب الملايين ضحايا تلك السلطة سواء تحت التعذيب في السجون والمقابر الجماعية، او في الحروب الخارجية العابثة والتي تفتقر لاي سبب حقيقي، اللهم الا لاستهلاك المزيد من التجهيزات العسكرية للغرب، والتي أصبحت عاطلة بعد انتهاء حرب فيتنام. اثناء ذلك الكابوس سحق ما تبقى من أثر حضاري او اجتماعي او تاريخي...
**
ولهذا فليس مستغربا ان عراق هذه الأيام وبعد تلك الالف عام المظلمة ليس هو نفسه عراق بابل وبغداد وألف ليله وليله...

* الاقتباسات من كتاب الدكتور احمد سوسة "الري في العراق القديم"، والدكتور محمد لوتي "محاضرة البداوة والحضارة" و كتاب رحلة ابن جبير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف