الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية نص بارمينيدس

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 1 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نشر يناير ٣١ ٢٠٢٤
أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٥٩ - إشكالية نص بارمينيدس التي لا تنتهي

هذه هي كل المقاطع المتبقية من نص بارمينيدس المشهور والذي يسمى "في الطبيعة" مثل كتاب هيراقليطس، الخطابات "peri phuseos"، عن الطبيعة، هي أجزاء تم تحقيقها وترتيبها من قبل مؤلفي التقاليد اللاحقة والتي يحاول العلماء اللغويون الحديثون إعادة بنائها وترجمتها من جديد. وأغلب هذه الشذرات حفظها لنا المؤرخ سكستوس أمبيريكوس Sextus Empiricus والذي عاش في القرن الثاني الميلادي بين روما وأثينا والإسكندرية، وقد نقل حوالي ثلاثين بيتا من قصيدة بارمينيدس، وكذلك سمبليسيوس Simplicius الذي عاش بين سنة ٤٨٠ و ٥٦٠ م ، أي قرابة عشرة قرون بعد كتابة هذا النص الفلسفي، وقد نقل حوالي ستين بيتا من القصيدة والتي سجلها في تعليقاته على كتاب الطبيعة لأرسطو.
بارمينيدس يبدو، من وجهة نظر الفلسفة الحديثة، كأنه من أوائل الفلاسفة الذين أهتموا بفكرة الكينونة وربط هذا المفهوم بالمعرفة. فالفكر "يكون" في خدمة ومن أجل ما هو كائن. ويميز بين الكينونة التي ندركها بالعقل وهي الكينونة العقلية، وبين الكينونة المحسوسة والتي نصل إليها بواسطة الحواس، وهي مجرد كينونة وهمية ومزيفة ولا تصل "الحقيقة". وأعتبر أن الفلسفة يجب أن تتجاوز المحسوسات، ويبدو في الظاهر كأنه يرفض فكرة الكينونة المتغيرة والحركة الهيراقليطية عموما. ويبني فلسفة الكائن المطلق، الوحيد، الممتلئ حتى الحافة بالكينونة، حيث لامكان لأي شيء آخر، وبذلك يرفض فكرة الفراغ أو الخواء في العالم الذي يسمح بالحركة والتغير. ورفض أيضا فكرة اللاشيئية، أو العدم بإعتباره غير كائن. ذلك أن الكائن حدده بكونه واحد لا يقبل القسمة، متصل، دائم، غير قابل للفساد أو الفناء متجانس ومتماسك، إمتلاء مطلق لا بداية ولا نهاية له.
يقول هايدغر عن هذا النص في مقدمته للميتافيزيقا: "هذه الكلمات القليلة حاضرة هنا منتصبة كتماثيل عتيقة" « ces quelques mots sont là dressés comme des statues archaïques ». أما الفيلولوجية الفرنسية باربارا كاسان Barbara Cassin فتعتبر هذا النص من النصوص الغير قابلة للترجمة Intraduisible، ليس بسبب عدم ترجمته وإنما لأننا لانكف عن ترجمته على مر العصور.
ومنذ البداية، قراءة أرسطو لهذا النص وترجمته له، ثم من بعده الإفلاطونية المحدثة، تتفق هذه القراءات والتفاسير حسب ما يقول بيير أوبينك Pierre Aubenque المتخصص في دراسة أرسطو وتاريخ الميتافيزيقا، على إعتبار بارمينيدس ليس أول فيلسوف للكينونة، وإنما أول من فكر في وحدة الكائن. حيث أن بارمينيدس يرى أن ما هو خارج الكينونة هو بالضرورة لا كائن non-etre واللاكائن هو لاشيء وبالتالي فالكينونة واحدة ولا تتعدد أو تنقسم.
غير أن جون بيرنت John Burnet مترجم هذا النص إلى الإنجليزية يرى أن بارمينيدس لم يتحدث مطلقا عن الكينونة " Parmenides does not say a word about"Being" anywhere" ص ١٣٢ من كتابه عن الفلسفة الإغريقية Burnet, John. Early Greek Philosophy. London: A. and C. Black, 1963
إنه تكلم فقط عن هذا الكائن الواحد الممتليء كينونة بحيث لا يترك أي فراغ أو هامش لأي شيء آخر بجانبه. ولعله من المثيرللإنتباه أن بارمينيدس هو أول من ينفي وبهذه القوة فكرة العدم، رغم أنه لا يسميه بالعدم وإنما باللاشيء أو اللاكائن، رغم أن النفي ذاته للكينونة يتضمن إنزلاق العدم داخل كوكب الكينونة المغلق. فالنفي هو أول شرخ في درع الكينونة الفولاذي والذي يسمح للعدم بأن يصبح مكونا أنطولوجيا للكينونة. فالفكرة الأساسية البارمينيدية " ما هو كائن يكون وما هو لاكائن لا يكون " ليست مجرد توتولوجي tautologie أو تحصيل حاصل وتكرار للمعنى، وإنما فكرة تترتب عليها الكثير من النتائج الشديدة الخطورة في أغلب المجالات النظرية والعملية.
أما جان بولاك Jean Bollack في كتابه "من الكائن إلى العالم - De l étant au monde" فقد أراد في المقام الأول، كما يقول هو نفسه، "نزع الصبغة الهايدغرية - désheideggerianiser" عن بارمينيدس، وذلك بإبعاده عن تفسير يعتبر عنيفًا ومبهما في نفس الوقت. إن الفحص الدقيق لكل مصطلح من النص اليوناني يؤدي إلى نتائج ما تزال تثير المناقشات العنيفة التي لم تستنفذ كل طاقاتها الديالكتيكية بعد. في الواقع، هناك ثلاث مفردات رئيسية تميّز هذه الزيارة الجديدة لبارمنيدس من قِبل جان بولاك. القصيدة، بالنسبة له لا تتحدث بشكل أساسي عن الوجود، بل عن اللغة، مما يستحضر نوعًا من العبور من اللغة العامة المشتركة نحو عالم أكثر دقة وأفضل تشكيلًا. ومن ناحية أخرى، فإن بارمينيدس لا يهدف إلى تأسيس أنطولوجيا، بل إلى تطوير الحكمة العملية وتأسسيس أسس المعرفة اليقينية. أخيرًا، إن بناءه أكثر من مجرد ميتافيزيقا، فهو قبل كل شيء علم كوني cosmologie تحدده بعض الأجزاء الأخيرة من القصيدة. يسلط هذا الكتاب من ناحية أخرى الضوء أيضًا على أهمية التراث الهوميري لدى الشاعر الفيلسوف، الذي يتبنى أسلوب الشعراء ويحوله بطريقته الخاصة من الأسطوري إلى الفلسفي.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة