الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سطر السبئية

فكري آل هير
كاتب وباحث من اليمن

(Fekri Al Heer)

2024 / 2 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يقال أن كلمة واحدة يمكن أن تكشف أسرار التاريخ كله، وهذا ما حصل معي الى حد ما مؤخراً، حينما انتبهت للمرة الأولى للمادة المعجمية (سطر)، وما أدراكم ما (سطر)؟!
**
مادة (س ط ر) من المفردات السبئية القديمة والأصيلة، والتي استعصت على الاندثار وحافظت على وجودها بكل أنفة وكبرياء، واحتلت مكانة مميزة ومهمة في معاجم العربية الحديثة مقترنة بمعان تداولية (استعمالية)، تتفاوت قرباً وبعداً عن المعنى الأصلي الذي وضعت لأجله؛ فما هي المعاني التداولية التي ارتبطت بكلمة (سطر) السبئية؟ وما هي انتقالاتها التاريخية والجغرافية؟ والأهم من ذلك، ما هو معناها الأصلي في اللغة السبئية القديمة؟!
..
هذا هو الموضوع..
[1]
في المعجم السبئي ترد كلمة (سطر، وهسطر) بمعنى (كتب)، و(أسطر أو أسطرن) بمعنى (وثيقة مكتوبة)، ومازالت الهاء البادئة للفعل المضارع مستخدمة لليوم في بعض اللهجات اليمنية والعربية: (هعمل، هدرس، هقرأ..)، و(أسطور) على وزن (افعول)، وهي احدى الصيغ الصرفية السبئية الموازية للصيغة والوزن العربيين (مفعول= مكتوب).
بهذا المعنى انتقلت (سطر) الى بعض اللغات الأخرى في العالم القديم، كاللغة الأكدية واللغة النبطية والعربية المتأخرة، وفي القرآن الكريم وردت ثلاث مشتقات للمادة (سطر): (يسطرون، مسطور، أساطير)، وجميعها تحيل الى معنى الكتابة والتدوين.
..
لكن، ما سيكون صاعقاً هو التالي:
..
ما لا يقوله معظم الباحثين، وما لا يعرفه الكثير من المهتمين، هو أن اللغات والكتابات والنقوش الشرقية الأقدم: المسمارية في بلاد الرافدين والهيروغليفية في مصر، لم يكن فيها كلمة واحدة تحمل معنى الكتابة، ففي الكتابات السومرية أطلقت على الكاتب عدة ألقاب أقدمها اللقب (اومبيساك) (UMBESAG) أو (اوبسك) (UBISAG)، وهو لقب إداري أو ديني لا يوجد اطلاقاً ما يدل على أن له صلة بفعل الكتابة، أو أنه يعني الكتابة حقاً، وهذا ما يؤكده تعدد واختلاف الألقاب التي أطلقت على من يقومون بالكتابة، بقدر ما توجد اشارات تدل على أن المقصود بتلك الألقاب في كثير من الأحيان أولئك الذين كانوا يقومون بوظيفة المحاسبة.
..
في مرحلة لاحقة، ظهر لقب (دب سار) (DUB . SAR)، والذي يؤوله بعض الباحثين بمعنى (الكاتب على الألواح)، وهذا التأويل لا يستند الى أساس لغوي سليم، إلا ظنون من ذهبوا إليه باعترافهم هم بأنفسهم، ناهيك وأن الكلمة نفسها ليست إلا لقب وظيفي، ليس مشتقاً من أصل لغوي دال على الكتابة بحد ذاتها، ومن هذا اللقب تطور اللقب الأكدي (طبشر) (tupsarru) والذي يؤول بمعنى الكاتب، وهو تأويل آخر لن يكون صحيحاً إلا من الناحية المجازية، لأن معجم اللغة الأكدية استورد كلمة (سطر) السبئية والتي تعني الكتابة، الأمر الذي يدل على أن حضارات بلاد الرافدين في عصورها الكتابية الأقدم لم تكن تملك لفظاً لغوياً يدل على الكتابة.
يبدو أننا بحاجة الى إعادة النظر في تاريخ ومعجم اللغة الأكدية وعلاقتها بالسبئية، وأتكلم هنا عن (اللغة) ذاتها واللحظة التي تحولت فيها الى مادة (مسطرة/ مكتوبة)، على أساس أن بداية التاريخ = لحظة اختراع الكتابة.
..
في مصر القديمة كان يطلق على من يقوم بوظيفة الكتابة: (سش) (Sš)، وهذه الكلمة في الحقيقة لا تعني الكتابة اطلاقاً، بل تعني (الرسام)، وهذا طبيعي لأن الكتابة المصرية في أصلها تصويرية وليست كتابية، وهذا ما يفسر حرص علماء الآثار على تسمية الرسوم المصرية القديمة بـ (المناظر)، وامتناعهم في الوقت نفسه عن وصفها بـ (الكتابات).
..
هذا بحد ذاته يضع الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام حول مدى مصداقية النظريات القائمة حول أصل ومنشأ الكتابة، بمعنى أن الحضارات التي عرفت الكتابة ولم تضع لها لفظاً لغوياً يدل عليها، ربما ليست هي التي اخترعت الكتابة، وكما نعلم، فإن (فاقد الشيء لا يعطيه)..!!
[2]
الأمر المفاجئ في هذا الموضوع، هو أن الكتابة ليست هي المعنى الأصلي لكلمة (سطر) السبئية، بل هو معنى تداولي- استعمالي، وإذن، ما هو المعنى الأصلي؟!
في لهجاتنا اليمنية لازلنا حتى اليوم- خاصة في المناطق الوسطى بناءً على ثقتي بالأمر- نقول مثل هذه العبارات:
..
فكري سطر الماء، أنا أسطر الماء، فلانة تسطر الماء، انتظر حتى يتسطر الماء
والمعنى واضح لمن يستخدم هذه العبارات، وهو: تنقية الماء وتصفيته؛ فالمعنى الأصلي لـ (سطر): أي التنقية والتصفية.. نقى وصفى..
لكن، ما علاقة هذا المعنى بالتسطير والسطور المستقيمة والمتوازية..؟!
بما أن مجتمعنا اليمني القديم، هو في الأصل مجتمع زراعي، فالمعنى الأصلي لابد وأن يكون في مجال الزراعة، ولكن ليس كمهنة أو عمل، بل الزراعة كثقافة تنعكس على كل جوانب حياة الفرد، لغة وفكراً ووعياً وسلوكاً وفعلاًـ، وبالتالي، فالفعل (سطر) متعلق بشيء ما كان يقوم به المزارع القديم في حقله، وطالما الأمر متعلق بالماء، فالفعل متعلق بالري والسقي..!!- وهو توزيع الماء على الزرع في خطوط مستقيمة (اتلام)، أو توزيع الماء من السد عبر قنوات مائية مستقيمة ومتوازية.
..
ماذا عن النقاء والصفاء؟
أن تكون سطور الماء بينة ومكشوفة، ونقية بحيث يمكن الشرب منها؛ ولذلك، نسمي الماء المحبوس في (السبَّة) حين يصفو من الكدر بأنه (مسطر)، أي منقى من الشوائب التي ترسبت الى القاع، حتى صار الماء فيها صافياً ونقياً، ويمكن أن يستخدم للشرب.
..
ونقول عن الجرة حين يظهر أثر رطوبة الماء فيها على جدارها الخارجي: بأن الماء قد تسطر فيها، أي تنقى من الشوائب، لأن التراب يجذب التراب إليه، وكذلك جدار الجرة يفعل.. وهذا أمر معروف علمياً، ويسمى بالتنقية الطبيعية، أو الترسيب الطبيعي (الفلتر الطبيعي).
..
[3]
والآن، لنرى الصورة مكتملة..
..
(1). سطور منتظمة ومتوازية يجري فيها الماء ويتنقى ويصفو: (قنوات الري- المعنى الأصلي لـ سطر)، الذي احتفظت به اللهجات اليمنية منذ آلاف السنين.
..
(2). سطور منتظمة ومتوازية يجري فيها الكلام المكتوب بغرض الإبانة والإيضاح: (الكتابة- المعنى التداولي لـ سطر)، والذي صار أصلياً بحكم الاستعمال والقدم..
..
بناءً على ذلك، فإن كل ما اجتمعت به الصفتين (الانتظام في خطوط مستقيمة ومتوازية) يسمى سطور.. ولكونها سطور، فهي بينة واضحة، وتكشف عن أي عوج فيها أو انحراف، وفي القرآن الكريم: (كتاب مبين: الإبانة صفة للكتاب والمكتوب)، والتسطير في كل الأحوال ينبغي أن يكون على قدر كبير من الدقة والإحكام، (القرآن هو الكتاب المسطور: قرءانا عربيا غير ذي عوج).
نلاحظ استعمال القرآن للصيغة السبئية (ذي)، وهو بذلك إنما يرد الصورة الدلالية للعبارة كلها الى نسقها الثقافي والحضاري الأصلي الذي تنتمي إليه، ولو لم يفعل ذلك لما كان مبيناً وغير ذي عوج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس