الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارناب والميتافيزيقا

علي محمد اليوسف
كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة لي اكثر من 22 مؤلفا فلسفيا

(Ali M.alyousif)

2024 / 2 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تمهيد
ولد رودولف كارناب في المانيا 1891 مدينة ونسدروف فوبرتال. وتوفي في 14 ايار من ايلول 1970في كاليفورنيا الولايات المتحدة الامريكية وقد تاثر بكواين وكارل بوبر وجاتلوب فريجة.
فلسفة كارناب
«عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة»، هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة «وحدة العلم».١
والفلسفة التي يبرأ منها «كارناب» هي الميتافيزيقا بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا بحثًا في أشياء لا تقع في مجال الحِسِّ، مثل: «الشيء في ذاته» و«المُطلَق» و«المُثُل الأفلاطونية» و«العِلَّة الأولى للعالم» و«العدم» و«القِيَم الأخلاقية والجمالية» وما إلى ذلك.٢
غير أن «كارناب» إن تبرَّأ من الاشتغال بالفلسفة بهذا المعنى الميتافيزيقي، فلا ضَيْر عنده من قبول كلمة «الفلسفة» على شريطة أن تُفْهَم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية للعبارات اللغوية، «فكل مَن يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبيَّن له أن جميع المشكلات الفلسفية بمعناها الحقيقي إنْ هي إلا تحليلات لتركيبات لغوية»،٣ ولمَّا كانت التركيبات اللغوية التي تُعنَى الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن أن نقول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل القضايا العلمية تحليلًا يُبرِز طريقة تركيبها وصورة بنائها ليتَّضح معناها.
فليست الفلسفة منافسة للعلوم في موضوعات بحثها، بل هي تخدم تلك العلوم بتوضيح قضاياها، ومعنى ذلك أنه إذا كان عمل العلوم هو أن تقول أقوالًا عِدَّة في وصف الأشياء الطبيعية على اختلافها، فعمل الفلسفة هو البحث في منطق تلك الأقوال العلمية لتَجْلِيَة غامضها، فعلم الحيوان — مثلًا — يبحث في الحيوانات نفسها من حيث خصائصها وعلاقاتها بعضها ببعض، وعلاقاتها بما ليس حيوانًا … إلخ، وأما الفلسفة في هذه الحالة فمهمتها تحليل العبارات التي قيلت في الحيوان،٤ ولقد رأى «فنجنشتين» في الفلسفة هذا الرَّأْي نفسه، إذ قال: إن «العمل الفلسفي هو في جوهره توضيحات، فليست مهمة الفلسفة أن تنتج لنا عددًا من القضايا [التي تصف الأشياء] بل مهمتها أن تجعل القضايا واضحة.»٥ وتعليقًا على قول «فينجنشتين» هذا، يقول «كارناب»: «إني أوافق فينجنشتين على أن منطق العلم (أي الفلسفة) ليست له جُمَل خاصة به، إذ ينصبُّ كلامه كله على طريقة تركيب الجمل التي قالها العلم، وإذن فمنطق العلم (= الفلسفة) لا تضيف إلى ميادين العلوم ميدانًا جديدًا.»٦
وهذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم، القائمة على أساس أن العلم قضاياه تصف الظواهر الطبيعية وصفًا مباشرًا، وفلسفة العلم قوامها البحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات لغوية؛ أقول: إن هذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم هي التي أخذ بها الأستاذ «آير» إذ قال في فصل عَقَدَه لشرح فلسفة العلم ما يلي: «الكتاب العلمي يتألَّف في جوهره من عبارات، والكثرة الغالبة من هذه العبارات تتحدث عن أشياء … لكنك يغلب أن تجد فيه كذلك عبارات … [لا تصف أشياء] بل تُفسِّر طريقة استعمال ألفاظ معينة، أو تُعلِّق على العلاقة المنطقية القائمة بين عبارات أخرى واردة في الكتاب، كأن تُقرِّر عبارة ما بأن نظريتَين مختلفتَين متعارضتان أو غير متعارضتَين، أو أن مجموعة من العبارات تأتي لتشهد بصدق مجموعة أخرى، فهذه العبارات التي لا تشير إشارة مباشرة إلى مادة العلم الذي هو موضوع البحث، بل تشير إلى مُدرَكاته [الواردة في الجُمَل التي تصف الأشياء وصفًا مباشرًا]، أو تشير إلى عبارات أخرى يمكن القَوْل عنها بأنها هي فلسفة العلم.»٧
إذن فالمهمة التي تضطلع بها الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين — ومن بينهم «كارناب»- الذي نحدِّثك الآن عنه، هي التحليل؛ تحليل أيَّة عبارة مما يقوله الناس بصفة عامة، وتحليل العبارات العلمية بصفة خاصة، وفي رأيهم ألَّا شأن للفلسفة بالعالم وما فيه من أشياء؛ لأن ذلك من عمل العلماء، كل عالِم في المجال الذي اختص به وتخصَّص فيه، فكما يقول «جون وِزْدَم» في عبارة مختصرة يصف بها الفلسفة اليوم: «لأن تتفلسف معناه أن تُحلِّل.»٨ (كوكل الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التحليل /رودولف كارناب).
الميتافيزيقا واللغة
الميتافيزيقا هي ابسط اشكال الاسطورة الدينية الانتروبولوجية قبل دخول الالهة جوهر الاسطورة التي عاشتها الاقوام البدائية حتى بلغت اوجها عند اليونانيين في كثرة تعدد الالهة. وبقيت الميتافيزيقا ملازمة الفلسفة والافكار الدينية البدائية ومسارات تطورها الى اليوم مما حدا ببعض الفلاسفة المعاصرين القول ان جوهر الفلسفة هو الميتافيزيقا وليس جوهرها لا الوجود ولا الابستمولوجيا والانسان مخلوق ميتافيزيقي قبل ان يكون مخلوقا عاقلا ناطقا. وليس يوجد من فلسفة حتى لو جاءت خارج منطقية تعبير اللغة عن تصوراتها الشيئية والخيالية ولا نقول عن مواضيعها فالميتافيزيقا يحكمها التشتيت الخيالي المتأمل الذي يقفز متجاوزا موضوع الخيال المحدود ادراكه. كون حقيقة الانسان الجوهرية قبل ان يكون حيوانا ناطقا هو انسان ميتافيزيقي بالفطرة الوراثية وليس بالمعرفة المكتسبة كما هو الحال في اكتساب الانسان اللغة من اصوات الطبيعة واصوات الحيوانات مصحوبة بالاشارات..
وفي قول كارناب نجد ( وظلوا فلاسفة الميتافيزيقا يتوهمون ان عباراتهم الميتافيزيقية تمثل قضايا منطقية تقبل البرهنة. في حين انها مجرد تعبيرات عاطفية تكشف عن انفعالات ومشاعر دفينة ولا تنطوي على دلالات ومعان منطقية ) 274
ومن الجدير ذكره ان كارناب احد فلاسفة المنطقية حلقة فينا التي كان يتزعمها شليك. ثم انشق عنها كارناب لينظم الى الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية بتاثير من جاتلوب فريجة وبراتراند رسل وكلاهما ارادا اعتماد تطويع فلسفة اللغة في تمنطق الرياضيات.
الجدير بالذكر ان اللغة التي هي سمة تفكير العقل الجوهرية. جاءت متأخرة على اولوية التفكير الميتافيزيقي الانثروبولوجي عند الاقوام البدائية التي لا تاريخ لها. ميتافيزيقا التفكير عند الانسان كانت قبلية على تعلم الانسان البدائي الاشارات والاصوات اللغوية حاجة حياتية ضروروية له.فالميتافيزيقا التاملية عند الانسان غير اللغوية اقدم من تعبير اللغة كاصوات مصحوبة باشارات غايتها التواصل داخل نوعها.
الميتافيزيقا والمنطق
وفي مجال الاعتراض على رؤية كارناب ان الميتافيزيقا لا تتمتع بمنطق يشير الى معنى محدد بل هي قضايا عاطفية سطحية :
- الميتافيزيقا لا تنطوي على نظريات كما لا تشتمل على قضايا علمية.
- مع هذا فالميتافيزيقا حاجة تعبيرية للانسان تشبه قول الشعر والموسيقى.
- قبل ان تتطور الموسيقى الى لغة منطقية موزعة على نوتة الالحان. كان نيتشة صاغ افكاره الفلسفية شعرا وبذا يكون اعترف ضمنا ان الفلسفة تعبير عن الشعور بالحياة.
- والحق ان الموسيقى اقدر من الفلسفة على التعبير عن الشعور بالحياة. لان لديها وسائط انقى من جهة. ولانها من جهة اخرى متحررة تماما من كل ما هو موضوعي. فهذا الشعور التوافقي بالحياة الذي يريد الميتافيزيقي ان يترجم عنه بمذهبه. ص 247
الميتافيزيقا والاسطورة
بحسب كارناب فقد كانت الميتافيزيقا ولا زالت قريبة من الاساطير العابرة حدود تصنيف الاجناس الادبية من حيث الاختلافات بينها في الصياغة اللغوية الاسلوبية شكلا ومضمونا. عن هذه الاشكالية بين الميتافيزيقا والشعر يقول كارناب ( ان الفرق بين الميتافيزيقي والشاعر ان الاول لا يريد يعترف بان اقواله وليدة الانفعال والعاطفة في حين يرى في الثاني – الشاعر – يسلم بان شعره اداة فنية يعبّر بواسطتها عن الحياة.)
كارناب العقل والفلسفة
يعتبر كارناب الفيلسوف الميتافيزيقي هو فريسة لوهم بالغ (لانه عندما يصوغ عباراته في قالب منطقي محاولا ان يقيمها على اسس برهانية كثيرا ما يتوهم ان اداته هي العقل او التفكير لا الخيال ولا العاطفة.. بينما الواقع ان تاملاته كلها لا تخرج من كونها احلام شاعر ضل سبيله.) 274
في متابعتنا عبارة كارناب نرى تفكير العقل بمواضيعه تنقسم قسمين, الاول تفكيره بالواقع المادي والعالم الطبيعي المدرك من حوله في مرجعية الحواس ومن ثم العقل, والثاني تفكير العقل المثالي الخيالي. وكلا التفكيرين مرجعيتهما الثابتة هو العقل. وليسا منقسمين الى مرجعية العقل تارة, ومرجعية العاطفة تارة اخرى. من حيث بيولوجيا الوظائفية في تعبير اللغة وفي السلوك الذي يلازمها في مصدرهما العقل.
اختلاف المنطق الفلسفي على انه معقلن بالشعور لا يتجاوز اكثر من واحد بالمئة من الشعور, بينما عمد فرويد في نظريته بعلم النفس ان اللاشعور يمثل تسعة بالعشرة من تفكير العقل. هنا تكون مبالغة فرويد في اعطائه اللاشعور مطلق ومركزية الفعالية الانسانية في تعامله مع العالم الذي يتعايش معه لا يجعل من حقيقة اللاشعور خارج توظيفه بعلم النفس مسالة مقبول دحضها. السلوك هو رد فعل الشعور وليس اللاشعور في تعامله مع واقع مادي ماثل ومتعين امامه.
بعبارة مشكوك بصحتها علميا اننا نتعامل مع عالمنا الذي نعيش الحياة به. بلاشعور اي بلا وعي قصدي مهيمن عليه عقليا. اللاشعور في ابسط تجلياته انما هو انفلات الادراك الشعوري الطبيعي في محاولة فهم موجودات العالم الخارجي. فرويد بدل ان يتماهى مع افلاطون ونيتشة وهيدجر وسارتر باننا لا نعيش عالمنا الحقيقي وانما نعيش زيفه. والعالم الحقيقي الذي وصفه افلاطون عالم المثل التي لا يدركها العقل.
السؤال من الذي يحدد لنا الشعور.؟ العقل ام اللغة ام الخيال العاطفي؟
الحقيقة في هذه المقارنة المعيارية تقود الى ان الحواس المادية والعقل هما اول من يحدد لنا الشعور في تجلياته الادراكية والمعرفية وتعبير اللغة عنها. لكن بوسيلة ماذا؟ هل في وسيلة التفكير اللغوي؟ ام في وسيلة العاطفة في التعبير السلوكي.؟
الاجابة حتما تكون هي وسيلة (اللغة) لانها تمتلك العديد من الخصائص العقلية الجوهرية تجعل منها رائدة في تعبيرها عن الشعور. اللاشعور لا يمتلك بنية لغوية يمكنها الافصاح عن السلوك الذي مصدره العاطفة.
فباللغة نعبر عن الشعور المادي مجردا, وباللغة نخترع عوالم خيالية مصدرها النفس والعاطفة.
حين ذهب ديكارت ان العقل جوهر ماهيته التفكير ولما كان جوهر التفكير هو العقل واللغة يكون معنا العقل هو اللغة وعلى حد تعبير سيلارز الوجود هو اللغة. عند ذلك تكون العاطفة ليست تعبيرا خارج ما يدركه العقل.
لماذا ذهب فرويد ومن قبله نيتشة وهيجر ان لا شعورية الشعر- المقصود هنا ان لغة الشعر هي تداعيات وانثيالات لاشعورية تكون اللغة فيها سريالية مفككة- تكون اكثر مصداقية في فهمنا العالم الحقيقي المحجوب ادراكه عنا.؟
اذا نحن اعتبرنا اللاشعور صمت سلوكي وهو كذلك انه ذخيرة العقل في امتلاكه الفاهمة اللغوية. الا عند الحاجة حين يكون سلوكا لغويا متداخلا.
مالدليل المنطقي فلسفيا امكانية البرهنة الى ان اقرب تعبير لغوي تجمعه بالفلسفة هو الشعر؟ تفكيك عدم منطقية الشعر تفقده خاصية اللغوية المتماسكة من صفاتها النحوية والاعرابية وغيرهما التي نستخدمها بحياتنا تداوليا ونفهم العالم من حولنا بواسطتها.

الهوامش : 1-8 موقع كوكل الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التهديم /رودولف كارناب
2. الهوامش الباقية من دراسة في الفلسفة المعاصرة /د. زكريا ابراهيم ص274








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحدود بين العلم والفلسفة
منير كريم ( 2024 / 2 / 5 - 22:51 )
شكرا للاستاذ علي محمد اليوسف
كارناب احد اهم الفلسفة التحليليين في القرن العشرين فقد درس المنطق الرياضي واسسس الفيزياء وفلسفة العلوم وقد انبرى لاخراج الميتافيزياء من الفلسفة ومن العلوم وفروع المعرفة الاخرى
انتهت فكرة ان الفلسفة ام العلوم او علم العلوم او فوق العلوم فقد كانت هذه الفكرة هي فكرة الفلسفات الميتافيزيفية التركيبية الشمولية
الفلسفة المعاصرة وهي تحليلية وضعيةتجريبية تذهب الى ان الحقائق عن العالم الموضوعي تخبرنا عنها العلوم وفق المنهج التجريبي الرياضي اما الفلسفة فلا تخبرنا عن هذه الحقائق
الفلسفةتصبح اداة لتفسير نتائج العلوم ومفاهيم العلوم وقوانين العلوم
فالفلسفة اداة تفسير للعلوم لا اكثر وهي ضرورية بهذا السياق
هذه الفكرة لم تتغلغل بعد في ذهنية النخب المثقفة في المجتمعات المتخلفة على العكس من نخب المجتمعات المتحضرة


2 - اضافة - العلم والفلسفة
منير كريم ( 2024 / 2 / 5 - 23:27 )
اضافة لما سبق
سادت الفلسفات الميتافيزيقية التركيبية الشمولية خلال فترة ماقبل الراسمالية واستمرت في الاطوار الاولى من الراسمالية لنهاية القرن 19ه
الفلسفة التحليلية ازدهرت خلال القرن العشرين مع نشوء فيزياء الكم والهندسة اللااقليدية والمنطق الرياضي الحديث
تتوافق الفلسفة التحليلية المعاصرة مع فكرة الديمقراطية الليبرالية
شكرا

اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم