الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعوى استئناف لإمرأة سومرية أمام محكمة في مدينة أوما

عضيد جواد الخميسي

2024 / 2 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


خلال فترة أور الثالثة في بلاد الرافدين (عام 2047 ـ 1750 قبل الميلاد) ، تم حفظ العديد من سجلات جلسات المحكمة في مدينة أوما ( تل جوخه) الواقعة غرب قضاء الرفاعي التابع لمحافظة ذي قار جنوب العراق . وقد تضمنّت احدى سجلات المحكمة خصومة بين امرأتين . وكان اسم إحداهن مجهولاً ، وقد وُصفت في السجل على أنها زوجة لرجل يدعى "أورـ لوگال" . والمرأة الأخرى كانت تُدعى "جمي ـ سون".
ومن المؤكد ان مثل هكذا قضايا مُثيرة من سجلّات المحاكم قد تمنحنا شعوراً حيّاً عن كيفية عمل النظام القضائي في بلاد الرافدين القديمة .

تفاصيل دعوى"جمي ـ سون"
كانت سجلات المحاكم يُحتفظ بها في المجمّع الأداري لمدينة أوما . إلاّ أنه لا يُعرف بالضبط مكان إنعقاد تلك المحكمة ؛ ومن المحتمل أنها كانت في مكان قريب من أحد المعابد .
لقد قام الكاتب بتدوين وقائع المحكمة في السجّل الخاص ؛ والذي كان عبارة عن لوح طيني (المحفوظ حالياً في المتحف البريطاني) وردت فيه افادات الطرفين والشهود ، ومن ثمّ قرار قاضي المحكمة .
ويشير كاتب المحكمة عند بدء الجلسة الى افادة (المدعية) " جمي ـ سون " بشكواها على زوجة المدعو " أور ـ لوگال" ( المُدّعى عليها) ؛ التي اقترضت منها "اثنتين من الـ مينا " (الـ مينا تعادل 567 غرام من الفضّة) ، ولم تسدد لها ما تبقّى عليها من الدَين .
ولابد لنا من التوضيح ؛ في أن مقدار ميناً الفضّة كان يُعد ثروة طائلة لمالكها ، حتى ولو كان شخصاً ثرياً نسبياً .
فقد كانت المينا الواحدة تساوي تقريباً 51 شيكلاً ، والشيكل يعادل تقريباً 11 غرام من الفضة . كما أن الشيكل الواحد على سبيل المثال لا الحصر؛ يساوي مجموع الأجور التي يتقاضاها عامل يدوي عن خمسة شهور في العمل . لذا فإن المينتين اللتان اقترضتهما زوجة أورـ لوگال ؛ كانتا تساويان 102 شيكل أو بما يعادل مجمل أجر العامل اليدوي لأكثر من 40 سنة !.

من غير الواضح ؛ ما الحاجة التي دعت زوجة أور ـ لوگال الى اقتراض هذا المبلغ الضخم من المال ! .
إذن ؛ لا بد أن المدعية جمي ـ سون كانت امرأة ثرية لتمتلك هذا المبلغ ، ولربما كان لديها أكثر منه بأضعاف ؛ بحيث مكنتها قدرتها المالية العالية على الإقراض! .
كما وُصف "أورـ لوگال" زوج المُدعّى عليها في النصّ المسماري ؛ على أنه من ملّاكي الأراضي الزراعية ، وبالتالي ؛ لم تكن زوجته فقيرة أبداً ! .

من المحتمل جداً أنه كان هناك عقداً قد تمّ إبرامه بين الطرفين في ذلك الوقت الذي أقرضت فيه جمي ـ سون المينتين إلى زوجة أور ـ لوگال . وقد اُستخدمت العقود على نطاق واسع خلال فترة سلالة أور الثالثة . وكانت عملية إبرام العقود تتم لأغراض الأعمال التجارية والمالية والتي تشمل المبيعات أو الإيجار والمشتريات ومنح القروض ، وغيرها . وان العقد المكتوب والمختوم ؛ هو اتفاق مُلزم للطرفين يدوّن في السجلّات الرسمية من أجل ضمان كافة الحقوق .
يتم كتابة العقد من خلال أحد الكتّاب المختصين ، وبحضور شهود من الطرفين ، حيث يُحدَد مقدار الفائدة بنسبة مئوية من قيمة العقد والتي عادة ما تصل إلى نسبة العشرون في المائة 20 % عندما يكون القرض من الفضّة . و يندرج في بعض عقود القروض أيضاً التاريخ المحدد الذي يتعين فيه سداد مبلغ القرض . وبعد الانتهاء من كتابة شروط التعاقد بين الطرفين ؛ يُختم العقد بالأختام الشخصية لكل طرف فيه ، مع الاحتفاظ لكل منهما بنسخة من ذلك العقد .

وبالعودة إلى قاعة المحكمة ؛ كان لدى زوجة أورـ لوگال الإجابة على سؤال قاضي المحكمة عن سداد باقي القرض للمشتكية " جمي ـ سون " . حيث أفادت قائلة: " لقد أغلق القاضي كياج قضيتي" ( بوداني ص 202 ) . فهي كانت تقصد ؛ أن هذه الدعوى قد صدر فيها قرار محكمة وحُسمت لصالحها ، وأنها غير مدينة لـ جمي ـ سون بأي شيء .
يبدو أن الرجل المسمّى " كياج "، القاضي في المحاكمة السابقة ( البداءة) ، كان حاضراً في هذه الجلسة من المحاكمة الجديدة ( الاستئناف) ؛ وهو أحد القضاة الثلاثة المعروفين في مدينة "أوما" بترّأس جلسات المحاكم . لذا فمن المؤكد؛ إن قاضي هذه المحكمة كان يعرفه جيداً . كما تشير مصادر أخرى إلى أن القاضي كياج كان يتبرع بعدد من الأضاحي في جميع المناسبات الدينية ، وفي أحد الأيام أقسم اليمين لشخص ما في منزله ، حيث كان رجلاً بارزاً في مدينة أوما .

واصلت زوجة أورـ لوگال الحديث بالدفاع عن نفسها ، وكانت تدفع ببراءتها من خلال إشارتها إلى رجل قوي ( المفوَّض) قد دعم حجتها على حد قولها :
"كان لوـ سوين المفوّض قد تولّى متابعة قضيتي ، وانتهى منها" ( بوداني، ص 202).

أشرف المفوَّضون (ممثلو الادعاء ) الملقبون بالـ "مشكيم"،على دعاوى المحاكم في فترة أور الثالثة. حيث كانوا يجمعون ماتيسّر لهم من الوثائق والمستندات والأدلّة قبل عقد جلسة المحاكمة ، ومن ثم يوثقون نصوص القرارات الصادرة من المحاكم ، وقد تمّ ذكرهم بشكل متكرر في السجلّات القضائية .

في دعوى المشتكية جمي ـ سون ؛ قرر القاضي التحقق من صحة قرار محكمة البداءة . فقام باستدعاء المفوّض لوـ سوين للتأكد من أن زوجة أورـ لوگال كانت تقول الحقيقة ؛ إلاّ أنه اتضح بأنها قد أخطأت في ذكر اسمه . فقد أبدى لوـ سوين اعتراضه على ما قالته زوجة أورـ لوگال أمام القاضي . ويذكر النّص في اللوح الطيني أن لوـ سوين "صرّح قائلاً :إنها كذّابة "( بوداني،ص 232) !! .

على ما يبدو انها كانت صدمة كبيرة قد شهدتها محكمة الاستئناف ، ولكن الحدث الأكثر إثارة للاهتمام ؛ أن "كياج" قاضي محكمة البداءة قد تدّخل بشكل شخصي في تلك القضية ، حيث طلب من جميع أبناء زوجة أورـ لوگال الخمسة أن يقسموا في أن والدتهم كانت تقول الحقيقة ؛ لكن المفاجأة أن جميعهم قد رفضوا أن يقسموا !! .
لو أن أبناء أورـ لوگال قد وافقوا على القسم ؛ لكان جميعهم مُطالبون بالذهاب إلى المعبد وأداؤه أمام تمثال الإله .

بعد ذلك الموقف الصعب ، قررت زوجة أورـ لوگال التراجع عن أقوالها ، حيث لم يكن مفوّض محكمة البداءة ولا أولادها على استعداد للكذب من أجلها . لذا فقد اعترفت :
" نعم ؛ لقد كذِبت ، وأنّي لازلت مدينة بعشرة شواكل من الفضة لـ جمي ـ سون . " ( بوداني،ص 236) . وليس ذلك فحسب ؛ بل اعترف أحد أبنائها أنه مدين أيضاً لـ جمي ـ سون بخمسة شواكل !!.
ولم يرد في سجلات المحكمة عن أي شيء آخر غير تفاصيل الدعوى بطرفيها جمي ـ سون ، وزوجة أورـ لوگال ، وإفادة الخمسة شهود الذين حضروا جلسة المحاكمة ؛ والقاضي كياج ، والمفوّض لوـ سوين .
وتنتهي مثل تلك الدعاوى بأداء القسم دائماً ، سواء كان قرار الأشخاص المعنيون بأداءه أم لا ؛ لأن قبول القسم (أو رفض القسم) غالبا ما يحدده قرار القاضي . وفي تلك القضية ، كسبت جمي ـ سون الدعوى ، وكان على زوجة أورـ لوگال أن تسدد باقي دَينها .

النظام القضائي في بلاد الرافدين
يعكس هذا النموذج البسيط من الحياة في مدينة " أوما"؛ العديد من جوانب النظام القضائي فيها ، والذي أكدته دعاوى أخرى قد أخذت طريقها إلى المحاكم .
مدينة أوما كانت على عكس معظم مدن بلاد الرافدين الأخرى ، حيث كان قاض واحد ينظر بجميع الدعاوى المُقدمّة في واحدة من محاكمها ؛ بيد أنه في المدن الأخرى ، كانت هناك حاجة إلى فريق كامل من القضاة في الجلسة الواحدة ، وقد يصل عددهم إلى السبعة في بعض الأحيان .
لم يكن أحد في ذلك الوقت قاضياً من حيث المهنة . وشخص مثل كياج ؛ كان يتوّلى دور القاضي من حين لآخر وحسب ماتقتضي الحاجة إليه ؛ وذلك لأنه رجل متعّلم وشخصية مهمة في المدينة ، وينطبق نفس الشيء على القضاة الآخرين . على الرغم من أن لديهم عملهم الخاص بهم ، أو مرتبطين بوظائف حكومية أخرى ليس لها علاقة مع القضاء .

كان القضاة في بلاد الرافدين يهتمون كثيراً بالأدلّة المقدّمة إليهم في المحاكم . في تلك القضية ؛ أراد قاضي الاستئناف التأكد من أن جميع أطراف الدعوى يقولون الحقيقة. لذا فإنه قرر سؤال المفوّض لو- سوين عن حقيقة ما أفادت به زوجة أورـ لوگال أما المحكمة . كما حاول قاضي البداءة (كياج) أيضاً ؛ إقناع أبناء أورـ لوگال بأداء القسم لدعم والدتهم ؛ كي يتمكن من اكتشاف فيما إذا كانت هي صادقة أم لا .
نادراً ما كان يتم الإدلاء بالإفادة تحت القسم في الجلسة الاولى من المحاكمة ، إلا أنه غالباً ما كان يُؤدى في جلسات لاحقة ، وكان يُنظر إليه على أنه وسيلة قانونية فعّالة في تحقيق العدالة عبر تاريخ الشرق الأدنى القديم . وكان أداء القسم ؛ معناه جلب قوة الآلهة إلى الدعوى .
جاء في شريعة "أورـ نمّو " مادة قانونية هذا نصّها :
"إذا تقدّم رجل كشاهد إثبات ، وتراجع عن أداء القسم ، فسوف يدفع تعويضاً للمحكمة بقدرمساوٍ لمبلغ الدعوى المقامة من أجله " (شريعة أورـ نمّو، رقم 38) .
لم يقدم أبناء أورـ لوگال أنفسهم كشهود ؛ إلاّ أن قاضي الاستئناف هو الذي قام باستدعائهم ، وذلك بعد إصرار قاضي البداءة إليهم بأداء القسم عندما كان حاضراً للجلسة . وكان من الحكمة في عدم أداء ذلك القسم .
وعلى ما يبدو ، انهم قد رفضوا القسم ؛ لأن والدتهم كانت غير صادقة ، وكانوا يعلمون جيداً ؛ أنهم لو أقسموا سيكونون قد حنثوا به .

لم يكن الأمر يستحق ذلك فعلاً ؛ لأنه من المؤكد سوف تتم مساءلتهم عن الفضّة المُستحقة في هذه الدعوى؛ إضافة إلى أن هناك شيئاً آخر قد منعهم وأقلقهم بلا شك من الكذب تحت القسم ؛ فهم يؤمنون في أن الآلهة ستعلم إن أقدموا على ذلك !، حينئذ لن تصبر عليهم ولن تتساهل معهم أبداً !. وكان في اعتقادهم أيضاً ؛ أن عقوبة الآلهة سوف تكون أسوأ بكثير من دفع مبلغ الدَين المتبقي ؛ لذا فقد كان رفضهم لأداء القسم وسيلة لإخبار القاضي أن والدتهم كانت غير صادقة في أقوالها ؛ مما ساعده في معرفة الحقيقة واتخاذ القرار المناسب في القضية .
في دعوى جمي ـ سون ضد زوجة أورـ لوگال ، كان قرار القاضي لصالح المرأة الأغنى والأقوى ، إلاّ أن وجود النظام القضائي لم يكن لصالح الأغنياء ؛ فقد دلّت سجلات المحاكم بأن هناك شفافية مدهشة في ذلك النظام ، وكانت هناك رغبة حقيقية في أن تسود العدالة بين الناس .
ولو افترضنا في أن جمي ـ سون كانت هي المدينة بالمبلغ ، فمن المتوقع أنها كانت ستضطر إلى الدفع أيضاً . وهذا الاستنتاج جاء ليس فقط من خلال مطالعة القوانين والشرائع القديمة فحسب ؛ بل أيضاً من خلال ما عُثر عليه من سجلات المحاكم في معظم مدن بلاد الرافدين القديمة .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسندرا كلاينرمان ـ لماذا يجب على شخص أن يعرف شيئاً يقوم بإخفائه ؟: دراسات مسمارية تكريماً لديفيد آي أوين في عيد ميلاده السبعين ـ أيزنبراونس للنشر ـ 2010 .
أماندا بوداني ـ النسّاجون والكتّاب والملوك: تاريخ جديد للشرق الأدنى القديم ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2022 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح