الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة بارمينيدس

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 2 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٦٢ - بداية رحلة بارمينيدس

قصيدة بارمينيدس، رغم كونها نصا شعريا فإنها في تركيبها الشكلي تشبه مسرحية قصيرة من فصلين. تبدأ بمقدمة طويلة نسبيا، ثم الفصل الأول بعنوان "طريق الحقيقة"، ثم الفصل الثاني "طريق الظن" أو الإتياب. وبطل المسرحية هو بارمينيدس نفسه كشاب متعطش للحقيقة ويبحث عن طريق جديد لتفسير الأشياء والعالم غير الطرق المعهودة التي تعود الناس على إرتيادها أوتوماتيكيا دون الحاجة إلى خارطة أو دليل. بارمينيدس هو الذي يفتتح المسرحية في المقدمة مع شخصيات الفتيات التي تقود العربة التي تحمله في مغامرته الفريدة للقاء الإلهة.. ثم هناك الإلهة المقدسة، والتي تصبح الشخصية الأساسية للمسرحية مع بداية الفصل الأول مع عدة شخصيات أخرى تتدخل في مجرى الأحداث، مثل ثيميس-القانون، ديكي-العدالة، بيثو- الإقناع واللوغوس أو الخطاب العقلي. وهذه الشخصيات الأسطورية المختلفة التابعة للبناء الفكري - الخيالي المكون للثقافة اليونانية، حيث لكل منها دور محدد في هذا البناء، ومعنى محددا في عقلية الإنسان اليوناني المعاصر لبارمينيدس، وإستحضار هذه الشخصيات - الرموز في النص، ليس مجرد ترف فني أو جمالي وإنما ضرورة فكرية بالدرجة الأولى.
بارمينس هو الذي يبدأ في سرد الأحداث التي تكون هذه المغامرة وهذه الرحلة بحثا عن "حقيقة الكينونة"، أو "كينونة الحقيقية"، تقله أفراس مسرعة تجر عربة تقودها عدة فتيات جميلة نحو الطريق، طريق الآلهة الذي يشتاق له قلبه. العربة المسرعة تنهب الأرض ويتطاير الشرر من عجلاتها التي تكاد تحترق مصدرة صريرا مدويا ناتجا عن سرعة وشدة الإحتكاك بين الأجزاء الحديدية للعجلات ومحورها المتوهج. ويصل في نهاية الأمر إلى بوابة ضخمة تحرسها ديكي الصارمة صاحبة مفاتيح البوابة، إلهة القانون. وتتوقف الخيول والعربة أمام العتبة الحجرية للبوابة المهيبة، وهنا تتدخل الفتيات الجميلات كوسيط لإقناع ديكي بفتح مصاريع البوابة لتدخل العربة وراكبها إلى هذا العالم الجديد، وذلك بصوت جميل وكلام معسول بمساعدة بيثو إلهة الإقناع. وتبدو هذه العتبة الحجرية التي توقفت عندها الخيول كأنها الفاصل الرمزي أو علامة الحد الذي يجب أن يجتازه الفيلسوف أو المفكر ليواصل عملية التساؤل والتحقق من أمور الأشياء والعالم، فهي لا تمثل جدارا أو سدا يفصل بين عالمين، بل جسرا يجب عبوره من عالم الدوكسا والمفاهيم والأفكار الموروثة من عادات وتقاليد وديانات وأساطير، إلى عالم الفلسفة والمعرفة اليقينية.
وكان من الطبيعي أن يخضع قراء هذا النص لإغراء التفسيرات الرمزية ومحاولة إيجاد الدلالات التي يمكن أن توحي بها أجزاء ومقاطع القصيدة، وهذا ما قام به سيكستوس أمبيريكوس، حيث فسر الأفراس المسرعة التي تقود العربة بأنها تمثل "الدوافع اللاعقلية للروح"، الفتيات الجميلات التي تقود الخيول والعربة فيمثلن "الحواس" حيث العاطفة والحماس، وربما تهور الشباب هو الذي دفع الشاعر والفيلسوف لخوض هذه المغامرة وتبني هذه الرحلة متخذا هذه الطريق الخطرة والمهجورة البعيدة عن طرق البشر المأهولة والآمنة. هذه الطريق المقفرة هي طريق الآلهة، طريق الإنسان الذي "يعرف" والذي يريد أن يعرف. غير أن معرفة بارمينيدس تبدو هنا معرفة سلبية، فهو يعرف عدم حقيقة الدوكسا، وأن كل المعارف المعتادة والمتفق عليها هي بعيدة كل البعد عن الحقيقة وأنها مجرد وهم مضلل، ويعرف أيضا بأنه تخلص من كل هذه الأوهام من العادات والتقاليد الموروثة قبل أن يبدأ هذه الرحلة، وفي نفس الوقت يعرف أن معرفته تتوقف عند هذه العتبة الحجرية أمام هذه البوابة، حيث تتوقف رحلته هنا، يقف وحيدا يعرف أنه لايعرف، ويعرف أنه لكي يعرف الحقيقة عليه أن يجتاز هذه العتبة ويجتاز البوابة التي مازالت مغلقة والتي تحرسها ديكي بمفاتيحها الحديدية، وأنه بعد البوابة هناك طريقين، تحرسهما أيضا ديكي، طريق النور وطريق الظلمة، طريق الليل وطريق النهار.
يقدم بارمنيدس فكرتين جديدتين ستظلان لمدة طويلة بمثابة ركائز وأسس للفلسفة: اليقين الذي بموجبه، إذا كان هناك كائن ὄντα فذلك لأنه يوجد "يكون - εἶναι"؛ والحاجة إلى اتباع "طريقة أومنهج - μυθος - muthos" للوصول إلى المعرفة. فكرة المسار أو المنهج أساسية عند بارمنيدس، أكدها بسبع كلمات مترادفة، تظهر 21 مرة في الأجزاء المتبقية من قصيدته. لكن هذا الطريق الصعب يفترض مسافرًا ذا إرادة ودليلًا يعرف الطريق وهدفًا يجب تحقيقه. وفقًا للمخطط الثنائي الخاص بفكره، هناك بالنسبة لبارمنيدس طريق "جيد أو صحيح" يسلكه فيلسوف مستقبلي، يسترشد بالهيلياديس les Héliades-Ἡλιάδες أو بنات الشمس وبالإلهة، وهدفه هو الحقيقة. وطريق "سيئ أو خاطيء" يسلكه البشر الذين لا يعرفون شيئًا، يهتدي بفكر مشوش غائم ويتقدم بعشوائية دون اتجاه محدد في عالم يلفه الضباب والعتمة.
ويرى هايدجر أن بارمنيدس يقدم ثلاثة مسارات للفكر:
طريق الكينونة وهو الطريق الضروري الذي يجب على الفكر أن يسلكه.
طريق اللاكينونة، وهو طريق مغلق غير سالك ولا يؤدي إلى أي مكان.
ثم طريق الظهور أو ما يظهر، وهو الطريق الشائع، طريق الرأي العام أو الدوكسا. وهذا، كما يقول بارمينيدس، هو الطريق الذي يُمارس دائمًا، الطريق السهل الذي تتبعه غالبية البشر، وهو طريق يمكن تجنبه من قِبل من يريد أن يصل إلى عالم الفكر والحكمة. أما المفكر لامبروز كولوباريتسيس Lambros Couloubaritsis في كتابه "الأسطورة والفلسفة عند بارمينيدس - Mythe et philosophie chez Parménide" بدورة يرى أنه هناك العديد من الطرق مذكورة في هذا النص وليس فقط طريقين، ففي البداية هناك الطريق odos الذي أخذته الخيول المسرعة بالعربة متجهة نحو بيت الإلهة، وهناك الـ patos وهو طريق البشر الفانون، وبعد إجتياز البوابة التي تحرسها ديكي إلهة القانون هناك الـ keleuthoi أي طريق الليل والنهار، وهناك العديد من المسالك والدروب والسبل التي يمكن أن تقود إلى طريق المعرفة التي تقود إلى الهدف النهائي وهو الحقيقة αλήθεια. ويبدو أن الإلهة المقدسة التي أستقبلت بارمينيدس هي التي تمتلك مفاتيح هذه المعرفة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية