الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجابري والعروي: سؤال القطيعة بين التراث والحداثة

عدنان زقوري

2024 / 2 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


احتل سؤال التراث والحداثة حيِّزا كبيرا في المشروع الفِكري المغربي، بل يُمكن القول – بلا مبالغة – إنه القَضية الابستمولوجية التي انبنى عليها التفكير المغربي الحديث.
حدثان تاريخيان، شكلا المُنطلق الأساس نَحو طَرح مسألة تحديث المجتمع العربي – عموما – الاحتلال الغربي، ثم نكسة 67. إن هذين الحدثين خلفا لدى المُجتمع العربي ما عُرف بصَدمة الحداثة، أو الردة الفِكرية العربية. لتُطرح عديدة التساؤلات ولعل أبرزها؛ موقعُ العرب من التحولات العالمية الجديدة التي أصبح عليها العالمُ الغربي – خصوصا - فانصب بذلك الاهتمام نَحو مساءلة التُّراث ونقده.
نقْدٌ سيتوج في الساحة الفكرية المغربية، ببروز اتجاهين فِكريين؛ أحدهُما يُنادي بالقطيعة مع التُّراث، لعدم جدواه في مسألة التحديث (العروي)، واتجاه آخر يدعو العَودةَ إلى التُّراث ومساءلته، بأدوات معرفية جديدة، تحررنا من الرواسب التراثية في عملية فهمنا للتراث (الجابري).
عَلى أن هذا الاختلاف لا يحجُب بتاتا أوجه الاتفاق؛ إذ إن المشروعين كانا يرومان تحقيق نهضة تنويرية، ومشروعا عقلانيا، هدفهُ نقلُ العقل العربي من حالة الركود إلى حالة التقدم وملازمة التغيرات الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية كونُ هذه المجالات تُشكل بنية واحدة في عملية التحديث.
إننا أمام رصد معرفي يرومُ دعْم المشروع السياسي والثقافي بالمغرب، مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي في سياق مجتمع مُسلم.
الجابري وحداثة التراث:
انصب مشروع الجابري نَحو مُحاولة إعادة النظر في "الذات العربية، وبنائها" بصفة عَامة، وفق أسس جديدة تجد مُرتكزاتها في بَعض نقاط الماضي، لكن، وفق آليات ابستمولوجيىة يكون من خلالها التحديث والتأصيل وجهان لعُملة واحدة.
بداية، يُظهرُ لنا الجابري مَوقفه من ذاك (العَداء الفكري) نَحو التُّراث، الذي مَثله ثلة من المُفكرين بعد نكسة 67، قائلا في كتابه التراث والحداثة: " نسمع من حين لآخر أصواتا تضعُ، بصورة أو بأخرى، "الاشتغال بالتراث" موضع السؤال: لماذا كل هذا الاهتمام بالتراث؟ ألا يتعلق الأمر بردة فكرية؟ بل هناك من يذهب حد القول إن الأمر يتعلق بظاهرة مرضية، ب "عصاب جماعي" أصاب المثقفين العرب بعد نكسة 1967 فارتدوا ناكصين إلى الوراء، إلى التراث. والذين يقولون هذا يشتكون من أن الاهتمام بالتراث وقضاياه يصرف عن الاهتمام بالحداثة ومتطلباتها. إنهم يرون أو يتخيلون أن التراث العربي الإسلامي هو، ككل تراث، مجرد بضاعة تنتمي إلى الماضي ويجب أن تبقى في الماضي".
من هذه الزاوية؛ يشير الجابري إلى نقطة أساسية وهي أن تاريخنا العربي لم يمت بعد؛ ذلك أننا لم نتمكن بعدُ من فهمه، لأنه يحتوي على مقومات تجعلُ مِنه أساسا للبناء الحداثي.
إن عملية الانتقاد لا تتم إلا بعد الدخول في حوار معه.
إذا كان الجابري، رافضا للقطيعة الابتسمولوجية بين التراث والحداثة، فكيف يمكن – وفق الجابري – تحقيق نهضة عقلانية عربية من خلال التوفيق بين التراث والحداثة؟
إن رَفض الجابري للقطيعة، نابعٌ بداية من فهمه للتُّراث أو – بشكل أدق – تعريفه للتراث؛ بحيث إنه يعتبره جزءا منا، حاضرا فينا، يشكل كينونة الإنسان، بذلك فإن الانشغال به، نوع من الانشغال مشروع تماما. لكن، كيف يُمكن قراءة التراث – حسب الجابري - ؟
إن القراءة التي طرحها الجابري تنزع نحوَ التعامل النقدي العقلاني في فهم التراث.
قراءة يرى الجابري أنها تحقق أكبر قدر من الموضوعية والمعقولية في النظر للتُّراث؛ ويقصدُ الجابرِي بهذين المصطلحين: " أننا نعني ب "الموضوعية" جعل التراث معاصرا لنفسه، الشيء الذي يقتضي فصله عنا. وبمالقابل نعني ب الموضوعية" جعل التراث معاصرا لنا أي إعادة وصله بنا... معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية النظرية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، الشيء الذي يتطلب معالجته في محيطه الخاص، المعرفي والاجتماعي والتاريخي، وهذه هو معنى الموضوعية، وفي الوقت نفسه جعله معاصرا لنا بنقله إلينا ليكون موضوعا قابلا لأن نمارس فيه وبواسطته عقلانية تنتمي إلى عصرنا، وهذا هو معنى المعقولية".
لقد نادى الجابري أيضا بمفهوم القطيعة، لا كما هو مُتداول، إنما القطيعة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي المعاصر.
وضمن هذا السياق، انتقد مَجموعة من الخِطابات التي حَاولت مُقاربة أو قراءة التُّراث، بأدوات منهجية، يرى الكاتب أنها تُعبر عن أزمة العقل العربي، نتيجة بُعدها عن الاستقلالية نتيجة استخدامها الخاطئ للقياس.
هو ما يؤكدهُ الجابري في مؤلفه نحنُ والتراث قائلا: "الفكر العربي الحديث المعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة تراثية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه "الحلول" الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل... إنه النشاط الذهني الآلي الذي يبحث عن الحلول الجاهزة لكل المشاكل المستجدة في "أصل ما".
إذا بأي منهج يجب مُقاربة التراث وقراءته؟
يطرحُ الجابري في كتابه "التُّراث والحداثة" آليات التَّعامُل مع التُّراث وقراءته.
يذهبُ إلى أن تعامُل المفكر العربي مع التراث يتجلى في مُشكلتين متلازمتين: الأولى موضوعية؛ كيفية فصل الذات عَن الموضوع في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، والثانية مشكلة الاستمرارية؛ أن التُّراث مازال مستمرا وممتدا في ثقافتنا المعاصرة.
ولتحقيق الحد الأدنى من الموضوعية، كانت قراءة الجابري ثلاثية الأبعاد مَنهجيا، بحيثُ استندت على ثلاث خطوات منهجية:
الخطوة الأولى قوامُها المُعالجة البنيوية؛ إنه تحرر النّص من كل مؤثراته الخارجية، والتعامُل معه كما هو معطى لنا، إن القاعدة الأساس في هذه الخثطوة، تجنب قراءة المعنى قبل قراءة اللفظ، استخلاصُ معنى النص من ذات النص نفسه؛ أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه.
الخطوة الثانية، تتركز حول التحليل التارِيخي. هُنا تتدخل العَوامل الخارجية في القراءة،
ذلك عن طريق ربط فكر صاحب النص، بمجاله التاريخي، وأبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية.
إن هذه الخطوة حسب الجابري ضروري من ناحيتين، ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس، وضروري كذلك لاختبار صحة النموذج البنيوي.
الخطوة الثالثة: وهي الطرح الإيديولوجي: قوامُه الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية، الاجتماعية والسياسية التي أداها الفكر المعني، ما يمكن النص التراثي من جعله معاصرا لنفسه، عن طريق إعادة التاريخية له.
فِيما يَخص الاستمرارية، يُعلق الجابري على هذه المسألة في كتابه "التراث والحداثة" قائلا: " لماذا الاستمرارية؟
أولا لأن الأمر يتعلق بتراث هو تراثنا نحن، فهو جزء منا "أخرجناه" عن ذواتنا لا لنلقي به هناك بعيدا عنا، لا لنتفرج فيه تفرج الانتروبولوجي في منشآته... بل فصلناه عنا من أجل أن نعيده إلينا في صورة جديدة، وبعلاقات جديدة، من أجل نجعله معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، وأيضا على صعيد التوظيف الفكري والايديولوجي".
هذه رؤية الجابري في التوفيق بين التراث والحداثة، رؤية تُحاول أن ترتقي بمستوى التراث نحو لحظة مُعاصرة، مواكبة للعصر. مستندا في ذلك على آخر المستجدات في الفكر الغربي.
العروي: لا مُهادنة مع التراث:
يُعد عبد الله العروي أبرزَ المُفكرين الذين أسهموا في إغناء الحياة الفِكرية العربية، والسجال الإيديولوجي الذي طبعها منذُ ستينيات القرن الماضي.
يُعبر العروي في مُختلف إنتاجاته الفكري عن وعي شامل بالتُّراث الإسلامي، وعن استيعاب دقيق للأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية.
العَروي لم يَكْتفِ إلى تبرير القطيعة مع التُّراث، بل طرح بديله التحديثي، ما يعني أن الرجل تجاوز مرحلة الهدمِ إلى البناء.
لَعل العَروي يُعد أول مُفكر عربي طرح مفهوم القطيعة الابستمولوجية مَع التُّراث. لا مجالُ عنده للتحديثِ في ظل استمرارية تاريخية تنزعُ نحو التجديد أو الإصلاح.
يؤكد العروي على أن عدم الاعتراف بهذه القطيعة أدى إلى تناقضات في العقل العربي، التي أعاقت إرادة التحديث. إن الاختيار الذي أمامنا – حسب العروي – هو أن نتكلم بلغة العقل والمصلحة والقوة، لا أن نبقى أوفياء للأخلاق العتيقة، لا سبيل إلى التوفيق بين الماضي والحاضر.
عوائق التحديث عند العروي:
يطرحُ العروي في مُحتلف مؤلفاته العوائقَ التي أدَّت إلى عدم تحول المجتمعات العَربية إلى الحداثة.
يرتبطُ العائق الأول عِنده بأصالة تفكير النخب؛ تعلُّقها بأساليب فكرية لم تُعد مُسارية ولا قادرة على فهم الواقع ومُنجزات الحداثة. رفضُها لكل ما هو حديث.
في حين يربطُ العائق التاني ببعض النُّخب التي نادت بتجاوز الحداثة الغربية؛ كونها تجاوزت ذاتها إلى ما بعد الحداثة؛ ما يؤدي إلى فكرة عدم ضرورتها تاريخيا.
بيد أن العَروي يُفنذ هذا الطرح، حيث يرى أنه لا يمكن القفز فوق التاريخ ومرحلة الحداثة. في هذا السياق يقول في كتابه "الحداثة وأسئلة التاريخ": " أنه لا يمكننا أن نسير ضد الحداثة فتلك مخاطرة كبيرة... معارضة الحداثة من أكبر العوائق وفعل غبي نابع عن جهل".
العائق الثالث: سياسي، اجتماعي؛ قوامُه الاستبداد (العائلة، القرية، القبيلة...)، كل ما هو ضد الحريات المدنية والسياسية، يقول في كتابه "العرب والفكر التاريخي": "إن الديمقراطية الحديثة مبنية على منطق الإنسان الاجتماعي الذي يحاور ويناقش، ويصوت في شؤون الجماعة مقيدا فقط ببنود الميثاق الاجتماعي".
يجب – حسب العروي – مقاومة كل ما يُفرمل العقلانية العلمية، بفعل سيطرة الغيبيات والأسطورة في حياتنا، مع تجاوز فكرة الخلاقة، لأنها لا تحتكم لمنطق المجتمع، بل لمنطق الجماعة. يجب التحول من الحق الإلهي إلى الحق المدني، من القانون الديني إلى قانون العقل والعقد الاجتماعي.
لا تاريخية أشكال الوعي العربي، عائقُ آخر أمام التحديث، يرتبطُ عنده ب لا تاريخية علاقة أشكال الوعي العربي بالوعي الغربي؛ والمقصود ها هُنا أن المجتمعات العربية تُواجه غربا تجاوز أشكال الوعي الأصلي التي مثلها جون لوك ومونتسكيو وغيرهم من فلاسفة الأنوار، أن الغرب لم يعد يقدم نفسه للآخر (العرب) من خلال الأنوار؛ لأن الوعي العربي لم يتعرف على فكر الغرب سوى عن طريق الاختزال والانتقاء والهوامش والاستشراق.
متنُ العروي يدور حول مفهوم واحد "الحداثة" لا باعتبارها مفهوما مجردا، بل هو جماع منظومة فكرية تجسدت موضوعيا في المجتمع الأوروبي الحديث لا قبله ولا في غيره من التجارب، بذلك فإن الثقافة الكلاسيكية، لا يمكن البتة في نظره أن تسعفنا في بناء حداثة خصوصية. فما نعتبره نزعة عقلانية في التراث بعيد عن العقلانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي