الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر23

عبدالرحيم قروي

2024 / 2 / 14
الارشيف الماركسي


أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة الثالثة والعشرون

المَارْكسِيَّة وَالدّين
يتيح لنا كل ما رأيناه حتى الآن أن نقدر ضعف الصورة الذائعة للنزعة المثالية الموضوعية ألا وهو الدين.
نعرف مثلا أن الدين المسيحي يتطلب تدخل أله خلاق لتفسير العالم. ونرى الآن علام يقوم هذا الطلب:
أ) تعتقد النزعة المثالية أن المادة سلبية جامدة: لهذا وجب أن تتلقى حركتها عن الروح.
ب) تعتقد النزعة المثالية أن المادة لا تملك بنفسها أية ضرورة طبيعية أو أية وحدة. ولهذا وجب أن يقوم روح آخر بالمحافظة على قوانين المادة.
ت) تعتقد النزعة المثالية أن المادة لا تمر بتطور تاريخي في نموها: للعالم إذن بداية كما ستكون له نهاية، ولهذا وجب أن يكون قد خلق على يد كائن أبدي.
أما النزعة المادية فأن نظرتها إلى المادة ونموها الداخلي الضروري يؤدي بها إلى النظرية القائلة بخلود الكون ولا نهائيته في تحوله المستمر، والقول بأن المادة لا تفنى وليست مخلوقة.
ولهذا طالب ديدرو بأن لا يُفسر العالم حتى لا يصعب فهم خلود المادة عن طريق خلود آخر أصعب من الأول.
ولقد زعزعت الاكتشافات العلمية، منذ عهد ديدرو، مكانة القائلين بالخلق. كما وضع الفيلسوف الألماني "كانت"، منذ القرن السابع عشر، فرضيته المشهورة حول تطور النظام الشمسي، ثم دلل عليها فيما بعد لابلاس الفرنسي بصورة علمية ورد على نابوليون، الذي كان يشكو من أنه لا يرى الله. بهدوء قائلا:
"سيدي! لست بحاجة إلى هذه الفرضية". كما أن اكتشاف ليل (Lyele) الإنجليزي في ميدان تطور الأرض، ولامارك الفرنسي، ولا سيما دارون في ميدان تطور الأنواع الحية، قد أدت إلى قيام نظرية التطور العامة، وخلقت وراءها النزعة المادية القديمة التي كانت تفتقر إلى هذه النظرية التاريخية عن الكون. وكان ذلك هو النقص الثاني فيها الدال على ضيقها المحتم .
وأخيراً امتدت هذه النظرية التاريخية بفضل اكتشافات ماركس وانجلز في ميدان العلوم الاجتماعية الى جميع ظواهر الحياة الاجتماعية وقضت على النقص الثالث في النزعة المادية القديمة التي لم تكن تعتبر المجتمع الإنساني كتطور تاريخي طبيعي.
ولقد كتب لينين يقول: "أن نظرية الفيلسوف القديم هيرقليط المادية ـ الذي كان يرى أن العالم واحد لم يخلقه آله أو إنسان، كان وسوف يظل شعلة خالدة حية تتوهج وتنطفىء حسب قوانين معينة ـ أنما هي عرض رائع لمبادىء النزعة المادية الجدلية .
ولقد غير ظهور النزعة المادية الجدلية النقد الديني والفقهي، اذ كان الفلاسفة العقليون فيما مضى ينتقدون الإله المسيحي فيوضحون التناقضات العديدة التي تؤدي إليها تلك الفكرة.
إذا كيف يمكن لروح صرف أن يولِّد المادة؟ وكيف يمكن لكائن لا يخضع للزمن وللصيرورة والتغير، بل يظل سرمدياً في خلوده الأبدي، أن يخلق العالم في لحظة معينة من الزمن؟ وكيف أمكن لكائن "خير" أن يخلق الحيوانات المضرة والهزات الأرضية والأمراض التي يرمز إليها الفرسان الثلاثة السود في النبوءة.
هل كان بامكان الله القوي الجبار أن يجعل مجموع اثنين مع اثنين خمسة، وأن يمسي الصحيح خطأ؟ وإذا لم يستطع ذلك فهل هو قوي جبار؟ وإذا كان كاملاً فهل يستطع معاقبة الظلم؟ وإذا كان خيراً فهل يمكنه أن لا يكون رؤوفاً ومن ثم ظالماً؟ الخ...
أظهر النقد العقلي بحق جميع المستحيلات التي تحتوي عليها فكرة "الله" وجميع التناقضات التي تكشف عنها، تلك التي يعترف بها علم الكلام ويستعين من أجلها بفكرة "السر" الإلهي الذي لا يمكن للخليقة أن تسبر غوره، كما يستعين بفكرة الشيطان لوضع فكرة الخطيئة الأصلية المزعومة.
أخذ الفلاسفة المثاليون العقليون إذن على أنفسهم أن يعيدوا النظر في فكرة الإله المسيحي فجاءوا بأفكار يستحيل كل منها أكثر من الأخرى وإذا بها تثير صعوبات جديدة كلما خيل إلينا أن الصعوبات السابقة الذكر قد زالت.
أما الماديون السابقون على الماركسيين فقد اصطدموا أيضا بجميع الصعوبات التي اشرنا إليها سابقا: كتفسير الحياة والفكر وتفسير ضرورة العالم وما في الطبيعة والظواهر الاجتماعية، من تناقض، وما عادت به من آلام على الإنسانية كالمرض والموت والجوع والحرب.
ولقد أثارت النزعة المادية الجدلية هذه الصعوبات وفقدت فكرة "الله" كل محتواها: ولم يعد النقاش حول وجود الله أو عدم وجوده، ذلك النقاش الذي أثارته النزعة الإلحادية الساذجة غير الماركسية، يثار كما أشير سابقاً. لقد أصبح الله، كما قال لابلاس، فرضية لا نفع فيها. وحل محل مشكلة وجود الله مشكلة وجود فكرة الله في رؤوس الناس. هاتان مشكلتان لا تميز النزعة المثالية الموضوعية بينهما.
ولا شك في أن فكرة الله والعواطف الدينية والديانة موجودة، وهي تتطلب تفسيراً: وبدلا من القول بأن الإنسان كائن "الهي" يجمع في ذاته العنصر الطبيعي والعنصر الإلهي، كما يجمع عنصر الموت والخلود في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، يجب القول بأن "الله" و"الديانة" هما ظاهرتان إنسانيتان لأن العنصر الإلهي هو من إبداع الإنسان وليس الإنسان هو من إبداع الله.
ولقد قال فولتير في حديثه عن الأديان بأنه "إذا كان الله قد خلق الإنسان فأن الإنسان قد رد له هذا الجميل". ولقد بدأ المادي الألماني فورباخ بنقد الظاهرة الدينية من زاوية جديدة، ثم جاءت النزعة الماركسية بالعناصر النهائية لتفسير الدين وهاك مبادىء هذا التفسير:
1) أن الصور البدائية للديانة، وكذلك المراسيم السحرية والتفسيرالمثالي البدائي للظواهر الطبيعية والاجتماعية، وكذلك أسمى صور الديانة التي تقوم على نظريات فلسفية وأخلاقية ومراسيم سحرية "روحانية" كالصلاة والاضحيات التصوفية تعبر جميعاً عن معطى معين حقيقي عن الفعل الإنساني الا وهو عجزه النسبي الكبير في مطلع الإنسانية، وهو عجز أمام الطبيعة، ذلك العجز الذي يتعلق بنمو الإنتاج الضعيف . وهو أيضاً عجز أمام الظواهر الاجتماعية الذي يتعلق بالاضطهاد الطبقي وفقدان الأمل وضعف الوعي الاجتماعي.
يعرف كل واحد منا أن على المراسيم الدينية أن تضمن النجاح والفوز "في الأعمال" والانتصار على العدو، وأن تعود بالسعادة الأبدية، الخ.. وهكذا تبدو الديانة كأنها وسيلة يستخدمها الإنسان لبلوغ أهدافه، وهي مراسيم تتعلق بجهل أسباب شفائه وسعيه نحو السعادة.
ولكن إذا كانت الديانة تعكس لنا معطيات الحياة العملية فأنها تصور هذه المعطيات معكوسة. وهي لا تعكسها حسب المعطيات الموضوعية بل حسب المعطيات الذاتية. فهي تعكس لنا رؤى الأحلام ورغبات الإنسان الذي وقع فريسة للجهل. فيصبح "الله" المنقذ الأسمى، وأكمل الكمالات. ولا تعبر التناقضات التي وجدناها في فكرة "الله" الا عن التناقضات الداخلية في أفكار "الكمال المطلق" و "المعرفة المطلقة" و "السعادة المطلقة" التي يصنعها الإنسان لنفسه. وهي أفكار خيالية ميتافيزيقية يعكس فيها تناقضات العالم الواقعي والرغبات الخيالية التي تصورها في جهله.
وتختصر فكرة الله جميع التناقضات التي تصبح ميتافيزيقية مطلقة لا يمكن حلها.
فالديانة إذن هي نقيض العلم المادي الجدلي الذي يعكس لنا تناقضات الواقع باخلاص وبدون أية زيادات غريبة خيالية كما قال انجلز:
"تكمن أصول الديانة في النظريات المحدودة الجاهلة التي تنشأ في حالة الهمجية ".
2) يجب مع ذلك أن نقدر أهمية عامل آخر في دراستنا للدين، ذلك لأن الديانة لما كانت تتولد من الجهل فأنها تحل محل التفسيرات العلمية تفسيرات خيالية فتعمل بذلك على ستر الواقع وإسدال الستار على التفسير الموضوعي للظواهر، ولهذا كان الرجل المتدين مناوئاً لمبادىء العلم التي هي عمل الشيطان لأنه حريص على أوهامه. وتستخدم الطبقات المستغلة هذه الخاصية لاهتمامها بإخفاء استغلالها عن أعين الطبقات الكادحة كما أشرنا إلى ذلك في الدرس السابق. فهي بحاجة إلى سلبية هذه الطبقات وجمودها كي يستمر اضطهادها، كما أنها بحاجة لخضوعها وايمانها بالقضاء المحتوم. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يجب توجيه أمل الجماهير بالسعادة نحو العالم الآخر. وهكذا يعرض الأمل والعزاء بدخول الجنة على أنهما تعويض عما بذلته الطبقات الشعبية من تضحيات على الأرض. فيتحول الاعتقاد بخلود النفس، الذي كان ينظر إليه في القدم على أنه مصيبة مرهقة، إلى أمل بالخلاص في الآخرة.
استخدمت الديانة، إذن، منذ أقدم العصور كقوة فكرية "للمحافظة على النظام" وكأفيون للشعب حسب قول ماركس بالرغم من أن الطبقات الحاكمة المستنيرة لم تعد تعتقد بأية كلمة من النظريات التي كانت تعمل على استمرار تاثيرها في الطبقات الشعبية.
فكان الكهان في مصر القديمة "يختلقون" المعجزات بتحريك تماثيل الآلهة، كما كان الرومان يؤكدون أن هناك "فألين لا يمكن النظر إليهما بدون الضحك" كما كان شيشرون يقول بأن الديانة مفيدة للنساء والعبيد. وكذلك استخدام الرجعيون الديانة في النظام القديم للتخفيف من تقدم العلم فسعوا إلى منع الأبحاث الطبية كالتشريح والتلقيح كما عملوا على الحكم على غاليله لأنه أدعى بأن الأرض ليست مركز العالم، كما أتهم متشورين في القرن العشرين في روسيا القيصرية بأنه خارج على الدين أمام شرطة القياصرة لأنه كان يقوم "بتطعيم" الأنواع النباتية!
ولقد وجهت النزعة المادية الفرنسية في القرن الثامن عشر ضربات قاسية إلى الديانة. ثم عادت الديانة إلى سابق عهدها في بلادنا بفضل سلسلة من القرارات السياسية الرجعية بعد الثورة وفي خلال القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد سقوط الإمبراطورية الأولى بعد حزيران عام 1848 أثر كومون باريس. وعلى عهد فيشي وكان إخراج المعجزات المختلفة من وسائل الاستعمار.
ويمثل "كنت" معاصر ثورة 1789 الاستخدام السياسي للديانة، على المستوى النظري، بالرغم من فشل مضمون الديانة الفلسفي. فهو يعتقد أن وجود الله لا يمكن البرهنة عليه. ومع ذلك يجب "قبول" هذا الوجود لأنه بدون هذه الفكرة يصبح كل شيء مباحا، فيزول القاضي العادل الأكبر، وتزول الشرطة السماوية، كما يزول الثواب والعقاب، فيتخاذل الشرير ويتجرأ. وهكذا يتزعزع النظام البرجوازي. الله إذن سلاح الثورة، وليس من الضروري التأكد نظريا من وجوده، بل يكفي قبول هذا الوجود عملياً ونفعياً. أليست تلك عادة البرجوازية الدائمة في المسائل الدينية؟ وهل هناك دليل أروع على فشل النزعة المثالية الدينية النظرية؟
لقد وضع انتصار النزعة الاشتراكية التاريخي حداً لسيطرة الطبقات الرجعية. وهكذا فقدت الديانة قاعدتها الاجتماعية كقوة فكرية في خدمة هذه الطبقات. ولكنها ظلت بعض الوقت في ضمائر الناس.
ولهذا يستمر في النظام الاشتراكي نضال نظري بين العلم والدين، بين الجهل والمعرفة. وهذا النضال جانب من جوانب عملية المعرفة، لأن المعرفة تتقدم بواسطة النضال . ذلك هو مضمون مبدأ حرية الوعي في الاتحاد السوفياتي.

– الخلاصة
نخرج من هذا الدرس بفكرة عن مادية العالم. فالنزعة المادية الجدلية في أيامنا هي النزعة الثورية الوحيدة. فإذا كانت "فكرة الله" أو فكرة "الروح" الخ... ليست سوى فكرة فارغة ورمز للدلالة على جميع ألوان الجهل الماضية للإنسان "فليس هناك أي منقذ أعلى" كمال تقول العالمية.
ليس للإنسان ما يرتجيه ألا ما يكسبه بنفسه في هذه الحياة الدنيا، والنزعة المادية تعلمه أن يرى "العالم كما هو"، العالم في وضعه الصحيح وليس بالمقلوب.
وبدلا من أن يقضي النزعة المادية على الإنسان فأنها على العكس تظهر له أن ليس هناك "مصير" أو "قدر" وأنه يستطيع، بواسطة المعرفة العلمية للواقع، أن يتمتع بحياة جديدة، وأن يتعرف على السعادة في الحياة.
وكما كان يقول الفيلسوف المادي اليوناني أبيقور فأن النزعة المادية تحرر المعرفة الإنسانية المضطهدة منذ آلاف السنين لخوفها من الغضب الإلهي والخوف من الدولة و "النظام القائم" اللذين يتمثل فيهما ما يسمى بقوى "العناية الآلهية".
كما أن النزعة المادية تؤدي، كما قال ماركس، إلى الاشتراكية.
وليس هناك من تكفير عن خطيئة، كما أدعى بيتان، كما أنه ليس هناك من قضاء مقدر "مكتوب" وليس هناك أبد خالد سوى المادة المتحركة. وكما أن علم الأمراض يساعد على محاربة هذه الأمراض بمحاربة أسبابها فكذلك معرفة أسباب الحرب تساعد على محاربة الحرب. وكلما كانت معرفتنا أفضل بالأسباب التي تؤدي إلى الحروب حتما كلما ازداد تسلحنا لمحاربتها بصورة فعالة.
الحرب إذن ليست قضاءً لا يمكن الهروب منه. وبدلا من أن تولد النزعة المادية السلبية والاستسلام فأنها دعوة للعمل فهي تتيح لنا معرفة ما هو ممكن، كما تتيح لنا تحديد مقدرة الإنسانية الفعلية. هذه هي الحرية فهي ليست أعلانا أجوف بل هي قدرة فعَّالة.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. بيرني ساندرز يعلق على احتجاجات جام


.. الشرطة الفرنسية تعتدي على متظاهرين متضامنين مع الفلسطينيين ف




.. شاهد لحظة مقاطعة متظاهرين مؤيدون للفلسطينيين حفل تخرج في جام


.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا




.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال