الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر25

عبدالرحيم قروي

2024 / 2 / 16
الارشيف الماركسي


أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة الخامسة والعشرون

ب) – الوَعي انعِكاس للكَيْنُونة
ماذا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي انعكاس للكينونة وللواقع الطبيعي والاجتماعي؟
يعني ذلك أن الثنائية قد زالت وأن الفكر لا يمكن فصله عن المادة المتحركة: فلا يوجد الوعي خارج المادة مستقلا عنها.
العالم المادي الذي ندركه بحواسنا والذي ننتمي إليه هو الواقع الوحيد .
غير أن ذلك لا يعني قط أن الفكر مادي كالمواد التي تفرزها أعضاؤنا. والاعتقاد بذلك أنما هو خطوة خاطئة نحو الخلط بين النزعة المادية والنزعة المثالية، وإقامة تماثل بين المادة والفكر وبين المادة والوعي. ويؤدي ذلك إلى الوقوع في النزعة المادية الساذجة.
لا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي صورة من صور الكينونة قط أن الوعي، بطبيعته، هو من المادة أيضا... وتقول النزعة المادية عند ماركس أن الوعي والكينونة والفكرة والمادة أنما هما صورتان مختلفتان لظاهرة واحدة تحمل اسما عاما هو أسم الطبيعة أو المجتمع. فالواحد منهما إذن ليس نفيا للآخر ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهما لا يكونان نفس الظاهرة .
وكذلك لا تعني الفرضية الماركسية القائلة أن الوعي سلبي ولا عمل له أن الماركسيين "ينكرون عمل الوعي" الخ... لأن القول بذلك يؤدي إلى الخلط بين الماركسية وبين النظريات الخاطئة التي تقول بها فلسفة "الظاهرية المصاحبية" كما يؤدي إلى إتباع مزيفي الماركسية. فإذا كان الوعي لا عمل له فلماذا كتب ماركس هذا العدد الضخم من المؤلفات وأسس العالمية الأولى، واستخدم جميع الوسائل لنشر أفكاره؟
تعني الفرضية الماركسية أن لا مصدر لمضمون وعينا الا الخواص الموضوعية التي تبدو في الظروف الخارجية التي نعيش فيها والتي نشعر بها في أحاسيسنا.
فلا توجد تصوراتنا ولا توجد "انيتنا" الا بمقدار وجود الظروف الخارجية التي تولد انفعالات "انيتنا"... لأن الشيء القائم في الخارج سابق على الصورة التي نتصوره بها، وتتأخر هنا أيضا الصورة عن الشيء ومضمونه. فإذا ما نظرت ورأيت شجرة فهذا يعني ببساطة أن الشجرة موجودة قبل أن تنبعث صورة الشجرة في ذهني، وان هذه الشجرة هي التي ولدت فيَّ صورة الشجرة .
فالوعي هو انعكاس لحركة المادة في دماغ الإنسان.
وتعني الفرضية الماركسية أخيرا ان الوعي سواء من وجهة نظر تاريخ الطبيعة أو المجتمع أم من وجهة نظر تاريخ الفرد وشخصية كل منا أنما هو نتاج تطور تاريخي.
يسبق الوعيَ، وهو عبارة عما يجري في دماغنا، خلال تطور الطبيعة، تغيير مادي مماثل، وهو عبارة مما يجري خارجنا، وسوف يتبع هذا التغيير المادي تغيير فكري مماثل .
يسبق التطور الفكري من ناحية الوعي تطور للظروف الخارجية من الناحية المادية فتتغير أولا الظروف الخارجية التي تمثل الناحية المادية ثم يتغير الوعي الذي يمثل الناحية الفكرية .
يكوِّن هذا الأمر، الذي يمكن لكل إنسان أن يتأكد منه، البرهان التجريبي للنزعة المادية وتعلق الوعي بالنسبة للكينونة كما أنه يبرهن على أن الوعي لا يمكن أن يكون رأساً انعكاساً دقيقاً للواقع كالانعكاس الذي يحدث في المرآة بل هو انعكاس حي متحرك في تطور دائم.
ولا شك أن ذلك لا يبدو لنا لأول وهلة حينما نفكر: إذ يبدو أن الفكر يقوم بذاته بصورة رائعة. ويمكن أن نتخيل، كما كان يقول ديكارت، أنه يكفينا أن نفكر كي نوجد، وأن هذا التفكير لا يحتاج إلى الجسم كي يتم. ولهذا كان الفلاسفة المثاليون سعداء بتفكيرهم حتى أنهم مستعدون للاعتقاد بأن كل موجود أنما هو موجود بفضل تفكيرهم الحر. فهم يجهلون الجذور الطبيعية الاجتماعية للفكر ولذلك يعتقدون أن كل شيء يصدر عن هذا الفكر ولهذا يطأطئون رؤوسهم ساجدين أمام الفكر ويرددون مع بول فاليري:
"كل الكون يتهادى ويرتجف فوق جذعي".
وهذه محاولة خطرة عابثة ألا وهي الاعتقاد بأن الأفكار تقوم بذاتها وتتطور من نفسها، وأن الوعي عبارة عن إله داخلي جبار. وقد حارب هذا الوهم الفيلسوف المادي الكبير ديدرو، فهو يشبه عملية تكوين النزعة المثالية بأوهام البيان الذي يخيل إليه، وقد وهب الاحساس، أنه وحيد في عصره ويعتقد بأن كل "أنغام الكون" تجري في داخله .
3– الفِكْر وَالدّمَاغ
حاربت النزعة المادية باستمرار هذا الوهم. ولقد قال ديدرو بفرضية تدعي أن المادة يمكن أن تفكر. كما كتب ماركس يقول: "لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة. لأن هذه المادة هي أساس جميع التغييرات التي تحدث ".
كما يقول انجلز من ناحية أخرى:
"مهما بدا لنا وعينا وتفكيرنا أنهما متعاليان فهما ليسا سوى ثمرة عضو مادي ألا وهو الدماغ ".
وكذلك يقول لينين: يدلنا منظر العالم على كيفية تحرك المادة و "كيفية تفكيرها" .
كما يلاحظ أن القول بأن الفكر ليس حركة بل هو "الفكر" هو قول علمي كالقول بأن "الحرارة ليست حركة، بل هي الحرارة".
تدل العلوم الطبيعية على أن عدم اكتمال نمو الدماغ عند شخص من الأشخاص يكون عائقا مهما أمام نمو الوعي والفكر: ذلك هو شأن الأغبياء. لأن الفكر نتاج تاريخي لتطور الطبيعة وبلوغها درجة سامية من الكمال" يتمثل في الأنواع الحية في الأعضاء والحواس والجهاز العصبي ولا سيما في جزئه الأعلى المركزي الذي يسيطر على الجسم بأكمله ألا وهو الدماغ. فالدماغ يعكس في نفس الوقت الظروف التي تحيط بالجسم كما يعكس الظروف الخارجية.
فمن أين يبدأ الوعي والفكر؟ يبدأ من الإحساس بتأثير حاجاته الطبيعية. فالعمل والتجربة والإنتاج هي التي تثير أولى حركات الفكر في بدء الجنس البشري. ومصدر الأحاسيس هو في المادة التي يشتغل بها الإنسان وليس العمل ثمرة اللعنة كما تقول التوراة: "ستكسب خبزك بعرق جبينك" لأن العمل هو اتحاد جوهري بين الإنسان والطبيعة، وهو نضال الإنسان ضد الطبيعة في سبيل العيش كما أنه مصدر كل تفكير.
"أن خطأ كل نزعة مادية الأساسي في الماضي هو أن الشيء والواقع والعالم الحسي لم يكن يُنظر إليها كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل ".
ولقد دلل انجلز في نص مشهور كيف أن العمل، باكثاره من أحاسيس الإنسان في أول خروجه من الحيوانية، قد نمى يده وبذلك نمى دماغه مما أتاح له القيام بتقدم عملي جديد. وهكذا اليد، عضو العمل، هي ثمرة العمل .
وتعلمنا العلوم، من ناحية ثانية، أنه إذا ابتعد فرد من الأفراد عن الحياة الاجتماعية تعطل تفكيره وتداعت ذاكرته وتخاذلت ارادته فتصبح لا شيء. فإذا لم يعرف قط الحياة الاجتماعية زال خلقه الإنساني. فلقد رأينا اطفالاً تركوا في الغابات فحضنتهم الذئاب فإذا بهم يتخلقون بأخلاق الذئاب.
ويلاحظ انجلز أن كل عمل إنساني كان ولا يزال منذ البداية عملا ضمن المجتمع والا لما استطاع الإنسان أن ينجو من الأخطار الطبيعية. وهذه الملاحظة مهمة جدا لفهم أصول الفكر والتأمل، لأن العمل يوضح جوانب جديدة للواقع، كما أنه يثير مشاكل جديدة. فهو يكشف عن علاقات موضوعية جديدة لا تكفي الأحاسيس للتعبير عنها، بيد أن العمل يتطلب جهداً مشتركاً وعملا مشتركاً لكي تتوحد جميع الطاقات لجماعة من الناس فتعمل في موضع معين ووقت معين، كتحريك صخرة مثلا. ولكي ندفع الناس إلى العمل حقاً نحتاج إلى اشارة وإلى أمر: ولكن كلما ازداد تعقد العمل لم يعد الصراخ أو الحركة كافيين ووجب القدرة على شرح العمل الذي يجب القيام به، أي أننا بحاجة إلى إشارات جديدة في نوعها تعبر عن العلاقات بين الأحاسيس ألا وهي الكلمات. وهكذا يتخذ العمل طابع تبادل الناس الانفعالات التي يثيرها فيهم. العمل إذن هو الذي أثار الحاجة للاتصال فتولد عن ذلك اللغة التي هي عبارة عن اتصال بالآخرين قبل أن تكون تعبيراً .
ويزداد، في نفس الوقت، غنى دماغ الإنسان بعلاقات جديدة. لأن الدماغ نتاج اجتماعي، وأخيراً يعني ظهور الفلسفة ظهور الفكر الصرف والتأمل. وهذه خطوة مهمة. فلا لغة ولا فكر بدون العمل الذي هو نشاط اجتماعي.
يقولون أن الأفكار تأتي إلى ذهن الإنسان قبل أن يعبر عنها في حديثه وأنها تولد بدون واسطة اللغة عارية من غطاء اللغة. ولكن مهما كانت الأفكار التي ترد على ذهن الإنسان فهي لا يمكن أن تولد وتوحد الا معتمدة على اللغة والفاظها وجملها. فليس هناك أفكار خالية من وسائل اللغة ومن "مادتها الطبيعة".
"لأن اللغة هي واقع الفكر المباشر" (ماركس) ويظهر واقع الفكر في اللغة. والمثاليون وحدهم يمكنهم التحدث عن فكر منفصل عن "المادة الطبيعية" وهي اللغة، أو عن فكرة بدون لغة .
ولقد اثبتت العلوم الطبيعية صحة هذه النظريات التي قالت بها النزعة المادية الجدلية، كما تنبأ لينين، وذلك في أعمال العالم الفيزيولوجي الكبير بافلوف.
فلقد اكتشف بافلوف أن عمليات النشاط الذهني الأساسية أنما هي انعكاسات مشروطة تثيرها الأحاسيس الداخلية أو الخارجية وهي تحدث في ظروف معينة، كما أنه دلل على أن هذه الأحاسيس تستخدم كاشارات لكل نشاط الجسم الحي.
كما اكتشف أن الكلمات ومضمونها ومعانيها يمكن أن تحل محل الأحاسيس التي تبعثها الأشياء التي تدل عليها فتثير بدورها انعكاسات مشروطة وردود فعل عضوية أو لفظية. فتكون بذلك إشارات للإشارات أي نظاماً ثانياً للإشارات يقوم على أساس النظام الأول وهو خاص بالإنسان. اللغة إذن هي الشرط لنشاط الإنسان الأسمى، وعمله الاجتماعي، وهي تحمل الفكر المجرد الذي يتجاوز الإحساس الحالي. اللغة هي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع بأكبر قدر من الدقة.
ولقد برهن بافلوف في الوقت ذاته على أن ما يحدد وعي الإنسان في الأساس ليس هو جسده ولا الظروف الحيوية كما يعتقد الماديون السذج والمحللون النفسيون بل المجتمع الذي يعيش فيه ومعرفته لهذا المجتمع، وهكذا تتعلق الناحية البيولوجية في الإنسان بالناحية الاجتماعية لأن الظروف الاجتماعية للحياة هي التي تحدد الحياة العضوية والحياة الذهنية فالفكر بطبيعته ظاهرة اجتماعية.
يحق إذن القول بأن الدماغ هو عضو الفكر فقط وهذا لا يخالف أبدا قول الماركسية الأساسي.
"ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ".

ب) – الوَعي انعِكاس للكَيْنُونة
ماذا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي انعكاس للكينونة وللواقع الطبيعي والاجتماعي؟
يعني ذلك أن الثنائية قد زالت وأن الفكر لا يمكن فصله عن المادة المتحركة: فلا يوجد الوعي خارج المادة مستقلا عنها.
العالم المادي الذي ندركه بحواسنا والذي ننتمي إليه هو الواقع الوحيد .
غير أن ذلك لا يعني قط أن الفكر مادي كالمواد التي تفرزها أعضاؤنا. والاعتقاد بذلك أنما هو خطوة خاطئة نحو الخلط بين النزعة المادية والنزعة المثالية، وإقامة تماثل بين المادة والفكر وبين المادة والوعي. ويؤدي ذلك إلى الوقوع في النزعة المادية الساذجة.
لا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي صورة من صور الكينونة قط أن الوعي، بطبيعته، هو من المادة أيضا... وتقول النزعة المادية عند ماركس أن الوعي والكينونة والفكرة والمادة أنما هما صورتان مختلفتان لظاهرة واحدة تحمل اسما عاما هو أسم الطبيعة أو المجتمع. فالواحد منهما إذن ليس نفيا للآخر ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهما لا يكونان نفس الظاهرة .
وكذلك لا تعني الفرضية الماركسية القائلة أن الوعي سلبي ولا عمل له أن الماركسيين "ينكرون عمل الوعي" الخ... لأن القول بذلك يؤدي إلى الخلط بين الماركسية وبين النظريات الخاطئة التي تقول بها فلسفة "الظاهرية المصاحبية" كما يؤدي إلى إتباع مزيفي الماركسية. فإذا كان الوعي لا عمل له فلماذا كتب ماركس هذا العدد الضخم من المؤلفات وأسس العالمية الأولى، واستخدم جميع الوسائل لنشر أفكاره؟
تعني الفرضية الماركسية أن لا مصدر لمضمون وعينا الا الخواص الموضوعية التي تبدو في الظروف الخارجية التي نعيش فيها والتي نشعر بها في أحاسيسنا.
فلا توجد تصوراتنا ولا توجد "انيتنا" الا بمقدار وجود الظروف الخارجية التي تولد انفعالات "انيتنا"... لأن الشيء القائم في الخارج سابق على الصورة التي نتصوره بها، وتتأخر هنا أيضا الصورة عن الشيء ومضمونه. فإذا ما نظرت ورأيت شجرة فهذا يعني ببساطة أن الشجرة موجودة قبل أن تنبعث صورة الشجرة في ذهني، وان هذه الشجرة هي التي ولدت فيَّ صورة الشجرة .
فالوعي هو انعكاس لحركة المادة في دماغ الإنسان.
وتعني الفرضية الماركسية أخيرا ان الوعي سواء من وجهة نظر تاريخ الطبيعة أو المجتمع أم من وجهة نظر تاريخ الفرد وشخصية كل منا أنما هو نتاج تطور تاريخي.
يسبق الوعيَ، وهو عبارة عما يجري في دماغنا، خلال تطور الطبيعة، تغيير مادي مماثل، وهو عبارة مما يجري خارجنا، وسوف يتبع هذا التغيير المادي تغيير فكري مماثل .
يسبق التطور الفكري من ناحية الوعي تطور للظروف الخارجية من الناحية المادية فتتغير أولا الظروف الخارجية التي تمثل الناحية المادية ثم يتغير الوعي الذي يمثل الناحية الفكرية .
يكوِّن هذا الأمر، الذي يمكن لكل إنسان أن يتأكد منه، البرهان التجريبي للنزعة المادية وتعلق الوعي بالنسبة للكينونة كما أنه يبرهن على أن الوعي لا يمكن أن يكون رأساً انعكاساً دقيقاً للواقع كالانعكاس الذي يحدث في المرآة بل هو انعكاس حي متحرك في تطور دائم.
ولا شك أن ذلك لا يبدو لنا لأول وهلة حينما نفكر: إذ يبدو أن الفكر يقوم بذاته بصورة رائعة. ويمكن أن نتخيل، كما كان يقول ديكارت، أنه يكفينا أن نفكر كي نوجد، وأن هذا التفكير لا يحتاج إلى الجسم كي يتم. ولهذا كان الفلاسفة المثاليون سعداء بتفكيرهم حتى أنهم مستعدون للاعتقاد بأن كل موجود أنما هو موجود بفضل تفكيرهم الحر. فهم يجهلون الجذور الطبيعية الاجتماعية للفكر ولذلك يعتقدون أن كل شيء يصدر عن هذا الفكر ولهذا يطأطئون رؤوسهم ساجدين أمام الفكر ويرددون مع بول فاليري:
"كل الكون يتهادى ويرتجف فوق جذعي".
وهذه محاولة خطرة عابثة ألا وهي الاعتقاد بأن الأفكار تقوم بذاتها وتتطور من نفسها، وأن الوعي عبارة عن إله داخلي جبار. وقد حارب هذا الوهم الفيلسوف المادي الكبير ديدرو، فهو يشبه عملية تكوين النزعة المثالية بأوهام البيان الذي يخيل إليه، وقد وهب الاحساس، أنه وحيد في عصره ويعتقد بأن كل "أنغام الكون" تجري في داخله .
3– الفِكْر وَالدّمَاغ
حاربت النزعة المادية باستمرار هذا الوهم. ولقد قال ديدرو بفرضية تدعي أن المادة يمكن أن تفكر. كما كتب ماركس يقول: "لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة. لأن هذه المادة هي أساس جميع التغييرات التي تحدث ".
كما يقول انجلز من ناحية أخرى:
"مهما بدا لنا وعينا وتفكيرنا أنهما متعاليان فهما ليسا سوى ثمرة عضو مادي ألا وهو الدماغ ".
وكذلك يقول لينين: يدلنا منظر العالم على كيفية تحرك المادة و "كيفية تفكيرها" .
كما يلاحظ أن القول بأن الفكر ليس حركة بل هو "الفكر" هو قول علمي كالقول بأن "الحرارة ليست حركة، بل هي الحرارة".
تدل العلوم الطبيعية على أن عدم اكتمال نمو الدماغ عند شخص من الأشخاص يكون عائقا مهما أمام نمو الوعي والفكر: ذلك هو شأن الأغبياء. لأن الفكر نتاج تاريخي لتطور الطبيعة وبلوغها درجة سامية من الكمال" يتمثل في الأنواع الحية في الأعضاء والحواس والجهاز العصبي ولا سيما في جزئه الأعلى المركزي الذي يسيطر على الجسم بأكمله ألا وهو الدماغ. فالدماغ يعكس في نفس الوقت الظروف التي تحيط بالجسم كما يعكس الظروف الخارجية.
فمن أين يبدأ الوعي والفكر؟ يبدأ من الإحساس بتأثير حاجاته الطبيعية. فالعمل والتجربة والإنتاج هي التي تثير أولى حركات الفكر في بدء الجنس البشري. ومصدر الأحاسيس هو في المادة التي يشتغل بها الإنسان وليس العمل ثمرة اللعنة كما تقول التوراة: "ستكسب خبزك بعرق جبينك" لأن العمل هو اتحاد جوهري بين الإنسان والطبيعة، وهو نضال الإنسان ضد الطبيعة في سبيل العيش كما أنه مصدر كل تفكير.
"أن خطأ كل نزعة مادية الأساسي في الماضي هو أن الشيء والواقع والعالم الحسي لم يكن يُنظر إليها كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل ".
ولقد دلل انجلز في نص مشهور كيف أن العمل، باكثاره من أحاسيس الإنسان في أول خروجه من الحيوانية، قد نمى يده وبذلك نمى دماغه مما أتاح له القيام بتقدم عملي جديد. وهكذا اليد، عضو العمل، هي ثمرة العمل .
وتعلمنا العلوم، من ناحية ثانية، أنه إذا ابتعد فرد من الأفراد عن الحياة الاجتماعية تعطل تفكيره وتداعت ذاكرته وتخاذلت ارادته فتصبح لا شيء. فإذا لم يعرف قط الحياة الاجتماعية زال خلقه الإنساني. فلقد رأينا اطفالاً تركوا في الغابات فحضنتهم الذئاب فإذا بهم يتخلقون بأخلاق الذئاب.
ويلاحظ انجلز أن كل عمل إنساني كان ولا يزال منذ البداية عملا ضمن المجتمع والا لما استطاع الإنسان أن ينجو من الأخطار الطبيعية. وهذه الملاحظة مهمة جدا لفهم أصول الفكر والتأمل، لأن العمل يوضح جوانب جديدة للواقع، كما أنه يثير مشاكل جديدة. فهو يكشف عن علاقات موضوعية جديدة لا تكفي الأحاسيس للتعبير عنها، بيد أن العمل يتطلب جهداً مشتركاً وعملا مشتركاً لكي تتوحد جميع الطاقات لجماعة من الناس فتعمل في موضع معين ووقت معين، كتحريك صخرة مثلا. ولكي ندفع الناس إلى العمل حقاً نحتاج إلى اشارة وإلى أمر: ولكن كلما ازداد تعقد العمل لم يعد الصراخ أو الحركة كافيين ووجب القدرة على شرح العمل الذي يجب القيام به، أي أننا بحاجة إلى إشارات جديدة في نوعها تعبر عن العلاقات بين الأحاسيس ألا وهي الكلمات. وهكذا يتخذ العمل طابع تبادل الناس الانفعالات التي يثيرها فيهم. العمل إذن هو الذي أثار الحاجة للاتصال فتولد عن ذلك اللغة التي هي عبارة عن اتصال بالآخرين قبل أن تكون تعبيراً .
ويزداد، في نفس الوقت، غنى دماغ الإنسان بعلاقات جديدة. لأن الدماغ نتاج اجتماعي، وأخيراً يعني ظهور الفلسفة ظهور الفكر الصرف والتأمل. وهذه خطوة مهمة. فلا لغة ولا فكر بدون العمل الذي هو نشاط اجتماعي.
يقولون أن الأفكار تأتي إلى ذهن الإنسان قبل أن يعبر عنها في حديثه وأنها تولد بدون واسطة اللغة عارية من غطاء اللغة. ولكن مهما كانت الأفكار التي ترد على ذهن الإنسان فهي لا يمكن أن تولد وتوحد الا معتمدة على اللغة والفاظها وجملها. فليس هناك أفكار خالية من وسائل اللغة ومن "مادتها الطبيعة".
"لأن اللغة هي واقع الفكر المباشر" (ماركس) ويظهر واقع الفكر في اللغة. والمثاليون وحدهم يمكنهم التحدث عن فكر منفصل عن "المادة الطبيعية" وهي اللغة، أو عن فكرة بدون لغة .
ولقد اثبتت العلوم الطبيعية صحة هذه النظريات التي قالت بها النزعة المادية الجدلية، كما تنبأ لينين، وذلك في أعمال العالم الفيزيولوجي الكبير بافلوف.
فلقد اكتشف بافلوف أن عمليات النشاط الذهني الأساسية أنما هي انعكاسات مشروطة تثيرها الأحاسيس الداخلية أو الخارجية وهي تحدث في ظروف معينة، كما أنه دلل على أن هذه الأحاسيس تستخدم كاشارات لكل نشاط الجسم الحي.
كما اكتشف أن الكلمات ومضمونها ومعانيها يمكن أن تحل محل الأحاسيس التي تبعثها الأشياء التي تدل عليها فتثير بدورها انعكاسات مشروطة وردود فعل عضوية أو لفظية. فتكون بذلك إشارات للإشارات أي نظاماً ثانياً للإشارات يقوم على أساس النظام الأول وهو خاص بالإنسان. اللغة إذن هي الشرط لنشاط الإنسان الأسمى، وعمله الاجتماعي، وهي تحمل الفكر المجرد الذي يتجاوز الإحساس الحالي. اللغة هي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع بأكبر قدر من الدقة.
ولقد برهن بافلوف في الوقت ذاته على أن ما يحدد وعي الإنسان في الأساس ليس هو جسده ولا الظروف الحيوية كما يعتقد الماديون السذج والمحللون النفسيون بل المجتمع الذي يعيش فيه ومعرفته لهذا المجتمع، وهكذا تتعلق الناحية البيولوجية في الإنسان بالناحية الاجتماعية لأن الظروف الاجتماعية للحياة هي التي تحدد الحياة العضوية والحياة الذهنية فالفكر بطبيعته ظاهرة اجتماعية.
يحق إذن القول بأن الدماغ هو عضو الفكر فقط وهذا لا يخالف أبدا قول الماركسية الأساسي.
"ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ".
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل متظاهرين مؤيدين لفلسطين وتفكك مخيما ت


.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. بيرني ساندرز يعلق على احتجاجات جام




.. الشرطة الفرنسية تعتدي على متظاهرين متضامنين مع الفلسطينيين ف


.. شاهد لحظة مقاطعة متظاهرين مؤيدون للفلسطينيين حفل تخرج في جام




.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا