الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرسيف وإرث وادي ملوية ومللو ..

عبد السلام انويكًة
باحث

2024 / 2 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تراث ذلك الذي بدأ منذ أزل بعيد، ما يكاد يكون بأول مجهول. وتراث أيضا، كل فعلِ إنسان وتفاعلٍ في مكان ما وزمن ما حتى الآن. علما أنه عبر كل فترة من فترات الزمن الانساني هناك بقايا وشواهد مادية ولامادية، ومن ثمة أيضا تراث بقدر ما يحتويه من هوية واحالات، بقدر ما يقتضي من دراسة وحماية وتحسيس ووعي واستثمار، إغناءً لعيشِ وكائن تعايشِ ومشترك وحاضرِ ومستقبل. وكم هو مفيد ما يُعقد حول هذا التراث من لقاءات علمية هنا وهناك لترتيب ما هو بحاجة لإنصات وطرح، ومِن هذه اللقاءات مَن تتوجه بعنايتها لمواقع تراثية ضاربة في القدم، لابراز خصوصيتها وتفردها وموارد زمنها وتثمين وتحديد ما من شأنه جعل تراث هذه المواقع بأثر داعم لكل تنمية محلية عبر ما ينبغي أن يحضر من رأي ومقترح.
في علاقة بما تتقاسمه المنطقة الشرقية من تراث واسع ومتباين الجوانب، نجد ما هي عليه وما تحضنه منطقة جرسيف وحوض ملوية الوسطى عموما، من وعاءَ تفاعلٍ بشري عبر فترات تاريخ المغرب، لِما هناك من حفريات وبصمات أزمنة غابرة وآثر مادي ولامادي لا يزال بحاجة لعمل علمي مؤسس شاف، ابرازا لمكامنها واستثمارا لرمزيتها. ولاشك أن الماء بمنطقة جرسيف كان ولا يزال مكوناً بيئياً معبراً بجدل كبير، وعنصراً فاعلاً موجهاً جعل تراثها ومحيطها بخاصيةٍ بيئيةٍ وتفرد موضع، من خلال مشهد التقاء مجريين مائيين شهيرين فيها، ضمن مورفولوجيا ملفتة للنظر. وعليه ما طبع المنطقة عموما من هوية مجالية منذ القدم، فكانت بأثر فيما هي عليه من تراث غني متعدد في أوجهه وتجلياته. علماً أن جرسيف "أجرسيف"، ربما إسم بجدلِ بنيةِ وبيئةٍ وعلاقة بطبيعة موقعٍ ونقطة لقاء وادين "ملوية" و"مللو". وإذا كانت منطقة جرسيف بمثابة وعاء لإرثٍ انساني واسع، يجمع بين شاهدِ عُمران ورمزية زمن. فلا شك أنه بوجدان وتمَثل واعتقاد ورواية وشأن وامتداد، في الذاكرة المحلية كأثاث أصيل في شموليته. وبقدر ما يطبع المنطقة من تراث لامادي يجمع بين نمط عيش وتقاليد وعمارة وتعمير ولباس وغذاء وخبرات واحتفالية وفرجةٍ، تقول اليونسكو أنه كل ممارسة وتصوّر وتعبير ومعارف ومهارات، كذا ما يرتبط بهذا وذاك من نِتاجِ حِرفٍ وثقافة أمكنةٍ وغيرها، وأن ما هو متوارث رمزي من جيل لجيل هو ما يبدعه الانسان فرداً وجماعة من جديد بشكل مستمر ووفق ما ينسجم مع زمن وبيئة ما. بقدر ما تزخر بتراث مادي على قدرٍ عالٍ من القيمة التاريخية الإنسانية، لِما كانت عليه من أدوار فضلا عن وقعٍ في زمن البلاد والعباد.
ولعل جرسيف بموقع فسيح متميز واستقرار بشري قديم ارتبط بعنصر الماء ووادَيْ "ملوية" و"مللو" خاصة، عُرف في زمن المغرب الوسيط بالقصبة التي اختارها بنو مرين استراتيجياً لتخزين وتأمين موارد عيشهم، قبل أن تتحول هذه القصبة الى دار إمارة على عهد السلطان أبي عنان المريني أواسط القرن الثامن الهجري. وكان من تَميُّز المنطقة خلال هذه الفترة من زمن مغرب العصر الوسيط، في علاقة بمياه الوادين، انتشار بساتين أشجار مثمرة عدة لدرجة تذكر المصادر أنها كانت تبدو كأنها جنة آدم لِما يحيط بها من جفاف. ضمن هذا الغنى والزخم الشاهد الذي يطبع جرسيف ومحيطها تراثياً، ارتأينا بمختصر مفيد اطلالة حول ما هو رمزي في علاقة بالماء، ومن ثمة حديث عن مكونين مجالين أساسيين وادَيْ"ملوية" و"مللو". علماً أن ما هو رمزي تراثي محلي مُرتبط بأشرطة مياه تتقاسم المجال وتحكُمه منذ القدم حتى الآن، هو إرث انساني وذاكرة وكيان وهوية حاملة لتميزٍات وثقافة وحضارة. مع أهمية الاشارة الى أن مساحة هامة من معالم تراث المنطقة اندثرت مع مرور الزمن، وأن ما تبقى يوجد على ايقاع ضغوط عدة ومتداخلة. وعليه، ما هناك من حاجة ليس فقط لإلتفات وانقاذ بل لبحث وتنقيب ودراسة وورش عمل، في أفق ما هو إنماء ونماء رافع.
وغير خاف أن منطقة جرسيف لا تزال بغير ما هو شاف من أبحاث تراثية علمية، ومن ثمة من نصوص أكثر تجاوباً مع ذخيرة وموارد زمنِ المكانٍ ومكامنِ تراث منطقةٍ واسع، ومن هنا أهمية تكاثف جهود وفعل وتفاعل الجميع كل من موقعه، من أجل ما هو رافع لحماية تراث المنطقة وتثمينه وجعله بدور لفائدة حاضرٍ ومستقبلٍ، فضلاً عما ينبغي من وعي بقيمة إرث حضاري وبسبل دمجه كثراء وثروة في النماء المحلي. ولا شك أن أهل وسَلَف جرسيف عبر تلاقح الأجيال بين وادَيْ "ملوية" و"مللو"، كان بدور في حماية تراث المنطقة عموما، الرمزي منه خاصة والحامل لجميع ما هو ثقافة عيش وتعايش وتقاليد وقيم حياة وتعبير وسبل تدبير بيئة وعلاقات وغيرها. ولولا هذا السلف وحفاظه على ما طبع المنطقة من هوية وارث مادي ولا مادي، لمَا تعرف عليه الخلَف ولمَا ظل حاضراً حياً عابراً للزمن. هكذا تعد تجليات استغلال مياه وادَيْ "ملوية" و"مللو" وثقافتها وسبلها، فضلا عما هناك من مياه جارية وضفاف ونُظم حياة تنظيم مجال وسواقي وتقاسم ومنظر وأغراس وغيرها، خصوصية هوية محلية وشواهد انسانية انسان. من هنا ما ينبغي من تثمين وحماية لفسيفساء تراث منطقة جرسيف وتحفها المادية واللامادية، من خلال لِما لا متحفٍ خاص برؤى وأرشيف وأثاث محلي ما، من شأنه حضن وتجميع وابراز وتسويق ما هي عليه المنطقة من هوية بيئة مائية وغنى وتنوع تراث. كذا ما ينبغي الاشتغال عليه من أجل لِما لا دليل جامع لمعالم وعلامات تراث المنطقة، فضلاً عن اطار داعم من قبيل مركز بحث في التراث المحلى، لإثارة ما هو بعلاقة من جهة وجمع ما ينبغي من معطيات ووثائق وأرشيف، يخص المجال من جهة ثانية. ناهيك عما يمكن أن يسجل من قيمة مضافة رافعة للتنمية المحلية، من خلال ما ينبغي من ترافع في أفق تصنيف ضفاف وادَيْ "ملوية" و"مللو"، على مستوى مجال جرسيف المدينة وجوارها كتراث وطني ولِما لا انساني.
إن تراث جرسيف في مستواه المادي واللامادي، بقدر ما يشكل عنصراً من عناصر تاريخ المنطقة وهويتها واستمراريتها وتطورها وتفاعلها ضمن أزمنةٍ وطبيعة مكان، بقدر ما هو بمثابة ذاكرة جماعية ونِتاج تلاقح أجيال عبر قرون من الزمن، ومن ثمة سبيلاً لتموضع وتموقع خلفٍ في كل هذا وذاك. ولا شك أن جرسيف "ملوية" و"مللو" هو وعاء تراث بأصول متعددة، لِما كانت عليه المنطقة من علاقات وانفتاح على شرق البلاد وغربها، من خلال سبل عبور ورحلةٍ وترحالٍ وقوافل تجارة ورعي وثقافةِ مياه. هكذا تبقى قصبة جرسيف إرثا بيئيا انسانيا أصيلا، بحاجة لتثمين وحماية واغناء واستثمار لإبراز مكامنه وتجلياته وتميزه، من خلال ما ينبغي من ورش رافعٍ يحضره تشارك جميع المعنيين والمهتمين كل من موقعه. وليس رهان جرسيف وتطلعاته الترابية في التنمية المحلية على أساس تفردِ موضعٍ ورمزية ملتقى "مللو" و"ملوية" حلماً ولا أمرا مستحيلاً، فقط ما يقتضيه الحال من رؤية وتبصر وإرادة وقناعة وسبل تنسيقٍ وتعاون وذكاءِ تدبير تراب.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث





التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي


اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع

.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي

.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال



.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل