الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هزمنا في كل مكان ذهب إليه الجنود

محمد حسين يونس

2024 / 2 / 16
المجتمع المدني


ما أسوأ أن تصل إلي نهاية المشوار فتجد أنك كنت تسعي خلف سراب ..و تصاب بخيبة أمل من يكتشف أنه لم يسلك الطريق الصحيح ..و أنه ((بعد رحيل العمر كان يطارد خيط دخان )) كما قال نزار و غني عبد الحليم ..
عندما إلتحقت بالقوات المسلحة .. كنت أهرب من الحياة المدنية و ما فيها من فساد التجار و المقاولين و الموظفين .. و فوضي وسوء تقدير كبارهم. في الإستفادة من الطاقات المتاحة ..و إهدارها في صراعات متدنية خاصة بالحصول علي أكبر قدر من الفوائد المادية .
لقد كنت أعمل في إسكان و مرافق سيناء بالعريش و أرى حولي كل وسائل افساد العاملين ..و تطويعهم لصالح وفائدة المقاولين .
في ذلك الوقت تصورت أن مهنة الضابط تعني أمرين البعد عن هذا الفساد فلا توجد مكاسب مادية تجعلهم يتصارعون ويكيد بعضهم لبعض أو أرباح يخططون للحصول عليها ..
و الأمر الأخر المشاركة من خلال العمل العسكرى في بناء وطن تخلص من إستعمار دام ل74 سنة..و يسعي لتضميد الجراح الناتجة عن أثار تحالف الإقطاع ..والرأسمالية .. و سيطرة الأجانب علي الإقتصاد و المجتمع .
فهربت من التكليف و الشغل المدني .. للكلية الحربية .
لقد كنت متفائلا بعملي الجديد في المكان الوحيد المنظم .. الذى سأجد فيه العدالة و التقدير .. لذلك لم أهتم بالسخافات ألتي واجهتها من طلبة الكلية الحربية ومعلمي مدرسة المهندسين العسكريين ..علي أساس انها تهدف إلي تحويلنا من النعومة المدنية ..إلي الإنضباط العسكرى .
لازلت أذكر أيام شبابي و كيف قضيتها في ميادين القتال و الصحارى ..و كيف كنت أضع تحت أرجل سريرى في الخيمة التي أعيش فيها أواني ممتلئة بالمياة لتمنع العقارب من الوصول لمكان نومي ..و اعلق أكياس الشيح حولي.. لتبعد الثعابين ..و أستيقظ (حتي عندما ) أصبحت أعمل في الهاكيستب أو دهشور ..علي الفئران تجرى فوق جسدى المغطي بالبطاطين فانطرها بعيدا عني و أكمل النوم .
كنت كل صباح .. أفتش البوت العسكرى قبل إنتعاله .. حتي لا يكون به ضيوف غير مرغوب في تواجدهم و أحلق لحيتي وأغسل وجهي بحرص علي مياة الزمزمية الشحيحة ..
وظهرا ابلع الرزالمرسل لي من مطابخ علي بعد عشرات الكيلومترات دون مضغ بعد أن تلوث بزعابيب الرمال في موقع لا سبيل فيه لإستبدال الطعام الفاسد أو شراء غيره .
.و أصفي الماء بشاشة في اليمن لأتخلص من العوالق و الدود ثم أضعة في زمزمية غامقة أشرب منها دون النظر لما بها .. و اقضي حاجتي في حفرة بالجبل ..و أستحم عندما أرجع لمقر الكتيبة بمياة باردة يصعب تسخينها .
أعاني من حر الحديدة و رطوبتها .. و أمطار قفل حرض التي تتحول لسيول و ثعابينها الهاربة من تدفق المياة .. و زعابيب سيناء .. و برد كيهاك و طوبة و أمشير في الصحراء .. ومن الوقوف في الشمس دون واق لساعات ..والبعد عن المدينة و الكهرباء ..و الأقارب و الأصدقاء و الطعام ..و العلاج المتوفر .
كنت أتعامل مع الألغام و المفرقعات يوميا ..وعيني في منتصف رأسي ..مترقبا الموت مع أول خطأ أو إهمال لصف ضابط أو جندى .
لقد كنا جميعا ( ضباط و عساكر ) .. نعاني من قسوة المعيشة و نتقبلها دون تذمر .. علي أساس ..أننا نؤدى دورا في منظومة تقدم وطن يقودها الجيش للتغلب علي الصعاب التي خلفها الإستعمار و أعوانه.
بدأت حياتي العملية ملازم أول مهندس يقود فصيلة في سيناء علي الحدود قرب أبوعجيلة تقيم ملاجيء بالحفر في التربة الحجرية بالمفرقعات..أتعامل مع السادة قادة اللواءات (أشباة أرباب الاولمب ) و أتلقي تعليماتهم بكل إحترام و تقدير لخبراتهم و مناصبهم .. أقيم لهم ملاجيء و أرص الغام .. ضمن خطة تجهيز أرض المواجهه للمعركة
ثم باليمن في قفل حرض أقيم السدود للحفاظ علي الماء القادم مع سيول يوليو لتبق داخل حدود اليمن ولا تتسرب للسعودية .. كأمر الرئيس بنفسه .. أنظر حولي في كل لحظة منتظرا إغتيال الإرهابيين لي ولأفرد سريتي لمنع إستمرار العمل ..
ثم أنتقل مع القوات المتواجدة في حرب 67 لتجهيز المواقع التي تحتلها لواءات الفرقة الثالثة .. و أشهد الهزيمة و هروب القادة ..و تفسخ القوات ..و ترك سلاحنا غنيمة بيد العدو .
بعد الهزيمة ..أعيش علي ضفاف القناة اقيم ملاجيء..و قواعد الصواريخ المضادة للطيران أو البحرية في ظرف غير موات بسبب تفوق طيران العدو ..و مع ذلك و رغم المخاطرة .. كنت من الذين أصروا علي بناء حائط الصواريخ لحماية أرض مصر .. حتي لو أصيبوا أو قتلوا .
لقد ذقت المر .. و عشت أسوأ حياة .. لم أركب العربات الفاخرة التي يستخدمها ضباط اليوم .. فقد كان مكاني دائما في خلفية عربة روسي ( زيل ) أو عربة جيب سببت لنا عاهات مستديمة في عظامنا .
و لم أستمتع برفاهية الذين يرتدون الأزياء الأمريكية و يختالون بها .. والذين يعملون في أماكن مكيفة الهواء .. بعيدا عن المخاطرة .. يفرضون الوصاية علي كل أنشطة المدنيين ..ولا تلوث أحذيتهم إلا بتراب المساكن و المقابر التي يهدمونها..
بكلمات أخرى رغم كل هذه المعاناة و الشقي ..جاءت النتيجة سلبية .. لم نحقق إنجازا و لم ننم وطنا .. و لم نحم بلادنا من الأعداء ... لقد فشل كبار الضباط في تحقيق أى مهمة كلفوا بها ..و لم يعبروا بالوطن من متاهة التخلف و الإستعمار .. لبراح حرية إتخاذ القرار
لقد هزمنا في اى مكان ذهب إليه الجنود طردنا من سوريا و اليمن ..و فقدنا سيناء ..و حتي عندما ذهبنا لتحرير رهائن في قبرص عدنا بنعوش ناسنا ..
وجرى تخريب الإقتصاد ..و توقفت الخدمات ..و تدهور حالنا في كل مجال..
و لم نتعلم من الهزيمة أو الإنتصار .. من الحرب أو السلام .. ولم تتحسن حياتنا..بل علي العكس .. إزدادت سوءا كلما مرت السنين ..حتي فقدنا إستقلالنا..و أصبح صندوق النقد و من يديرونه يشيرون إلينا بتعال فننفذ التعليمات .
خلال عملي و تعاملي مع كبار الضباط عرفت حقيقة (أرباب الأولمب ) ..ففقدت الثقة تدريجيا في مدى صحة قراراتهم سواء أثناء الحرب أو السلم
إنهم يتعاملون معنا كما لو كنا عساكر خشب علي رقعة الشطرنج ..لا يهمهم عدد الضحايا أو معاناة المقعدين .. أو الكوارث التي تتسبب فيها تعليماتهم ..أو أن يخسروا و يموت الملك .. ما داموا هم يتمتعون بمميزات مناصبهم ..و يجمعون المكاسب المادية و لا يحاسبون .
الغريب أنه علي الرغم من أن أغلب الشعوب التي خاضت حروبا مهلكة ..و قدمت الضحايا .. تعلمت من الدم المهدر حتي لو ضربوها بالقنابل النووية.. و تطورت و تفوقت و تحررت و أصبحت أكثر إنسانية .... إلا أننا .. لم نستوعب الدرس أو نتغير ..
هل بسبب أننا صدقنا كذبهم بكونها نكسة و تجاهلنا أنها هزيمة .. أم لان دماء ناسنا رخيصة و أموالنا سايبة وبيت المال نهيبة ينفق منه ( الحاكم ) كما يحلو له لمداراة فشل مغامراته...حتي لو إقترض ديون متلتلة .
أم لان طبيعة الشعب مسالم لا يحارب .. فوقف بعيدا عن ميدان القتال يشاهد ماتش بين جيش عبد الحكيم و جيش موسي ديان .. يشجع فريقه بحماس حتي إنهزم وإنتحر القائد .
أبناء الشعب لم يطردوا من سوريا و لم ينهزموا في اليمن وسيناء عدة مرات .. لانهم لم يكونوا شركاء في القرارات.. حزنوا قليلا لضياع أسلحة فريقهم وسوء أداؤه ..و إكتئبوا أقل من أجل الضحايا ..ثم نسوا الأمر وعادوا لسيرتهم الاولي و ما هم فيه من هم و غم كسب لقمة العيش بعناء في غابة الضوارى..التي صنعها ضباط يوليو 52 .. و علاج ما اتلفه حضراتهم بمؤسسات الدولة بعد أن عبثوا بقواعد تشغيلها ، وابتلعوا خيراتها، واستبعدوا كفاءاتها ..و تركوها خرابا
الأمر لمن يراه من الخارج عبثي .. لقد إستشهد الالاف بدون سبب أو جدوى ..في نفس الوقت يرفض الناس التعلم من دروس السقوط و يكررون الأخطاء مرة تلو الأخرى و كلما خابوا قالوا خيرها في غيرها.. نكسب المرة اللي جاية أكيد ..و لم تأتي أبدا هذه المرة الجاية
لو مت في ذلك الزمن كنت سأضيف رقما مجهولا للكشوف.. لا أكثر و لا أقل . . و ينتهي الأمر بمعاش للورثة تتضاءل قيمته مع الأيام ..يرددون بعده بفخر أن والدهم الشهيد قد ضحي فداء للوطن..و صورة عليها شريط أسود في صدر المنزل تبق حتي تموت والدتي فتزال ..وبوكية ورد أمام قبر الجندى المجهول كل سنة و دمتم .
ولكن لسوء الحظ أنني عشت ..و كبرت و أصبحت كهلا .. في الرابعة و الثمانين ..لأرى ما لم أكن أتصور حدوثه في اقصي كوابيسي ..
لقد أصبح الضباط (( كسيبة )) يربحون من كل نشاط متاح .. مصنعين و مزارعين و صيادين و سماسرة ..مقاولين ..و تجار بل أصبح الشهبندر منهم ...
.و أصبح إهتمامهم الأساسي زيادة حصيلة الأرباح ..و مشاركة المستثمرين و فرض ولايتهم علي كل الأنشطة المدنية إذا كان فيها سبوبة .. و لم يعد ضباط اليوم يفتشون البوتات الأمريكية خوفا من تطفل الحشرات و القوارض عليها .. فالصحراء لم تعد مكانا لعملهم .
لم يتقدم ناسي و لم نتعلم من الهزيمة ..وهدر الدم ..و لم نقرأ قوانين الواقع بدقة .. حتي أصبحنا نعيش في بلد تسقط بسرعة .. ابناؤها و منهم أنا ..يقفون ينظرون للإنهيار بسلبية.. و ينتظرون التسونامي القادم مع نتائج الإصلاح المزعوم .. و الحط من قيمة عملتهم حتي تصل لغملة لبنان و السودان ... و يتدبرون كيف سيعدلون حياتهم للتوافق مع قرارات السادة الحكامِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي


.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية




.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق


.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري




.. عائلات الأسرى تقول إن على إسرائيل أن تختار إما عملية رفح أو