الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آخر أبطال الأوديسة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٦٣ - بطل الأوديسة الجديد

وبعد أن وصل بارمينيدس في عربته إلى نهاية رحلته وتمكن من إجتياز البوابة، تستقبله الإلهة بترحاب ومودة وتأخذ بيده اليمنى وتقول له : "مرحبا أيها الشاب القادم إليّ في داري تقلك عربة تقودها سائقات خالدات. إنها ليست صدفة سيئة، بل "القانون" و"العدالة" هي التي أرسلتك في هذه الرحلة البعيدة حقا عن طرق البشر المألوفة. لذا عليك أن تتعلم كل الأشياء، قلب الحقيقة الدائري بأناقة والذي لا يتزعزع، ولكن أيضا آراء البشر الفانون المفتقدة للحقيقة واليقين. لاحرج من أن تتعلم الآراء الوهمية أيضا، كيفية المرور الفعلي خلال كل الأشياء، الإنسان يجب أن يحكم على الأشياء التي يبدو أنها تكون. ولكن أبعد فكرك عن طريق البحث هذا، ولا تترك العادة بخبرتها الكبيرة تستهويك وتجبرك على إلقاء عين شاردة أو أذن صماء أو لسان صاخب على هذا الطريق؛ لكن احكم بالحجة وتبصّر وأحكم بتعقل على الدليل القابل للجدل الذي نطقت به. لم يعد هناك سوى طريق واحد يستحق الكلام عنه."
ثم يتلاشى صوت بارمينيدس نهائيا، وتبدأ الإلهة في إرشاده وتعليمه مباديء وطرق البحث عن الحقيقة. ليس هناك سوى طريقين لا ثالث لهما، طريق الكينونة وما هو كائن، وطريق اللاكينونة أو ما لايكون. الطريق الأول هو طريق المعرفة الحقيقية والآمنة، أما طريق اللاكينونة فهي طريق خطرة ومسدودة ولا توصل إلا إلى الأوهام والسراب.
هذه الطريق المسدودة والتي لا تؤدي إلى أي مكان، يمكن تسميتها بطريق "العدمية" أو بطريق ما لايكون، وهو طريق ليس وهميا أو متخيلا، لأن الإلهة حذرته من أخذ هذا الطريق الشديد الخطورة. وتبدو هذه الرحلة شبيهة برحلة أوليس للعودة إلى إيثاكا بعد نهاية حرب طروادة، ومروره قرب جزير ة الحوريات - السيرينات Sirènes، حيث يطلب من بحارته أن يقيّدوه بحبال متينة لصارية الباخرة، بينما بحارته أغلقوا آذانهم بالشمع حتى لا يسمعوا غناء الحوريات الساحر. ذلك أن أوليس يريد أن يسمع هذا الغناء ويتعرف عليه دون أن يؤثر فيه، حيث أن الساحرة سيرسي Circé حذرته من هذا الغناء الذي يجذب البحارة نحو الأعماق ولذلك قيد نفسه إلى الصارية، وهو نفس موقف بارمينيدس من الأفكار والثرات - الدوكسا، يمكنه أن يعاين ويتعرف على هذا الفكر على شرط ألا يتبعه، حيث الإلهة حذرته بألا يثق في الأفكار المتعارف عليها ويتجنب السير في هذا الطريق حتى لا يغرق. ومن المتفق عليه من قبل أغلب المتخصصين أن بارمينيدس كتب قصيدته على غرار قصائد هوميروس وبالذات الإلياذة والأوديسة وذلك حتى يضمن الإستماع إليه ليقول الحقائق التي أكتشفها ويريد أن تصل لعامة الناس. وقد كشفت الدراسات الحديثة، حسب الباحثة باربارا كاسان، بأن المئة والخمسين بيتا المتبقية من قصيدة بارمينيدس، هناك فقط خمسة كلمات جديدة لا تنتمي لقاموس هوميروس، كما أن الإشارات والتلميحات لشخصيات أسطورية هومرية عديدة ولا يمكن إغفالها من قبل قراءة متأنية. ويبدو أن بارمينيدس واصل التقاليد اليونانية فيما يسمى بالـ "الطرس -palimpsest"، هو محو أو غسل الكتابة من الصفحة في الكتاب أو المخطوطة، ليكتب عليها نصا جديدا. والتطريس مصدر، "طرس" مشتق من "طرمس" بحذف الراء أي محى، وطرمس مشتق من من "طمس" بزيادة الراء، طمس الخط أي عمّاه حتى لا يُقرأ. فبارمينيدس أراد إعادة كتابة ملحمة هوميروس وخلق بطل جديد يحل مكان هيكتور، آشيل وأوديسيوس وهو الكائن to eon. إنها إذا ملحمة جديدة تتابع رحلة الفيلسوف إلى بلدان أو جزر المعرفة، مسافرا من ظلمة الليل التي عاش فيها طوال شبابه إلى ضياء النهار تقوده بنات الشمس، وعليه أن يقطع المسافات ويواجه المخاطر الفكرية المتعددة، حيث عليه منذ البداية أن ينسلخ ويترك جلده القديم ويولد من جديد.
والكينونة مفهوم فلسفي ظهر لأول مرة مع بارمينيدس، لكنه موجود أيضا عند أفلاطون وأرسطو وبقية الفلاسفة - باليونانية القديمة: τὸ ὂν, τὰ ὂντα - وهو يشير إلى ما هو أو مايكون. وهذا المفهوم يجعل من الممكن التمييز بين التجربة الفينومينولوجية التي يعيشها كل إنسان في اتصال مع العالم الذي ينغمس فيه، من المفهوم الميتافيزيقي للفيلسوف أو المفكر الذي يتساءل عن جوهر هذا الحضور في العالم. يسلط هذا التمييز الضوء على الفرق بين مفهوم الكائن l étant كما يظهر نفسه ومفهوم الكينونة l être باعتبارها حقيقة الكائن، وهو ما يؤسسه ويسمح بحضوره. بالنسبة لمارتن هايدجر، فإن الكينونة بقدر ما هي مطلوبة، تتطلب أونطولوجيا أصليّة تتميز بشكل أساسي عن أي نمط من أشكال اكتشاف الكائنات. إنه يخالف التعريف التقليدي لجوهر الإنسان، وكذلك كل الإشكاليات التي تتعلق بالطبيعة البشرية. الكائن l étant إذن هو كل ما نتحدث عنه، كل ما نفكر فيه، كل ما نتصرف تجاهه، ولكن أيضًا ما نحن عليه والطريقة التي نكون بها ما نحن.
هذا الكائن في قصيدة بارمينيدس مغلل بدوره من كل الجوانب مثل أوديسيوس المقيد اليدين والقدمين والمشدود بحبال متينة للصارية، هذا الكائن تحكمة العدالة ديكي diké من ناحية، والقدر مويرا moira من ناحية أخرى ثم الضرورة أناكي anagké والحدود بيراتا peirata، وبالتالي فهو ثابت في مكانه، تنقصه الحركة وإمكانية التغير.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر