الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيزوفرينية

أبوبكر المساوي
باحث

(Aboubakr El Moussaoui)

2024 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من المسلمات والبديهيات العقلية عند إي إنسان يحكم العقل وينبذ الخرافة في زمننا أن الحالة الجنينية وما يصاحبها من تحولات من بداية التكوين إلى نهايته شيء يخص الطب والعلوم المتعلقة به، ويخفى على الآلهة والعرافات والكهان ومدعي الإلهام ومدعي المعرفة المطلقة بكل موجودات الكون الظاهرة والباطنة، وقد أسقط العقل هذه المعرفة من لائحة اختصاصات هؤلاء نظرا لثبوت الخطأ في ما أخبرونا به عبر آلاف السنين، ومع ذلك نرى كل هؤلاء مصرين على حشر أنوفهم بكل وقاحة في شيء كهذا وأشياء أخرى كثيرة لا تمت لمداركهم بصلة، متمسكين بركام الهراء والسخافات التي لعبت دور المهدئ لهواجس الإنسان وانشغالاته، ومرشده في التعامل مع ما حل به من ظواهر طبيعية وما استجد من أحداث اجتماعية، ومع الأزمات المصاحبة لذلك في أزمنة مضت. لكن وبخلاف كل هؤلاء فإن صاحبة الحمل قد تكون وتراكم نوعا خاصا ومحددا من المعرفة المبنية على الحدس والاتصال الداخلي المباشر مع حملها أو مع تلك الكتلة التي تزداد ثقلا يوما بعد يوم، والتي قد تحمل من المعاني والمفاهيم ذينك النقيضين الملازمان لحمل الحياة بين أحشاء الإناث، الفخر بالخصوبة وبمسببات الحياة من جانب، وكراهة ذلك الثقل المادي الفيزيقي من جانب آخر، و ذلك الهم والخوف والقلق النفسي المصاحب لحدوث تلك الكتلة وزيادة نموها مع مرور الأيام، والتي ستصبح كائنا حيا ملموسا بعد تسعة أشهر أو أقل بقليل، لتولد هواجس أخرى فتصاحبها طقوس غريبة في شكلها ومضمونها وتبدأ صاحبة الحمل قبل أي أحد آخر بتلاوة التعاويذ التي لقنوها إياها بلغة غريبة عنها، دون فهم أو استيعاب لمعنى الكلمات التي تتلفظ بها، وبفعل عامل قهر التقاليد والموروثات العقائدية البدائية التي تحمل من القداسة ما يكفي لحبس أنفاس الجميع بمجرد ورود ذكرها في أي تجمع، والتي تتكفل بحمايتها المسنات من الإناث وتحرص على تلقينها للصغيرات. تسارع المسكينة إلى تعليق التمائم مرة في العنق وأخرى في المعصم وتلجأ إلى إحراق نوع خاص من الأعشاب وربما بقايا حشرات أو حيوانات من عظام وفضلات في محيط البيت -لتطفو إلى سطح الحياة تلك الممارسات التي تعود بالإنسان إلى فترة الطفولة البشرية- اتقاء لذلك الشر الذي قد يتسرب إلى حياة المولود الجديد عن طريق مجرد نظرة إعجاب أو بسبب لمس أو تقبيل أو أي اتصال حتى وإن كان مجرد تفكير، وهلم جرا، وتبدأ مسيرة الخوف التي لا تنقطع نهائيا حتى بعد عودة الإنسان إلى العدم بعد عمر طويل، ذلك الخوف المتعلق بمصير الإنسان بعد الموت. وقد تخرج تلك الكتلة من بين الأحشاء كائنا دون حياة لتظهر معه تأويلات سوداوية من قبيل الغضب الإلهي أو وجود كائنات شريرة بين أحشاء الأنثى، وهذا ما يحول حياتها إلى جحيم نفسي واجتماعي حقيقي، ويحتمل أن يكون فرط الحسد والغيرة قد دفع إحدى الإناث الحاقدات إلى القيام بتحظير عمل من أعمال السحر، أو إلى اتصالها بكائنات نارية شريرة من وراء حجاب لاستنزال الشر بتلك الأنثى الولود الخصبة التي تذكرها بنقصها، أو بتلك اللعنة التي أصابتها بعد اكتشافها ذلك الخلل الذي تتوهم أنها المسؤولة الوحيدة عنه، أو بالأحرى ذلك الذي أوهموها به في إطار تلك المنظومة الاجتماعية الذكورية التي تنزه الذكر عن إصابته بالنقص أو العجز وترفعه إلى درجة الكمال، بينما تحط من قيمة الأنثى وتساويها بأكثر الكائنات حقارة ودناءة، أما أكثر الأشياء التي قد تحط من قيمة الأنثى وتؤول بها إلى التلاشي فهي أن يكون مولودها الأول أنثى، أما إن كان الثاني والثالث كذلك فلا حل لها إلا أن تلف ما بحوزتها من أسمال بالية من تلقاء نفسها، في قناعة تامة بفشلها في المهمة الرئيسية التي أعدتها الطبيعة لها حسب اعتقاد المجتمع، وتحضن رضيعها وتحمل الأوسط الذي تجاوز الحول بقليل على ظهرها وتجر الأول حافي القدمين عاري الأسفل لتسلك ذلك المسلك -الذي أتت منه قبل أربع سنين أو أقل راكبة فوق دابة على إيقاع الزغاريد والأغاني- قافلة إلى بيت ذويها على مضض لكون ما أتته من إنجاب للأنثى مثنى وثلاث يحمل الخزي والعار لكل الأهل -في جو من اللامبالاة والبرود، بينما إناث البيت الكبير يحضرن للإتيان بأنثى جديدة للذكر الذي لا يأتيه النقص من بين يديه ولا من خلفه أبدا، رغم أن عاطفة قد تهز كيانه وصوتا يناديه من أعماقه ويطالبه بردع ما يقدم على فعله كل المحيطين به دون رحمة ولا شفقة، لكن إرادة الفرد عنده دمرت منذ أيامه الأولى لتترك مجالا لسلطة وإرادة الجماعة، فيكتفي ببلع ما يدور في دواخله اتقاء لشر التجمع البشري المحيط به الذي لا يبالي برغبات وميول الفرد التي يعتبرها شذوذا وعصيانا وتمردا. هي معاناة وهم وغبن ما تعيشه الأنثى في كل الأحوال سواء ضفرت من علاقتها مع الذكر بمولود أو حرمت من ذلك. أما الكائن القادم الجديد إلى الحياة فلا يقل معاناة وغبنا عن أمه التي قد لا يتجاوز سنها مرحلة الطفولة، لتبدأ تلك العلاقة الغريبة بين الطفلة الوالدة والطفل الوليد.
يمضي العام الأول من حياة الكائن الحي الجديد الذي قد يدخل الكثير من القلق على أهله بسبب البكاء الذي قد لا يفهم معناه في الأيام الأولى من حياته خصوصا حين يكون أول العنقود، فتؤول تأويلا خرافيا في كثير من الأحيان رغم أنها غالبا ما تكون أصواتا طبيعية للتعبير عن ضيق ما أو للمطالبة بتلبية رغبة بيولوجية، وقد يزرع دواعي البهجة والسرور بين ذويه بابتسامات وضحكات وحركات ربما للتعبير عن حالة إشباع، أو فرح لرؤية كائن تربطه به علاقة عاطفية من نوع ما، أو لاكتشافه شيئا جديدا عن طريق حواسه وقدراته البدنية أو الفكرية، فيكون التفاعل معه إيجابيا فيه كثير من التعبير عن الامتنان والشكر وتمني دوام الفرح والسرور وانقطاع مسببات البكاء والألم والأمراض التي تشعل نيران الخوف والهلع في الأهل، و قد تزلزل أركان بيت الزوجية لما قد تتهم به الأم من إهمال وتقصير من طرف والدي الزوج وعائلته وكل من يسبح في فلك البيت الكبير، وربما يصل صدى هذا الاتهام إلى المنازل والعائلات المجاورة فتلقي بنصيبها من اللوم على أضعف كائن في ذلك البيت الكبير حجما والصغير أفقا والضيق قلبا والشحيح عاطفة، حيث تسود سلطة وجبروت الأكبر سنا والأقوى والأغنى من الرجال وسلطة الأكثر دهاء وخبثا من النساء.
مع بداية أولى الخطوات وظهور تلك الرغبة الجامحة في اكتشاف المحيط والأشياء عن طريق اللمس والتذوق والجر والكسر، تتغير طريقة التعامل مع الولد رغم أن الأشياء القابلة للكسر نادرة جدا، إلا ما تعلق منها ببعض الأكواب الزجاجية التي يحق للوالد استعمالها لاحتساء الشاي المصاحب لجلسات تدخين السجائر أو الكيف، وعدد قليل من الأواني الفخارية التي يحتفظ بها للمناسبات الخاصة، ورغم أن كل البيت الخاص بالأسرة عبارة عن غرفة واحدة من ضمن البيت الكبير الذي قد يضم عشر أسر، مؤثث بفراش شبيه بفراش البهائم حيث يستلقي الكل مصطفين متجاورين في منع صارم لكثرة الحركة التي قد تؤدي إلى اصطدامات وعنف لاإرادي خلال النوم، أما ما يقي أفراد الأسرة من البرد فهو عبارة عن أغطية خشنة مصنوعة من صوف الحيوانات الأليفة التي تم ذبحها في حفلات الزفاف والاحتفال بالمولود الذكر.
ينتهي زمن المداعبة والغفران والصفح ثم يفتح للوليد الجديد كشكول افتراضي خاص بالمخالفات، ويبدأ تنزيل القوانين الصارمة مصحوبة بالصراخ والركل والرفس، ويبدأ تطبيق الوصايا العشر التي قد تعطل أو تعلق في حالات استثنائية قليلة، لكن المنع والقمع والخطوط الحمراء هي القاعدة الأساسية للتعامل معه، وفي مقابل ذلك يلجأ إلى تحديد أولى اختياراته، فإما يكون عنيدا مصرا على فعل ما تمليه عليه الطبيعة كونه في حاجة إلى الانطلاق والتعلم والتعرف على ما يحيط به فيذوق المر على أيدي أهله ويوضع في خانة المغضوب عليهم، أو ينصاع للأوامر فيكتسب صفة الولد الطيب الذي يصغي للكلام ويحسن التطبيق، ويحرص على عدم تخطي الخطوط الحمراء وكبت أي رغبة قد تراوده في المضي نحو سبر أغوار العالم والتعرف على حدود قدراته وإمكاناته، ومع تراكم المكبوتات تظهر علامات الإعاقة العاطفية وبذلك ينطفأ بريق الطفولة في سن مبكر ليحل محله غشاء شاحب يكسو وجه الضحية، ويجعل بينه وبين عالم الطفولة حاجزا يصده عن الاتصال بذاته وعيش حياته بشكل طبيعي فينعكس ذلك على تصرفاته وكلامه اللذين يتجاوزان حدود عمره، ثم تتوالى التشوهات والإعاقات النفسية والاجتماعية مع توالي وتراكم الصدمات والمنع والصد والهم الذي يتسلل إلى عقله الباطن في غفلة منه ومن جميع الضحايا المحيطين به كبارا وصغارا، لما يسود المجتمع من أمية وجهل بأبسط قواعد التربية في زمن تجاوزت فيه أغلب المجتمعات الأخرى حدود مجرد معرفة القراءة والكتابة، وعبرت حدود الخرافة ونجحت في تحطيم الأصنام الفكرية التي تكبل العقل وتمنعه من الغوص في بحور الكون الفسيح.
في سن الثالثة يترقى الولد ترقية استثنائية مفاجئة قد تودي بحياته أو تقلبها رأسا على عقب، حيث ينتقل من مجرد طفل يلعب بجوار المنزل الكبير مع أقرانه ومع الحيوانات الأليفة التي قد تعضه أو ترفسه من حين لآخر، إلى عامل بدون عقد عمل وبدون أجرة وفي غياب تام لأي كلمة تحمل تعبيرا عن الشكر والامتنان لما قام به من مهام تفوق قدراته الجسمانية، فقد يحمل أثقالا ويقطع مسافات طويلة لأجل المساهمة في التخفيف من معاناة الأم خصوصا حين يتعلق الأمر بإحضار الماء من العين أو النهر اللذان غالبا ما يتواجدان على مسافة بعيدة عن البيت مع خطورة المسالك، وبذلك يشتد عوده قبل الأوان وتبدأ أصابعه في الاعوجاج وعضلاته في البروز، وتمر السنين على نفس الوتيرة، نوم وصحو وقيام بأعمال تفوق القدرة البدنية للأطفال العاديين مقابل سويعات من اللعب التي تخفف عنه أعباء المهام القاسية المسندة إليه حتى يجد نفسه وقد استلم مهام الرجال في مرحلة الطفولة، وهذه هي الترقية المشؤومة الموالية التي اغتصبت طفولته للمرة الثانية ليزيد الحمل ثقلا.
إيهام الطفل بالكبر والرشد قبل الأوان وتذكير الراشد بصغره وقصوره وسيلتان من وسائل التحكم وفرض السلطة الأبوية الذكورية المباشرة، وهما ناتجان عن الانفصام المزمن المتوارث الذي ينخر المجتمع وعن الازدواجية والتناقض في المعايير التي قد تظهر بشكل فاضح في مواقف كثيرة من الحياة اليومية للفرد ابتداء من سن المراهقة إلى سن الشيخوخة، حيث يعتبر الإنسان راشدا وقاصرا في آن واحد، وينقل من حال إلى حال حسب ما تقتضيه المصلحة الخاصة لأصحاب السلطة والنفوذ في البيت الكبير، وحسب إملاءات أوهام القبيلة وتقاليدها وأعرافها التي يحرص الكل على تقديسها وزرع الرهبة والخوف المرضي تجاهها بين كل المواليد الجدد، في جر واضح إلى ظلمات وأغلال الماضي السحيق لإعادة إنتاج تلك العلاقة المرضية مع الفزاعات الفكرية التي زاوج فيها الإنسان البدائي الذي خلقها بين كل المتناقضات التي تعكس هواجسه وانشغالاته والتي تتأرجح بين مزيج من آمال وآلام، وخوف وطمأنينة، ونقص يطارده في الزمان والمكان، مصحوب بسعي حثيث نحو وهم الكمال الذي تفنن في إسقاطه على كيانات تسكن خارج كل الأبعاد التي قد يتوصل الإنسان إلى إدراكها لإضفاء طابع الغموض، بادعاء استحالة الإحاطة علما بماهياتها والتي ادعى الإنسان البدائي أنها تملك كل الصفات الإنسانية في صيغتها المطلقة وتحرك العالم وتعطي وتمنع وتعذب وتعفو...إلخ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات