الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المألوف المجتمعي بين التغيير والتحول

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2024 / 2 / 18
المجتمع المدني


فيما روته جدتي لأمي بأن عقدة لسانها لم تحل إلا بعد أربع سنوات، كان ذلك عندما زارتها غجرية تخطُّ بالودع، وتفك السحر، وتُنطق الحجر...وقد وصفت وزادت وقدرت بوصف حال الصغيرة الخرساء كما لقبها سكان القرية. حال ابنتها الصغيرة التي لم تنطق حرفاً بعد، وضيق العيش في القرية أضاق عليها سعة صدرها. أصغت الغجرية باهتمامٍ، وقبل أن تُنهي جدتي حديثها جعلت تشدُّ العصبة على رأسها، وقد شمرت عن ساعديها، والأساور الفضية والخرزية تطقطق طقطقةً في كلٍّ رفعة وخفضة. ونطقت: هاتي لي بمقصٍ وخرقة بيضاء، ودعي أحداً من الصبية يُخيفُ الصغيرة، ولتدخل علينا فزعةً وجلةً لا تجدُ لها نصيراً . وكان لها ذلك، وقلب جدتي يتقطع وقد تعلقت بخيط رفيع من الأمل، ولكن الغجرية جعلتها بعيدة عنها، وأبكمتها فلم تنطق...حين دخلت الصغيرة فزعةً وجلةً تريد حضن أمها كان المقص بانتظارها؛ فصرخت صرخةً قويةً من أعماقها، وغابت عن الوعي على الخرقة البيضاء. ظنَّ الجميع حينها أنَّ الصغيرة قد ماتت، والغجرية تمنع أحداً أن يصل إليها وهي تنظر بثبات عينيها إلى الصغيرة المغشي عليها...انتصف النهار حين أفاقت الصغيرة، أخذت تفرك عينيها وهي تغمغم: أريد أن أكل، أريد أن أكل.
ماذا لو فعل أحد الأطباء فعلة الغجرية تلك، وقبض بمقبضه هذا ليخيف الصغير والكبير ليفك عقدة اللسان؟! لكان نصف الناس أبكماً والنصف الآخر مجنوناً لكنه نصيب الصغيرة بأن تنطق.
الجهل الذي غرقت به المجتمعات، وسيطرت فيه قوى الخزعبلات والأساطير، وابتعاد الناس عن فلك الحضارة والمدنية جعلهم يُضيقون دائرتهم الفكرية والسلوكية على المخاوف ويحتكمون إلى الأساطير؛ فكان الفتوات، وكانت الغجريات، وكان البسطاء من العوام. ولم تكن المدنية بأحسن حالاً؛ فكان المحتالون، والمطففون، واللصوص، وكثرت المسميات، وكثر المسمون بها، وبقيت القضية واحدة؛ بأنَّ هناك منطقاً واحداً ألا وهو: ضحالة المخزون المعرفي الفكري، وضآلة الوعي المجتمعي. وإن كنا نعرف السبب والمسبب فهل لنا أن ندرك منطق العلاج؟! اعتادت الشعوب على مدار التاريخ بأن تتخذ تعويذة تحميهم من السحر والشر؛ الذي يمكن أن يحيق بهم، ومن الشعوب من جعل نوعاً من الأعشاب الطبية سراً للبقاء بصحة جيدة، واحتفظت بسرها فلم تمنحه لأحد، وتناقلته بعد حين الأجيال جيلا ًبعد جيل. ومن الشعوب من كان لهم سر في التبرك بمقدس ما؛ فجعلوه هو المسيّر لأنماط حياتهم والتبرك به كمنهج سلوكي يحميهم من شيء اسمه الغيب أو المستقبل أو المجهول، أيّ كانت الكلمة فهناك غيب، ومالغموض الذي
يكتنفه إلا المحرك الحيوي لعملية البحث الإنساني. وهو الذي يبيح للمرء أن يفكر بطريقة ما كفيلةً بأن تحميه، وبأي ثمن؛ فالإيمان والانقياد نحو شيء ما هو بمثابة التخلي عن المسؤولية في مجابهة الأقدار، والرغبة في أن تُحَمِل الآخرين نتيجة الفشل فيما غير من النجاح فسيتم ادخاره للنفس. هل هذا يعني أننا ولدنا لنبحث عن القوى؟ بالتأكيد، لأن البحث عن القوى هو شيء فطري لدى الإنسان، ولذلك تمثلَ التاريخ الإنساني بالبحث عن القوى، واتخاذ القرابين، واتخاذ السحرة والاستسلام لمن يكشف لهم الغيب؛ مفهوماً واضحاً أو شرحاً ضمنياً أو رغبةً صريحةً من أجل العلم بدقائق الأمور؛ فكان علم التنيجم والذي مازال رائجاً حتى يومنا، على الرغم من التقدم التكنولوجي والصناعي الذي ساهم في تسهيل حياة الناس، ولكن ليس في تنمية مخزونهم الذهني والمعرفي. إنَّ قطع أشواط كبيرة في التقدم لا يعني بالمطلق بأنَّ أنماط التفكير قد تغيّرت، قد تحللت إلى عواملها، أو قد اكتسبت مفاصلها نوعاً جديداً من المراهم يلينها ويزيل عنها ما أصابها من تكلس أو تهالك. المنطق الذي ندعيه هو منطق تنمية الفكر؛ ولكن عن أيّ فكر نتحدث؟! وعن أيّ تنمية أيضاً نتحدث؟ كلاهما بالنسبة إلينا سير نحو طريق فقط يلزم لأغراض الدعاية والإعلام، والسبق الصحيفي، وأشبه بعرض للأزياء التي لا يدري أحد إن كانت فعلاً أزياء أم مجرد قطع غريبة غير متجانسة وغير قابلة للمزاولة في الحياة العادية وطبيعة الشارع ومنهج السلوك البسيط . إن المفاهيم المدرجة ضمن التنمية الفكرية؛ هي ذات بعد واحد ضيق الأفق، لا يصل بمرساته إلى القاع، إلى الجذور. بمجمله ينادي إلى التغيير من نقطة البداية إلى نقطة النهاية والتغيير بحد ذاته قطعة لينة قابلة للانطواء والتعديل؛ وبذلك فهي قابلة للعودة إلى نقطة البداية إن غاب المؤثر، وفي هذه الحالة يُعتبر ذلك إنهاكاً للقوى، وعجزا بمسماه الفضفاض عن إحداث التغيير المجتمعي. ولكن ماذ لو كان تحولاً مجتمعياً؟! ولو كانت التنمية الفكرية؛ هي بمضمونها برامج تبحث بمنطق التحول، كعلم الكيمياء بالضبط، بتركيبة من العناصر مع بعضها البعض بفعل عامل الحرارة ثم التفاعل الكيميائي؛ الذي يخلق بدوره مادة أخرى جديدة تختلف بتركيبها الكيميائي عن تركيبة المواد التي دخلت في التفاعل الكيميائي، الأمر الذي يجعل عدم قدرتها على العودة إلى حالتها السابقة الحقيقة الماثلة. وبمستوى فكري آخر فإن التحول يأتي من الداخل، من الأعماق، من الثقافة المجتمعية، ومن تركيبة الموروث، ومن علم العقد الاجتماعي...وهذا بحد ذاته يعني بدلالة واضحة ضرورة توحد القوى ذات العلم والفهم والبحث والسياسة والأدب مع بعضها البعض، لتكون عجينة متجانسة قابلة للتطبيق بمحاكاة المنطق المألوف مجتمعياً، ولكنه فعلياً موجه نحو التنمية الفكرية ودعم المخزون الفكري المجتمعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تنهي أو تعلق التحقيقات بشأن ضلوع موظفي -الأونر


.. أخبار الصباح | حماس تتسلم الرد الإسرائيلي بشأن صفقة الأسرى..




.. ما آخر المواقف الإسرائيلية بشأن صفقة تبادل الأسرى؟


.. لغياب الأدلة.. الأمم المتحدة تغلق قضايا ضد موظفي أونروا




.. اعتقال حاخامات وناشطين في احتجاجات على حدود غزة