الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنجيل بَطرس بين (المسيحية الظَهْوِرِية والجسدية) مع وصف الكنيسة المُبكرة للغنوصيين

ابرام لويس حنا

2024 / 2 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تعتبر الغنوصية هي شكل من اشكال الدين في العصور القديمة المتأخرة، إن التعريف القاطع للغنوصية هي "ديانة المعرفة" أو "البصيرة" ، مثلما ما الكلمة اليونانية غنوص، لكن الامر ليس بتلك السهولة ، لكنه على الاقل يجب ان يتم تفسيره بصورة مختصرة في البداية ، ولن نخطئ كثيراً اذا رأينا الغنوصية على انها ديانة ثنائية المذهب ، تحتوي مدراس وحركات عدة ، والتي أتخذت موقفاً سلبياً تماماً تجاة العالم و المجتمع في ذاك الوقت ،و اعلنت خلاصاً (عتقا) الإنسان من حواجز وقيود الكيان (الوجود) الارضي من خلال "البصيرة" داخل العلاقة الاساسية بين "النفس" أو "الروح" مع مملكة الحرية و الراحة فوق الدنيوية ، تلك العلاقة المحجوبة عن الانسان بصورة مؤقتة، وقد انتشرت الغنوصية عبر الزمن و المكان، و منذ بدايات هذا العصر فصاعداً في الجانب الغربي من الشرق الأدني اى ( سوريا ، فلسطين ، مصر ، آسيا الصغري) يستطيع المرء ان يقول أن الغنوصة اتبعت الكنيسة مثلما ما يتبع الظل الضوء ، فلم تستطيع الكنيسة التغلب على الغنوصة على الإطلاق ، فتأثيرها كان عميقاً جدا ، لكن تزال المسيحية و الغنوصية بسبب تاريخهما المشترك مثل الشقيقات الأعداء (1)

فالغنوصيين يعتقدون أنهم مرتبطون إرتباطاً جوهرياً بالاله الأعلى / السامي وذلك لان ذواتهم الحقيقية هي عبارة عن أجزاء مُشتتة أو متفرقة من الله، و لهذا فإن جوهر الطبيعة البشرية ليس كأنه صورة الله أو يُشبة الله لكنه بالفعل إلهاً، ولهذا فإنهم يدعون بإنهم كائنات روحية لانهم كما يعتقدون اجزاء من الآب أودعت في نفوسهم ( إيريناوس ، ضد الهرطقات، 2.19.3)، هذه البذرة الروحية تكون بلا شكل و غير مُشكلة و غير ظاهرة حتى توضع في روح الإنسان، وعندما تنزل الروح الى داخل جسد الإنسان ، فإن الجسيم الروحي (البذرة الإلهية) تأخذ شكل الوعي " ( 2.19.2–4) ، و على هذا فإن الانسان في حقيقته ليس زائلاً بل خالداً ، و الله الحقيقي ليس موجوداً بين الآلهة التي تعبد في المعابد أو الكنائس، و لا يُمكن معرفة الله بالمنطق أو بالتفكير و لكن عن طريق إختبار مباشر بالله، و الاسفار تحتوي على معني يتجاوز التقليد بل و احياناً مناهض للفكر التقليدي، لهذا يقول إيريناوس بأن الغنوصيين "ضد الجنس البشري" لإعتقادهم "بعدم وجود فرق بين الله غير المخلوق و بين الانسان" (4.38.4).

دائمًا كان يبدأ الفرض الغنوصى بمبدأ واحد أبدي وهو أن الله قد انبثق منه أيونات التي هي كائنات وسيطة أو تجليات بطريقة مُتسلسلة هرمية، و نتيجة خطأ قام به أحدى الايونات السفلى و يسمي (ديميروج أو ديميورغ Demiurge ) الذي غالباً ما يتم تصويره على يهوه الخالق إله العهد القديم، وخالق الكون المادي والجسد، ومن هنا نشأت الثنائية بين المادة والروح، و بين الارضي و السماوي ، وبالرغم من هذا العالم الذي خلقه ديميروج كان مادياً إلا إنه كانت هناك آثار باقية من العالم الروحي تمثلت في روح الانسان التي تعتبر شرارة إلهية من العالم الاعلى ( بالرغم من جهل تلك الروح بأصولها السماوية ) ، و لكن للاسف بطريقة لا يمكن تفسيرها اصبحت روح الانسان متعلقة و مشتبكة بعالم الماديات (العالم المادي) ، مما تطلب تدخل من قبل الله الصالح - الذي هو المبدأ الوحيد الدائم التي انبثقت منه الايونات- وتمثلت النجاة بإرسال مبعوث خاص من مملكة النور الى عالم الظلام، غالبا ما يتم تحديد هذا المبعوث بالمسيح، الذي كان يتم تمثيله بصور متعددة فمثلاً يتم تمثيله على انه شخص إلهي يظهر في هيئة بشرية (الدوسيتية) ، أو كقوى أو كروح عليا إرتبطت بشخص مادي أرضي (يسوع)، وقد جاءت تلك الروح الى الارض لكي تقدم الخلاص الغنوصي/ المعرفي للبشرية ، فبالنسبة للغنوصيين يسوع جاء للعالم ليس لكي يتألم ويموت ولكن لكي يطلق تلك الشرارة الإلهية المسجونة في المادة، فيسوع الغنوصي ليس مخلصاً، لكنه كاشفاً ومنيراً ، لقد جاء لكي يكشف ويوصل للبشرية المعرفة السرية (2)

فمثلاً نجد مقطع من إنجيل بطرس الابوكريفي الذي كتب باليونانية والذي اكتشف على هيئة مجلد برشمان (رق) بصعيد مصر عام 1889 يذكر التالي : "وجاءوا بلصين وصلبوا الرب في الوسط بينهما، أما هو فعقد سلامه كما لو أنه لم يشعر بألم" فهنا لم يقل النص انه مات صراحة، بل بالعكس يقول (رُفع للأعلى)، و يستكمل قائلاً : (ونادى الرب وصرخ: قوتي، قوتي، تركتني) و من هذا النص يُرجح بأنه في تلك اللحظة بأن القوة الإلهية فارقت الجسد المادي التي كانت مستقرة مؤقتاً (3).

هذا الإنجيل - أي إنجيل بطرص- الذي كان مَعروفاً لسيرابيون أسقف أنطاكية (190-203 م) ولأوريجانوس مِن بعده (253 م)، و يُحدد Leon Vaganay تاريخه بعد نقاش مطول في كتابه Évangile de Pierre, 147–163 انه يعود ما بين سنة 120 : 130، وبالتالي فهو يُمثل شهادة قديمة من الشواهد المُبكرة المهمة، في حِين يقترح Christian Maurer في كتابه New Testament Apocrypha, Vol. 1, 180 انه يرجع الى منتصف القرن الثاني الميلادي (4).

إلا إنه يَجب علينا أن نُلاحظ إقتباس يوسابيوس مقطعا سيرابيون الذي يقول فيه : "لأننا أيها الأخوة نقبل كلا من بطرس وسائر الرسل كالمسيح، ولكننا نرفض بشدة الكتابات المنسوبة إليهم، عالمين أن مثل هذه لم تسلم إلينا، فلما زرتكم إعتقدت بأنكم كنتم على الإيمان المستقيم، ولكني لم أقرأ الإنجيل الذي وضعوه تحت إسم بطرس، فقٌلت إن كان هذا هو سبب نزاعكم الوحيد فليقرأ، وبعدما قد أخبرت أن أفكاركم قد إنحرفت للهرطقة، فإنني سأسرع في المجىء إليكم ثانية، لذا توقعوني عن قريب، وإنكم تعلمون أيها الأخوة مما قد كٌتب إليكم إننا قد عَرفنا طبيعة هرطقة مرقينوس/ مرقيانوس الذي بعدم فِهمه لما يقوله نقض ذاته، وإنه بعد حيازة ذاك الإنجيل مِن الذين كانوا يدرسونه بعناية خلفاء الذين مَن كانوا يستخدموه الذين نسمهم الدوستين /الظاهريين Δοκητας (5) وَجدنا بعد قراءته ان كثيراً مما يحويه يوافق العقيدة الحقة لمُخلصنا، إلا قلة قد أضيفت للعقيدة، قمنا بالإشارة إليها فيما بعد. (ك6 ف12).

كما يذكر يوسابيوس أنه قد رأي مؤلف سيرابيون على إنجيل بطرس إذا يقل قبل إقتباسه كلام سيرابيون (إن البعض قد إحتفظ ببعض المؤلفات الأدبية لسيرابيون، إلا انه لم يصلنا سوى رسالة إلى دومنينوس الذي في وقت الإضطهاد إبتعد عن الإيمان بالمسيح إلى اليهودية، وأخرى موجه إلى بونتيوس و كاريكوس ورجال الكنيسة و بعض الرسائل الاخرى لمختلف الاشخاص، كما هناك عملاً مؤلفاً بواسطته عن إنجيل بطرس، والذي كتبه ليدحض الإفتراضآت التي يحويها إياه، وذلك بسبب رعية روسوس الذين ضلوا للهرطقة) (ك6 ف12).

إلا ان موقف إعتبار إنجيل بطرس كإنجيل ينتمي للدوسيتة قد تغير في الأونة الاخيرة إذا لم لا يوجد شيئاً به يدعو للدوستية وأمثال من قالوا بهذا هم Schmidt, Mara, Denker, McCant, Crossan, Head ، لذا يقل Raymond E. Brown "بالرغم مِن إتفاقي مع هولاء العلماء، لكني لا أستطيع التأكيد على أن إنجيل بطرس الذي يعود للقرن الثاني الميلادي الذي كان بين يدي سيرابيون لم يَكن بالفعل دوسيتياً، فمثل هذا القول يحتاج لرؤية الإنجيل كاملا، ومما هو بأيدينا ما هو بعض المقاطع و الشظايا له، فلو كان الانجيل الذي ينسب الى بطرس يحوي مثلما يقل لنا أوريجانوس روايات لطفولة يسوع لكنا قد حَسمنا الأمر إن كان دوسيتياً ام لا". كما نُلاحظ أن سيرابيون لم يقل ابداً أن إنجيل بطرس كان بالفعل دوستياً، فقط ما قاله هو ان الدوستيين استخدموه و انه استطاع معرفة الاضافات وإن مٌعظمه قويم الفكر مستقيم الفكر، فالمقاطع التي يُمكن فهمها على كونها دوستية كقوله (قوتي، قوتي، تركتني) وإن المسيح كان (كالصامت لا يشعر بالألم) فهي قد تعني (التجَلد والمساندة الإلهية والتحمل والقوة وعدم الضعف)، وعلى هذا فإنه لا يُمكن القول بإنه طبقاً لسرابيون بالفعل كان إنجيل بطرس يٌعد دوستياً (5).

وفي تلك المقالة القصيرة، سأسرد بعض الأمثلة من الكتب الآبائية المُبكرة عن وصفهم حسب رؤية بعض آباء الكنيسة ولذلك لنُدرك شقًا هاماً من التاريخ المسيحي مع سوء فِهم فيما يُنادي به الغنوصيين (أصحاب البصيرة)، ولنبدأ بالقديس إيريناوس أسقف ليون الذي هاجم الغنوصيين في كتابه المتـداول “ضـد الهرطقـات”، حيث بدأ يشرح للمسيحيين كيف من يدعون بـ"الغنوصيين" وإنهم قد تعدوا الحدود، وكيف انتهكوا الايمان و الحقيقة المسيحية، والتي هي طبقاً هي أن الله الذي يعبده المسيحيين هو يهوه ، الخالق المذكور في الكتاب المقدس، بينما تعليم الغنوصيين ان ذاك الخالق هو إلهاً شريراً و جاهلاً، واعتبر أن مثل تلك الافكار ليست مسيحية ولكنها على العكس ضد المسيحية ، واصفاً إياهم بالمجدفين الذين يجرون الناس للهاوية بجنونهم بإنتهاكهم للإيمان، و يجب إيقافهم بأي ثمن ( إيريناوس ، ضد البدع Against the Heresies، الكتاب الاول ،المقدمة .1).
كذلك صورت الكنيسة الرسولية الغنوصيين بالمنشقين و السحرة و المُبتدعين ، و ذلك لان تعـاليمهم و ممـارستهم اختلفت عن معقتدات و سلوكيات الكنيسة الرسولية، بل وكان يُنظرلأختلاف الرأي على انه جنون و خبل و ينسب التملك والحيازة والقوى الشيطانية مثلما نرى في (إيريناوس ، ضد البدع، 1.13.1, 3, 1.15.6, 1.16.3, 1.25.3–4, 5.26.2 )، و إنهم مجرد مرتدين الذين يرفضون الخضوع ليهوة مثل الشيطان الساقط (إيريناوس، ضد البدع، 1.10.1, 2.28.7) مع تَبرير العنف ضدهم وتجريدهم من الإنسانية و إنزالهم الى منزله الوحوش البرية ومقارنتهم بالضباع التي يجب ان يسلخ جلدها و تذبح (المرجع السابق، 1.31.4) وإنهم كمَثل الذئاب في شكل حملان الذي يجب كشفهم، بل و اسوا من هذا؛ فهم مثل هيدرا الوحش الإسطوري الذي يجب إبادته ( هيبوليتس ، تفنيد الهرطقات ، 5.11.1) (6).

وهنا نُدرك أنه كانت توجد مجموعة تعتنق الفكر الروحي (كالغنوصية والدوستية الظاهرية) مِنذ بدايات المسيحية، وكان الإثنين في صراع، فكرستولوجيا التجسد تجعل ليسوع جسد بشري كامل طبيعي في حين كرستولوجيا الدوسيتية تجعل ليسوع مظهر الجسد فقط ، تلك الثنائية التي لها أصول أقدم منها، فقد تواجدت كذلك بين اليهودية التقليدية و اليهودية الروحية قبل ان توجد المسيحية مُطلقاً.

المراجع :
---------
1- كورت رودولف ، الغنوصية ، ص. 1-2 ، 368، يعتبر البروفيسور كورت رودولف Kurt Rudolph من أبرز العلماء الألمان الذين اهتموا بتاريخ الأديان وفلسفتها، وهو حجة في موضوع الغنوصية. درّس في جامعات أميركية عدة وشغل منصب بروفيسور في جامعة فيليبس في مدينة ماربورغ الألمانية قبل تقاعده. من أهم أعماله كتابه الشهير "الغنوصية Gnosis : طبيعة وتاريخ الغنوصية" (الترجمة الانكليزية 1987)، وكتاب "المندائيون" (بالألمانية 1960-1961 في مجلدين), وكتاب آخر بالانكليزية عن المندائيين (لايدن 1978)، كما ترجم أحد كتبهم الدينية "ديوان نهرواثا" (أي ديوان الأنهر، برلين 1982) أما كتاب الدكتور كورت رودولف (النشوء والخلق في النصوص المندائية) فغني عن التعريف وهو أول كتاب تناول هذا الموضوع الهام بإسهاب وتفصيل.
2- Rhodes, R. (2001). The Challenge of the Cults and New Religions, Grand Rapids, MI: Zondervan, ISBN 0-310-23217-1 (p.134).]
3- [Bruce, F. F. (1988). The canon of -script-ure. Includes index, Downers Grove, Ill.: Inter-Varsity Press, SBN-13: 978-0-8308-1258-5, (p.200).]
4- [Dalton, W. J. (1989). Christ s Proclamation to the Spirits: A Study of 1 Peter 3:18|4:6. Analecta Biblica, Roma: Editrice Pontificio Istituto Biblico. ISBN 88-7653-023-1 (p.35).]
5- الدوستية أو الظاهرية من الكلمة اليونانية δοκειν اي بدأ أو ظهرأو تَراءى، وهي ذات الكلمة التي استخدمت في سفر المكابين الثالث "فما صرخ الناس فقط، بل بدت δοκεῖν الجدران والبلاط وكأنها تصرخ، بحيث فضّل كل واحد الموت على أن يُنجس الهيكل" (3 مكابين 1: 29) لتَدل على عدم حقيقة الشئ في ذاته، إن كرستولوجيا الدوسيتية تجعل يسوع كما لو إنه يَبدو كالجسد لأداء وظيفية مُعينة كالهيئة التي تظهر عليها الآلهة و الآلهات اليونانية والرومانية لقضاء أعمال على الارض.
5- [ Brown, R. E. (1994). The death of the Messiah, Volume 1 and 2: From Gethsemane to the grave, a commentary on the Passion narratives in the four Gospels ,New York London: Yale University Press , (Volume 1) ISBN 978-0-300-14009-5 , (Volume 2), ISBN 978-0-300-14010-1 (p.1337). ]
6- April D. DeConick (2016), The Gnostic New Age: How a Countercultural Spirituality Revolutionized Religion from Antiquity to Today ,Columbia University Press, ISBN 9780231542043, p 262-268








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah