الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحب من المهد إلى اللحد : نشأته و أنواعه

مريم الحسن

2024 / 2 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحب ..
ذاك الثمين النادر و المرغوب جداً, مطلب كل حي تنفس على وحه البسيطة, أو في سمائها, أو في مياهها. نعم .. فالحب ليس حكراً على بني الإنسان, و لا هو ميزة امتاز بها الكائن البشري وحده دوناً عن باقي المخلوقات, كما هو حاله مع ميزة وعي الذات, و مميزات الفهم و التفكر المنطقي و التحليلي و ميزة الخيال, والأهم ميزة ابتكار اللغات المصفوفة و نقل المكتسبات المعرفية المنظومة, عن طريق ترميز أصوات الجهاز الحلقي و ملفوظ اللسان. هذا ما تميز به الإنسان. أما الحب, فحتى النباتات تعرفه, و الحيوانات تسعى إليه و تطلبه, و حال الحيوانات في ذلك, لاسيما الثديات منها, تماماً كحالنا نحن بني البشر. فما هو الحب؟ و هل له أنواع و درجات؟ أم أنه شكل واحد فقط ؟ و لماذا الحب؟

لكي نجيب عن هذه الأسئلة, علينا ربما تقفي أثار ظهور الحب في حياتنا لنصل إلى أولى إرهاصاته و بداية تمظهراته فيها. و لكي نبدأ, يبدو أننا ملزمون بأن نعود بالذاكرة إلى الوراء, إلى أولى لحظات وجودنا في هذه الحياة. لكن كيف لنا أن نتذكر أولى لحظات وجودنا, و نحن لا نملك منها في كتاب ذاكرتنا سوى صفحة بيضاء؟ يبدو أن النسيان سيكون أكبر عائق يحول دون وصولنا إلى غايتنا. هذا مؤكد. فما الوسيلة إذن؟ الوسيلة هي الإلتفاف عليه (أي على النسيان), و تجاوزه بحيلة المراقبة و الملاحظة والاستنتاج .لكن كيف يمكننا مراقبة أمر دثره النسيان فينا؟ الجواب بمراقبة من شابهنا في لحظات وجودنا الأولى, أي حديثي الولادة و الأطفال, و الاستنتاج من سلوكهم و من ردود افعالهم على كيفية ظهور الحب في حياتنا لأول مرة, و كيف تشكل ليصبح هذا الحب الذي نعرفه اليوم, ذاك الذي نتداول أخباره و عديد أوصافه, التي تعددت و اختلفت باختلاف عديد وجهات نظرنا. فماذا سنلاحظ و نستنتج من المراقبة؟

سنلاحظ بدايةً أن الحب هو من أول الغرائز المولودة معنا و المشاعر المولودة فينا, يتفعل و يبدأ بالنشاط بمجرد ولادة الكائنات الثدية. سنستنتج أنه ضرورة حيوية و مُلحة, لكل وليد يخرج من رحم أمه حياً لينمو و يبلغ و يموت على هذه الأرض, لأن حال الحب تماماً كحال حامله, يولد بولادته, ينمو وينضج و يتطور معه, ليرافقه في النهاية في رحلة غيابه, و غياب من عرفوه و شاركوه اياه. سنلاحظ أيضاً أن ضرورة الحب, في مرحلة الخروج من عتم الرحم إلى ضوء الوجود, تعادل بأهميتها كل ضرورات البقاء على قيد الحياة, مثله مثل ضرورة تنفس الأوكسيجين من الهواء, و التغذي على الطعام و الارتواء بالماء.

كما سنلاحظ أن الحب في هذه المرحلة الحساسة, أي الأشهر القليلة الأولى التي تلي عملية الولادة, هو ميزة مشتركة بين الإنسان و الحيوان. غير أنها ميزة هشة , نموها و استمرارها يشترطان على حاملها امتلاك مميزات أخرى غيرها ,كالإدراك و الفهم المنطقي و الذكاء التحليلي, لكن أهمها ميزة وعي الذات لنفسها. لذلك ميزة الحب تنمو و تنضج و تتطور لتتنوع تمظهراً و درجات عند بني الإنسان, و تثبت على حال وجودها الأول عند الحيوان. عند هذا الحد فقط يلتقي النوعان (الانسان و الحيوان) على ميزة امتلاك كليهما لبذرة الحب الواحدة, أما إنبات البذرة و نموها و تثميرها فيشترطون حكماً ارتقاء النوع الذي يحملها, لا سيما ارتقاء وعي هذا النوع, و هذا ما تميز به الإنسان, لهذا صار الحب مسؤولية الإنسان وحده دوناً عن باقي المخلوقات, ومهمة بذل الحب و ممارسته و و نشره و مشاركته مع باقي المخلوقات, واجب مقدر عليه هو وحده فقط لا سواه.

مما سبق تلمسنا مدى أهمية دور الحب في عميلة نشوء الحياة و استمرارها. فماذا عن أنواعه؟ و كيف تبلور الحب و نضج مفهومه ليصل إلى ما هو عليه الآن من تصوّرات عديدة في أذهاننا؟ لنعرف الإجابة لا بد لنا من العودة إلى عملية تقفي آثار إرهاصاته الأولى, و مراقبة بديات نشوئه فينا, لكن هذه المرة سنراقبه من منظور الوليد, غير الواعي له, لنقارنه بما تراه الأم من منظورها الواعي, فماذا سنلاحظ و نستنتج؟

سنلاحظ أن وليد الإنسان و وليد الحيوان يتشاركان نوع الحب الأول نفسه (أي بذرة الحب الأولى). فالحب من منظور كليهما يكون حباً بدائياً غريزياً مشروطاً بغاية وحيدة هي غاية البقاء على قيد الحياة. الوليد طبعاً لا يعي هذه الغاية ولا يدركها, بل ينقاد لها بلا وعي منه و بغريزة فيه أمه ترشّدها و تنمّيها من خلال سلوكها و تفاعلها معه. فالوليد يخرج إلى الحياة مملوءاً بكل احتياجات غرائزه الأولى, تلك المفطور عليها, مجرداً من أي وعي, إلا من "لا وعي" فيه ضئيل جداً, لا زال يذكر دفء ذاك المكان الذي كان فيه قبل الولادة. لذا بمجرد خروجه إلى الحياة يستشعر حاجته إلى إمان ذاك الدفء فيطلبه بالارتجاف و بالبكاء وتلبيه أمه بالإحتضان, من ثم يستشعر الجوع و يطلبه فتلبيه أمه بالإرضاع. و هكذا دواليك, كل ما استشعر الوليد حاجة تُلبى له بحضورالأم فتتبرعم فيه بذرة الحب, لينبت من هذه البذرة جذر و سبلتان. الجذر يتمدد في اللاوعي و يتخزن على شكل رغبة تم إشباعها بفعل الأخذ, أما السبلتان فتتخزنان فيه, واحدة كسلوك يفيد معنى "الإعتماد على" أو "الحاجة إلى", و الثانية كشعور مقرون بهذا السلوك و مستثار به, لكن أيضاً, و الأهم, مغذّى ومرشّد بنوعية و كيفية تفاعل الأم معه.

هذا السلوك الاعتمادي الذي لا يرى بالأم إلا وسيلة لبلوغ الغذاء و ماء الإرتواء و دفء الأمان, سترافقه عاطفة بدائية منبثقة من شعور لذة الإشباع, ستتبلور بدايةً على شكل تعلق بمصدر الرعاية, و ذلك كلما استثارها الوليد بسلوكه و تفاعلت الأم معها بالإستجابة, ومع نمو الطفل و بلوغه مرحلة تمييز ذاته عن ذات أمه و ذوات المحيطين به, ستتواجه عاطفته القائمة على معنى الأخذ فقط مع عاطفة والديه القائمة على معنى العطاء, و من هذه المواجهة سيبزغ في وعي الطفل معنى جديد, سيحاول على قدر سلامة نموه التماهي معه لإلحاقه بمعنى الأخذ في وعيه, ومع مرور الوقت والنمو السليم, سيندمج المعنيان معاً ليصبحان مفهوماً واحداً يفيد معنى الأخذ والعطاء بالمبادلة, وما أن يعي الطفل هذا المفهوم الجديد و يفهمه, حتى تتطور فيه عاطفة التعلق القائمة على الأخذ فقط, لتتحول إلى حب, و إلى رغبة في مبادلة الحب.

ما بين مرحلة الإرضاع و مرحلة الإنفصال عن الأم , تبدأ أولى درجات الحب و أدناها منزلة بالتشكل في وعي الوليد. ستثبت على حالها طبعاً من دون أي نمو لاحق عند وليد الحيوان. أما عند وليد الإنسان, فستستمر بالنمو و بالتتطور لتنضج مع السنين, و لتثمر لاحقاً أنواعاً و درجاتٍ مختلفة من الحب. هذا طبعاً إذا ما سلم وعي الطفل, و داوم على الإرتقاء, و نمى في بيئة صحية غير مريضة, و لم يصطدم بمعوقات نفسية أو مرضية قد تؤخر نموه أو تبقيه عند مستوى محدد من النضج, غير الكافي لإدراك أنواع الحب المختلفة أو التمييز بينها.

بالعودة إلى أولى درجات الحب, تلك التي تبرعمت فقط كعاطفة أولية من دون نمو واعٍ و استقرت على شكل تعلق , يمكننا تشبيه هذا المستوى الأول من الحب بالعقد القائم على مصلحة غير مشتركة و لا يستفيد منه إلا طرف واحد فقط, هذا من منظور الوليد طبعاً. أما من منطور الأم , فالأمر يختلف, و الحب هنا تتمايز معانيه, ونوعه يرتقي بارتقاء نوع حامله. لأن الحب عند الأم غير العاقلة (الحيوان) هو حب مشروط ومرتبط بغريزة الحفاظ على بقاء نوعها, وهو أيضاً محدود بمدة زمنية أقصاها فطام الوليد أو استقلاله عنها. إذن الحب من منظور الحيوان يُماثل في نوعه تقريباً ذاك الموجود عند حديثي الولادة من بني البشر, أي أنه غريزي في المبدأ, و مشروط بسبب.

أما عند الأم العاقلة (البشرية) ففي حبها لوليدها يتجلى الحب بأبهى صوره, تلك الجامعة تقريباً لكل أنواعه و مختلف درجاته. فالحب عندها في المبدأ, لا سيما في عمق لا وعيها الجمعي, غريزي بدائي و مشروط أيضاً بغريزة استمرار نوعها البشري, لكن في الوقت عينه, في وعيها و في لاوعيها, هو حب شبه مطلق, غير محدود بمدة زمنية, أو مشروط بظرف معين, أو برغبة أخرى سوى رغبتها بالحب لأجل الحب, والبقاء على قيد الحياة من خلال الحب, والاستمتاع بوجودها و بحبها لذاتها, من خلال منحها الحب دون انتظار مقابل, أو توقع مردود سوى مردود لذة استمتاعها بمنحه لوليدها الذي تعتبره جزء من ذاتها,بما أنه وليد لحمها و دمها.

لذا, فإن الأم تمارس الحب, لا سيما في مرحلة ما قبل بلوغ طفلها و انفصاله عنها, كفعل تدفق فيها مستمر بلا توقف, تماماً كعملية التنفس, لكأن الحب بالنسبة لها صار فعل حياة و سبباً لها, و دافعها الاول للبقاء على قيد الحياة. و الملفت في حب الأم (باستنثاء حالات اضطرابات الشخصية المرضية) , انه حب غير أناني,و غير مقتصر على طفلها فقط. فبالرغم من أن اشباع حبها لذاتها هو أحد دوافع حبها لطفلها, بما أنها تراه الإمتداد الخارجي لذاتها, إلا أنه في الوقت عينه هو حب منفتح على الآخرين, و متجه نحهوهم أيضاً بالحب, و ذلك من خلال تمدد عاطفة الأمومة فيها لتشمل كل طفل آخر غير وليد رحها. و ما مقدرتها على حب أطفال غيرها, في باطن أمره, إلا نوع من المقدرة على منح الحب لكل الناس دون تمييز, و هذا النوع من الحب لا تقدر عليه إلا ذات امتلأت بالحب حتى فاض عنها ليشمل غيرها (طبعاً باستثناء الحالات المرضية).

ابتداءً من هذه المقاربة التى حاولنا بها تلمس جذور نشأة الحب فينا لمعرفة أولى إرهاصاته و أدنى درجاته و صفاتها, و بعد أن قارنّا بينها و بين أعلى مراتبه, تلك المطبوعة عنه في إذهاننا, أي حب الأم لطفلها, يمكننا البدء بالتوصيف و التصنيف و الإستنتاج : بأن الحب عاطفة نمت فينا نتيجة حاجة استشعرناها, و رغبنا بإشباعها في أيامنا الأولى, وتم تلبيتها لنا بالرعاية و بالإهتمام, و تسجلت في ذاكرة لاوعينا مقرونة بطبيعة تلك الحاجة التى انجبتها, والسلوك الذي رافقها. و بما أن لكل حاجة دافع خاص بها , يمكننا الاستننتاج بأن لكل دافع ما فينا أيضاً عاطفة خاصة به. إذن الحب متعدد الأنواع, و أنواعه تختلف باختلاف دوافعنا نحوه, وحاجاتنا التي نريد إشباعها من خلاله. فما هي هذه الأنواع؟

الحب البدائي
تعرفنا فيما سبق على ما هيه الحب من منظور الطفل الوليد, و كيف أنه سلوك مدفوع بحاجة يُراد اشباعها و مقرون بشعور قائم على التعلق بمصدر الرعاية. لذا يمكننا القول أن أول أنواع الحب, و هو أدناها مرتبة بطبيعة الحال, هو "الحب البدائي" الذي شابهت عاطفته ألى حد بعيد عاطفة الطفل الوليد, غير الواعي, نحو أمه. أي أنه حب مازل عالق, لخلل نفسي أو مرضي ما, عند مرحلته الأولى و لم يتطور و لم ينضج و لم يرتقِ, و دوافع حامله شابهت, إلى حد ما, دوافع حديث الولادة, و يمكننا تعريفه بأنه حب قائم على الإعتمادية, و بأنه عقد إلتزام عاطفي مرتبط برغبة ما مشروط بها, يدوم بدوامها و ينتفي بانتفائها

هذا النوع من الحب البدائي الذي عرفناه جميعنا في أولى مراحل طفولتنا, و الذي تحول إلى حب بمعنى التوازن بين الأخذ و العطاء, لا سيما عند الأطفال الذين نموا في بيئة سليمة و صحية, ما كان مقدراً له أن يستمر لما بعد مرحلة البلوغ عند بعض النساء و الرجال, لولا اصدام طفولتهم باضطرابات نفسية أدت إلى توقف نمو معنى الحب في وعيهم, فارتكسوا إلى معناه الأول الراسخ في لاوعيهم عنه كتعويض, و استقروا عليه و من ثم ترافق هذا النوع من الحب القائم على الأخذ فقط مع نموهم البيلوجي و بلغ معهم مرحلة البلوغ. استقرار معنى الحب عند هذا المستوى في وعي الطفل يؤدي حتماً إلى اضطراب نمو شخصيته, وهذا الإضطراب في النمو سيتترجم لاحقاً, لا سيما في مرحلة البلوغ و ما بعدها, إلى سلوك مرضي يُعرف باضطراب الشخصية المرضية (على أنواعها). وهو أكثر ما يتمظهر و يتجلى عند تكوين الإرتباطات الإجتماعية و العلاقات العاطفية.

حب الذات
حين يدخل الطفل مرحلة وعي ذاته الخاصة به على أنها ذات منفصلة عن ذات أمه, و حين يدخل مرحلة القدرة على التعلم و الفهم و تمييز الأشاء و تسميتها, يبدأ مفهوم الحب عنده بالتشكل بمعنى العطاء إلى جانب معنى الأخذ. وتبدأ صفات ذاته بالتماهي مع صفات أمه, عبر محاولات تقليدها و مماثلة سلوكها فيما تحب و ما تكره, و فيما ما تفعل و ما لا تفعل. فينمو فيه معنى الحب القائم على مبدأ المبادلة .لكن بما أن معنى الأخذ في وعيه سابق في وجوده على معنى العطاء ومتجذر في لاوعيه, سينمو عنده شعور مبادلة الحب معززاً بشعور آخر تولد من عادة الأخذ فقط, وهذا الشعور هو الأستحقاق. فهو من يستحق حب أمه لا سواه, و هو من يستحق ما يرغب به و يريده بشدة لا غيره, و بما أنه يعيش مرحلة تماهي صفاته و سلوكياته مع صفات و سلوك أمه, سيقلدها في سلوك حبها له, و مثلها سيوجه عاطفته نحو ذاته هو, لينبثق من هذا التوجه ثاني أنواع الحب, و هو "حب الذات"

و حب الذات ليس مذموماً في أصله, إذا ما تم ترشيده بالتربية المتوازنة و نمى سوياً بغير مرض, ولم يتطرف ليصبح أنانية فغرور فنرجسية و عدم تعاطف مع الغير, بل على العكس,حب الذات ضرورة واجبة لا بد منها لتعزيز مستوى ثقة الإنسان بنفسه, لأن الثقة بالنفس عامل مهم جداً في بناء الشخصية السوية و تنميتها, وهي مصدر العديد من الصفات الحميدة الأخرى, نذكر منها الكرم و الشجاعة على سبيل المثال, و الأهم منهما المقدرة على منح الحب, و من لم تمتلئ كأس ذاته بالثقة و بالحب أولاً, لن يفيض عنه ما امتلأت به نفسه ليتسرب إلى خارجها, و لن يكون قادراً على منح الحب بشكله الصحيح و السليم, و بالقدر الكافي, ليرتد الحب عليه بالمقابل, كانعكاسٍ لما خرج منه وعاد إليه مضاعفاً, شعوراً متجدداً بالثقة وبالإمتلاء بالحب, ففاقد الشيء لا يعطيه.

حب الغير
يقوم مفهوم الحب الصحي على مبدأ التبادل المتوازن. و منطقياً أي تبادل لا يمكن أن يتم إلا بين طرفين متقابلين. كما أن مفهوم التوازن لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود منطق التعادل و الشعور بالمساواة, و مفهوم التعادل و المساواة لا يتحققان إلا إذا وعت الذات أن الذات التي تقابلها هي ذات مشابهة لها من حيث امتلاكها هي أيضاً لحاجات و رغبات و تطلعات حقوقية ممثاثلة, و إن اختلفت هذه الذات الأخرى عنها من ناحية الصفات الشخصية. و من هذا المنطلق, نفهم أن حب الغير أو الآخر لا يتحقق إلا إذا وعت الذات و أقرت ضمنياً أن الآخر المقابل لها هو ذات مساوية لها في الخلق والنوع, و بأنهما متعادلان على مستوى الحقوق و الواجبات, أي أن حب الغير يشترط امتلاك معنى الاحترام المتبادل و منظور المساواة في الإنسانية.

وحب الغير هو ذاك الحب القائم في مبدئه على التعاطف, لذا يمكن تسميته أيضاً بــ "الحب العاطفي" وهو هذا النوع من الحب الذي قيل فيه "أحب لغيرك ما تحبه لنفسك, وأبغض لغيرك ما تبغضه لنفسك" هذا النوع من الحب لا ينضج معناه, ليتحقق بالتالي شعوراً يُترجمه السلوك بالممارسة إلا عن طريق التربية و مثالها السليم, أي علاقة الأم و الأب وما تتصف به, لاسيما صفات الإحترام المتبادل و التقدير المتعادل, و إظهار الحب المتكافئ, وتقديم النموذج الواضح للطفل عن كيفية تعاملهما مع الآخر الذي ليس هما, و ذلك عبر تعليم طفلهما قيَم و أداب الأخلاق الحميدة , من احترام و تعاطف و اهتمام ومساندة. و في هذا المجال يعد دور الأب مهماً و بالغ التأثير في عملية التربية

فعلى عكس حب الأم غير المشروط, يأخذ حب الأب من منظور الطفل صفة الشرط فيصبح مشروطاً بالنسبة له. و ذلك لان الطفل طوّر حبه لأمه, لاسيما في مرحلة ما قبل انفصاله عنها, كعلاقة حب ثنائية مقتصرة عليهما وحدهما قبل دخول الأب عليها لاحقاً كطرف ثالث. فالطفل لا يكتشف فاعلية دور الأب في حياته إلا بعد دخوله مرحلة الاستقلال عن أمه, أي مرحلة تعلم المشي و النطق واكتشاف محيطه. و في هذه المرحلة أيضاً يكتشف الطفل معنى المكافأة. فهو يكافأ في كل مرة يتعلم فيها شيئاً جديداً يُسعد به والديه. و من هنا يأخد حب الأب من منظور الطفل معنى الشرط لأنه اقترن بالمكافآت, أي بالمكتسبات. فأصبح حب الاب بالنسبة له حب يُكتسب و لا يُمنح إلا بشرط الإستحقاق و إثبات الجدارة. و الشعور بالجدارة عامل مهمم في انجاح العلاقات مع الآخر, لا سيما في العلاقات العاطفية أو الرومنسية, إذ يعزز الثقة بالنفس, ويفعّل الإحساس بالمسؤولية,و يستفزحس النقد الذاتي, و بالتالي يلقي على عاتقه من يتصف به مهمة انجاح علاقاته أو ترميمها إذا ما أصابها خلل ما.

إذن تلعب التربية السليمة دوراً مهماً في تنمية شعور التعاطف أو حب الغير. فمن نمت طفولته في بيئة إنسانية سليمة, غير مسممة بمختلف أنواع التمايز الاستعلائي, على اختلاف مسمياته و أشكاله, تشب شخصيته بصورة سليمة و معافاة من العقد النفسية, ويصبح قادراً على حب غيره حباً متوازناً عادلاً, حباً لا تشوبه إي سلوكيات مريضة, كمثل ما نراه على المستوى الجمعي, من عنصرية بين الشعوب و الأعراق, و من تعصب في الإنتماءات الدينية أو القومية. أو على المستوى الفردي, لا سيما في العلاقات الإنسانية و الإجتماعية, من سخرية و تنمر بين الأفراد, أو استعلاء جندري بين الذكور و الأناث, أو حتى في العلاقات العاطفية, بين المحبين و الأزواج, حيث يتبدى هذا السلوك المرضي على شكل خلل في ميزان التبادل العاطفي و المعنوي, أو في ميزان الإهتمام و الاحتواء النفسي, و هذا الخلل غالباً ما يؤدي إلى تسمم العلاقات وبالتالي إلى فض عروتها بإفتراق أطرافها.

الحب المنتمي
إن أول غربة شعر بها الإنسان هي غربة وجوده في هذه الحياة, لحظة خروجه من رحم أمه. نعم,تلك كانت أول غربة عرفها, لذا صرخ باكياً. و ما كان صراخ بكائه حينها إلا نداء استغاثة يسأل به الحياة نجدتها, بأن تعيده إلى انتمائه الأول, إلى وطنه الأول, إلى ذاك الأمان في دفء رحم أمه. و الحياة المتمثلة بالأم استجابت. مالت بلهفتها عليه و لبّت نداءه,سارعت إلى احتواء خوفه بالاحتضان, فركن إلى دفئ حضنها و قبل به بديلاً عن دفء رحمها, لا سيما بعد أن استشعر بوزنه ثبات أمان ذراعيها, وحين تعرّف أنفه على رائحة جسدها, و ما أن اعتاد ثغره لذة الإشباع و الإنتشاء المتأتية من حنان ثدييها. و مع مرور الوقت, تبنت روحه المغتربة ذات أمه وطناً بديلاً عن وطنه الأصيل, و نسي حنينه إلى الوطن الأول, فسكت بكاؤه و هدأ روعه و سكن أمانه في حضن أمه, و انتمى.

الحب المنتمي هو هذا الحب الذي لا يتولد إلا بعد الشعور بالإنتماء. والشعور بالإنتماء لا ينمو إلا مع الوقت و باعتياد أمان المحيط و استشعار كفايته و إلفته, كما أن الحب المنتمي لا يتوجه إلا نحو من شابهنا بالصفات و العادات, أو من شاركنا الميول و الإهتمامات, و نحو من تقاسمنا معه تفاصيل لحظات الحياة بأنواعها, بأفراحها و أتراحها, ونحو من غذّى ذاكرتنا بأعز و أعمق الذكريات. هذا النوع من الحب نجده في مثال حب المرء لوالديه, لأخوته, لعائلته, لأترابه, لقريته و مدينته و وطنه, للغته و ثقافته, لهواياته و مواهبه, في حبه لأسرته, لزوجته و أطفاله, وحتى في حبه لنفسه, التي يريدها مشبعة بالثقة, ومفعمة بالحبور و بأمان الطمأنينة والسلام,و هذا مطلب لا يتحقق إلا إذا تواجد في محيط يألفه و يعرفه و يفهمه و يتحدث لغته.

إذن,من خلال حبه المنتمي, يسعى الإنسان إلى إشباع ميله الفطري للعيش في مجموعة أو مجتمع يشبهه, وايضاً إلى إشباع ذاك الشعور المستمر بالأمان, و المتأتي من احساسه بأنه ليس وحيداً, وبأنه غير منفصل, بل متصل و متجذر في تربة حب معنوي واسعة تحتويه, و تحوي كل ما يحبه, و كل من يبادله الحب بالحب, ويبادله الاهتمام بالاهتمام, والتضحية بالتضحية, والفرح بالفرح, والحزن بالمواساة, والطموح بالتشجيع, والتعثر بالإنهاض, والإخفاق بالمساندة, و الغياب بالقلق و بالسؤال. يمكن تشبيه الحب المنتمي بالدرع الذي يجابه به الإنسان فردانيته وقلق تغربها لكي لا تنجرف و تنحرف نحو انعزالها. إذن هو ذاك التعاطف المكثف الذي يُشعره بالتواحد مع كل من شابهه, فهو سبيله للوصول إلى إثبات ذاتهه كصفة حاضرة و مقبولة تنتمي إلى هوية. كذلك, هو الحب الذي يرتد عليه شعوراً بأنه غير منسي لأنه متصل بذوات أخرى تشبهه, تحبه و تعرفه, ويرتد عليه انتماءً يمنح وجوده قيمة معنوية, بأنه سيظل حاضراً , بأثر ما أو بذكرى, حتى لو فارقت انفاسه هواء الحياة.

سنتوقف في هذا الجزء الأول من مقالنا عند هذا الحد من تصنيف أنواع الحب و توصيفها لنستكمل باقي التصنيف في الجزء الثاني, وفيه سنتعرف على نوعَين للحب مهمَين جداً هما : الحب الجنسي و الحب الإلهي, فإلى اللقاء في الجزء الثاني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك


.. إسرائيل -مستعدة- لتأجيل اجتياح رفح بحال التوصل -لاتفاق أسرى-




.. محمود عباس يطالب بوقف القتال وتزويد غزة بالمساعدات| #عاجل


.. ماكرون يدعو إلى نقاش حول الدفاع الأوروبي يشمل السلاح النووي




.. مسؤولون في الخارجية الأميركية يشككون في انتهاك إسرائيل للقان