الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي (3)

تمارا العمري

2024 / 2 / 25
التربية والتعليم والبحث العلمي


مؤلفة المقال: عالمة النفس الماركسية ليديا إليينيتشنا بوجوفيتش*

ترجمة: تمارا العُمَري

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

في هذا الجزء الأخير من سلسلة مقالات (مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي)(1)، سنتناول الفترة الحرجة أثناءَ فترةِ المراهقة أو أزمة المراهقة وهي الأزمة الأكثر حِدَّةً والأطول أمداً بين جميع أزمات نمو الشخصية، وهي فترة إنتقالية طويلة تمتد من الطفولة وحتى البلوغ.

خلال هذه الفترة، تتفكك جميع علاقات الطفل السابقة مع نفسه ومع العالم ويُعادُ تنظيمها. وتنقسم هذه الفترة -أي فترة المراهقة- إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تمتد بين عمر 12-15 سنة وفيها تتطور عملية الوعي الذاتي وعملية تحديد المصير، مما يؤدي لاحقاً إلى الوضع الحياتي الذي يبدأ معه تلميذ المدرسة حياته المستقلة. أمّا المرحلة الثانية من المراهقة فتمتد بين 15-17 عام؛ وتسمى في كثيرٍ من الأحيان فترة البلوغ الباكِرَة.
يجب التأكيد على أنه حتى في مرحلة المراهقة لا يكتمل تطور الشخصية، فهذه الفترة بأكملها هي فترة إعادة تنظيم واسعة النطاق للبُنى النفسية التي تطورَت في السابق، كما وتَظْهَرُ فيها بُنىً جديدة تأخذ بالتطور لم تظهر في أي وقت سابق. ومع ذلك، إن النمط النمائي ليس هو السائد هنا، بل الأنماط المرتبطة بالتكوينات الفردية لعقل الأنسان.

في هذه الورقة سنهتم بعمليات التطور خلال سن المدرسة الذي يمهّد الطريق بشكل مباشر لأزمة المراهقة، وسنُحلل كذلك الأزمةَ نفسها وظهور بُنية شخصيةٍ جديدةٍ تماماً مُتممةً أزمة المراهقة وكامل فترة نمو الطفل.
وعلينا أن نتذكر أن طبيعة أزمةِ الإنتقال من مرحلةٍ في تكوين الشخصية إلى مرحلةٍ أُخرى ترجع إلى أن الحاجات والتطلعات الذاتية والمُصاحبة لتكوين بُنىً نفسيةٍ جديدةٍ تواجه عقبات في طريق إشباعها، وبالتالي تظل غير مُشبَعة.
إن أزمة المراهقة، على عكس أزمات الفترات العُمْرِية الأُخرى، تُعَد الأطول والأكثر حدة، لأن هناك العديد من الاحتياجات العاجلة التي تنشأ بسبب المعدل السريع للنمو البدني والعقلي في مرحلة المراهقة، والتي لا يمكن إشباعها بسبب عدم النضج الاجتماعي الكافي لتلاميذ المدارس في هذه المرحلة. وبالتالي، يكون المستوى الإجمالي للاحتياجات غير المشبعة في هذه الفترة الحرجة أكثر وضوحًا؛ ومن الصعب جداً التغلب على هذه المشكلة وذلك يعود لعدم التزامن بين النمو الجسدي والعقلي والاجتماعي للمراهق.
وتختلف أزمة المراهقة أيضاً في جانبٍ آخر على درجةٍ عاليةٍ منَ الأهمية. ففي الفترات العمرية الأصغر سناً، يرتبط عدم تلبية الاحتياجات التي تتشكَّلُ باكراً بالعقبات الخارجية (مثل: المحظورات التي يضعها الوالِدَين، الظروف المتغيرة لحياة الطفل والتي من شانها ان تكبح نشاطه وما إلى ذلك)؛ لكن تَلعَبُ العواملُ الداخلية في أزمة عمر المراهقة، دوراً مهماً: المحظورات التي يفرضها الشاب/الشابة على نفسه/ا ولا تأتيه من الخارج، والخصائص النفسية التي تكونت في وقت سابق (العادات والسمات الشخصية وما إلى ذلك)، والتي كثيرا ما تتداخل مع ما يرغب الشاب/الشابة في تحقيقه؛ وقبل كل شيء، نمط الحياة الذي اختاره، كل ذلك يسلِب عامل الحسم من الظروف الخارجية مع احتفاظها بأهميتها؛ إن الحاجة الخاصة إلى الاستقلال عن البالغين والرغبة في احتلالِ مكانةٍ اجتماعيةٍ مختلفة وأكثر نضجاً، تحرر الشاب من السيطرة الخارجية المستمرة وتمكّنه من حل مشاكله الخاصة.

إن النضج البيولوجي ليس عاملاً حاسماً في حد ذاته، على الرغم من أن بعض علماء النفس ما زالوا يبالغون في أهميته. وبالطبع، لا يمكن إنكار أن إعادة تنظيم الجسم، بما في ذلك التغيرات الجسدية السريعة التي تحدث، لها بعض الصلة بأزمة المراهقين، فقد أظهرت الدراسات أن العمليات الفسيولوجية التي تحدث خلال هذه الفترة تزيد من الاستثارة العاطفية لدى المراهق، مما يجعله أكثر اندفاعاً وأقل استقراراً، وما إلى ذلك؛ والنضج الجنسي السريع ايضاً يزيد من حدة إدراكه لمرحلة البلوغ، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب. فخلال هذه الفترة تظهر لأول مرة حاجة بيولوجية جديدة وقوية جدًا، وهي الدافع الجنسي، وتُصبِحُ موضوعًا لوعي المراهِق وتجاربه الذاتية. ومما لا شك فيه أن عدم تلبية هذا الدافع يمكن أن يكون محبطاً؛ وهذا بالفعل يفسر بعض خصائص سلوك المراهق واحساسه بذاته.

ولكن يجب أيضًا أن يُؤخذ في الاعتبار أن الدافع الجنسي مثله مثل جميع الاحتياجات البيولوجية الأخرى للإنسان، يكتسب طابعًا وسيطًا مختلفًا نوعيًا في عملية التطور. فعلى سبيل المثال، فكما أن الحاجة إلى المحفزات اللازمة لتطور الأنظمة الدماغية، هي في البداية حاجة إلى مُحفز خارجي ومن ثم حاجة إلى نشاط معرفي نشط، كذلك يتخذ الدافع الجنسي شكل حب الآخر في سياق تطوره. وعندما يظهرُ ذلك الدافع الجنسي لأول مرة خلال فترة البلوغ ، فإنه يدخل في بنية تلك الأنماط النفسية الجديدة الموجودة مُسبقاً لدى المراهق (الاهتمامات المتنوعة والحواس الأخلاقية والجمالية ووجهات النظر والقيم) التي يُشَكِّلُ معها وبواسطتها علاقة بالجنس الآخر، والتي لا يحتلُّ الدافع الجنسي فيها، كقاعدة عامة، المركز المهيمن، وبذلك فإن عدم إشباع هذا الدافع (بسبب عدم النضج الاجتماعي للمراهق) لا يشكل عاملاً محبطاً خطيراً ولا يلعب دوراً حاسماً في أزمة المراهقة. وفي ضوء ما قلناه، نرى أنه من غير الصحيح محاولة تفسير هذه الأزمة النمائية المعقدة من حيث النضج الجنسي وحده. وفي الواقع، فإن جميع نظريات المراهقة التي تحاول تفسير نفسية المراهق من حيث العوامل الخارجية بالنسبة للنمو العقلي غير صحيحة.
إن العوامل البيولوجية والاجتماعية لا تحدد النمو بشكل مباشر؛ فهي جزء لا يتجزأ من النمو حيث أنها تصبح مكونات داخلية للبُنى النفسية الجديدة التي تظهر أثناء التطور. أشار اليكسي ليونتيف بشكلٍ صحيح إلى أنه لا يمكن استخلاص أي تطور نفسي وشخصي في سياق النمو بشكل مباشرة من تلك الشروط المسبقة له فقط، ووفقا له ، "يجب دراسة النمو باعتباره عملية (حركة ذاتية)، التي تتغير شروطها المسبقة في تلك العمَلية تغيراً ذاتياً" (2). وبالتالي، فإن البُنى الجديدة التي تطورت تماماً تبدأ هي نفسها في العمل كعوامل داخلية للنمو، بينما تنعكس من خلالها التأثيرات الخارجية والتجارب الذاتية ، ويتم دمجها من خلال وعي الذات، وبهذه الطريقة تتحدد الحالة الداخلية للذات وما يترافق معها من مسارٍ لاحقٍ لتطور الشخصية.

ومن وجهة النظر هذه، لا يمكن بناء أي نظرية عن المراهقة على أساس عامل واحد (هناكَ الكثيرُ منها على هذه الشاكلة). وعلى حد تعبير ليف فيغوتسكي ، لا يمكن وصف المُراهقة بصيغةٍ واحدة. يجب دراسة القوى الدافعة الداخلية والتناقضات الكامنة في هذه المرحلة من النمو العقلي، كما يجب تحليل البنية المركزية النظامية الجديدة التي تدمج هذه العوامل، لأن تحليل من هذا النوع سيُمكننا من فهم مجموعة الخصائص الكاملة التي تصف المراهقة، وطبيعة الأزمة التي تحدث في هذا الوقت ومظاهرها الخارجية.
واستناداً إلى المعطيات الواردة في الأدبيات ونتائج دراساتنا الخاصة، نعتقد أن أزمة المراهقة مرتبطة بالمستوى الجديد من الوعي الذاتي الذي يحدث في هذه الفترة، والذي من سماته المميزة ظهور القدرة والحاجة إلى معرفة الذات كفردٍ يتمتع بصفاتٍ فريدةٍ تختلفُ عن أي شخصٍ آخر. وهذا يولّد لدى المُراهِق الرغبة في تأكيد ذاتهِ والتعبيرِ عنها (أي الرغبة في إظهار تلك الصفات الشخصية التي تعتبر ذات قيمة). إن عدم إشباع الحاجات المذكورة أعلاه هو أحد الجوانب الأساسية لأزمة المراهقة.

والآن، دعونا نحاول أن نحدد تلك التغيرات الذهنية لطفل المدرسة الصغير التي تمهد الطريق لظهور البنية النظامية الجديدة المشار إليها أعلاه خلال الفترة الانتقالية. يختلف هيكل النشاط الدراسي في كثير من النواحي عن الهيكل الدراسي السابق أي اللعب: فالهيكل الدراسي الآن موجه نحو هدف معين ويؤدي إلى نتائج معينة وهو إلزامي وكيفي أيضاً، إن هذا النشاط الدراسي، هو موضوعٌ للتقدير الاجتماعي الذي سيحدد مكانة التلميذ بين زملاؤه. وهذا ما يعتمد على الوضع الداخلي للطفل وإحساسه بذاته.
بسبب هذه الخصائص، يصبح النشاط الدراسي وعملية اكتساب المعرفة، التي تضيف متطلبات جديدة إلى فكر الطفل، هو النوع السائد من النشاط بالنسبة لتلميذ المدرسة اليافع. إنه النشاط الذي تتشكل فيه البُنى النفسية الرئيسية الجديدة لهذه الفترة، على سبيل المثال، نماذج التفكير النظرية والاهتمامات المعرفية والقدرة على التحكم في السلوك والشعور بالمسؤولية، والعديد من الصفات الأخرى للعقل والشخصية التي تميز طفل المدرسة عن أطفال ما قبل المدرسة. ويحدث مع تطور التفكير، استيعاب المعرفة العلمية وهذا بدوره مهم جداً في تغيرات هذه المرحلة. تعتبر البُنى الجديدة التي تظهر خلال هذه الفترة حاسمة لفهم التغيرات التي تحدث في وعي وشخصية المراهق.

وفقاً لفيغوتسكي، فإن الدراسة في المدرسة تنقل التفكير إلى مركز النشاط الإدراكي المعرفي للطفل. وهذا يعني إعادة تنظيم للوعي نفسه. بعد أن أصبح التفكير هو الوظيفة المهيمنة، يبدأ الآن في تحديد وظائف الوعي الأخرى، وجمعها معًا وتنظيمها للتعامل مع المهام التي تواجه الذات. ونتيجة لذلك، فإن العمليات التي تشكل التفكير تصبح ذهنية، كما أنها تصبح إراديةً وجُزءا من الوعي.
لكن التغييرات الأكثر أهمية تحدث في التفكير نفسه. حيث أن التفكير قبل التعليم الرسمي، كان يعتمد على تجربة الحياة التي لا تتوسطها المدرسة، ويعمل إما بأفكار ملموسة أو بمفاهيم معطاة على شكل تعميمات حسية غير مُدركَة كُلياً ("المفاهيم اليومية")(3). أما في عملية التعليم يتحول التفكير إلى تفكير منطقي استطرادي يقوم على مفاهيم عملياتية.

خلال عملية استيعاب المعرفة الوقائعية، يتعلم تلميذ المدرسة الصغير كيفية تكوين المفاهيم، أي يكتسب القدرة على بناء التعميمات ليس على أساس سمات متشابهة (مهما كانت درجة القواسم المشتركة بينها)، ولكن على أساس الروابط والعلاقات الأساسية الحاسمة. لتكوين مفهوم الحياة، على على حد تعبير إنجلز، سيكون من الضروري "دراسة جميع أشكال الحياة ووصفها في علاقاتها المتبادلة"(4). وهكذا، بمجرد أن يتقن طفل المدرسة المفاهيم، يتعلم ليس فقط إتقان المفاهيم العامة المجردة ، بل أيضًا جوهر الأحكام الثابتة القيمية الواردة فيها. ويكتسب القدرة على تطوير هذه الأحكام والانتقال من مفهوم إلى آخر، أي التفكير على المستوى النظري.

إن تكوين المفاهيم يتطلب المشاركة النشطة من جانِب تلميذ المدرسة، الموجهة نحو حل مشكلة التعلم؛ بمعنى آخر، إن هذه العملية إبداعية إلى حد ما. واستيعاب المعرفة الواقعية في المدرسة يساعد على تكوين المفاهيم وتنمية التفكير النظري، مما يتطلب من تلميذ المدرسة تحليل أسباب الظواهر المعنية، وفهم العلاقات القانونية التي تربط بينها، والوعي بأساليب التفكير التي تؤدي إلى الاستنتاجات الصحيحة. في هذا النشاط، يبدأ تلميذ المدرسة أولاً في اكتساب الوعي بنظام الأحكام المقدم له، ثم يصبح واعيًا بعملية التفكير نفسها.
إن ظهور وتطور التفكير النظري المبني على مفاهيم علمية (بُنى جديدة وظيفياً تُشكل جزءاً من الوعي ويتم التعبير عنها بالكلام)، يكون مصدراً للعديد من التغيرات في ذهن تلميذ المدرسة، تلك المفاهيم تحقق التعبير الكامل عنها خلال فترة المراهقة. إن التفكير النظري يمكّن المراهق من استيعاب مفهوم جديد معين، مما يؤدي إلى نوع جديد من الاهتمام المعرفي (الاهتمام ليس فقط بالحقائق ولكن أيضًا بالقوانين)، ويَنتُجْ عَن ذلك رؤية أوسع للعالم -وربما يكون هذا الأمر الأكثر أهمية لفهم التغيرات في شخصية المراهق- كما يؤدي إلى تنمية التفكير والقدرة على توجيه الفكر نحو الفرد نفسه ونحو فهم العمليات العقلية للفرد وجميع السمات المميزة لشخصيته. وهذا بدوره يؤدي إلى مستوى جديد من الوعي الذاتي.

وبطبيعة الحال، ليس الفكر وحده هو الذي يحدد ظهور شكل الوعي الذاتي الخاص بالمراهقة: بل إن الظروف الجديدة التي تميز نمط حياة المراهق عن أسلوب حياة الأطفال الأصغر سناً في سن المدرسة تساعده أيضاً على ذلك. وتتمثل هذه الظروف، على وجه الخصوص، في المتطلبات المتزايدة التي يفرضها البالغون والأصدقاء على المراهق، ممن لا تتحدد آرائهم من خلال الإنجازات الأكاديمية لتلميذ المدرسة بقدر تتحدد من خلال العديد من سمات الشخصية الأخرى، مثل آرائه وقدراته وشخصيته وقدرته على مراعاة القواعد الأخلاقية. كل هذه العوامل تؤدي إلى الدوافع التي تحفز المراهق على تحليل نفسه ومقارنة نفسه بالآخرين. وهكذا يقوم المراهق بتكوين القيم تدريجيًا ويطور صورًا ثابتة نسبيًا للسلوك، تكون مختلفة تماماً عن صور السلوك الخاصة بالأطفال الأصغر سنًا، التي لا تتمثل في وضعِ نموذج فرد معين مثالاً ليحتذي به ويُقلّده، بقدر ما تتمثل في مطالب محددة يفرضها المراهق على الآخرين وعلى نفسه. وحتى عندما يكون هناك نموذجاً لشخصٍ يتخذه المُراهِقُ مثالاً له، فقد أظهرت التجارب أن هذا النموذج ليس سوى تمظهر ملموس للقِيَم والصفات التي يجدها المراهق قيّمةً وذات أهمية بالنسبة له(5). بمعنى آخر،عندما ينجذب أطفال المدارس الأصغر سناً إلى شخص معين (النموذج) فأنهم يتقبلونه بكليته بما فيها سماته السلبية، أمّا بالنسبة للمراهقين فإن الجاذبية العاطفية للنموذج، تحدُث من خلال مدى تجسيد هذا النموذج للمتطلبات التي يرى فيها المُراهِقُ أنها ضرورية لتكون جُزءاً من صفات الانسان.
إن تطور الوعي الذاتي وأهم جوانبه، مُتمثلاً في تقدير الذات، هو عملية معقدة وطويلة الأمد مصحوبة بسلسلة كاملة من التجارب المحددة (المتصارعة داخليًا في كثير من الأحيان) لدى المراهق؛ وقد كرّس جميع علماء النفس الذين يتعاملون مع المراهقين اهتمامًا كبيراً لهذه التجارب. ولاحَظَ جميعهم عدم الاستقرار والاندفاع والتقلبات المزاجية المتكررة والاكتئاب العرضي، وما إلى ذلك، لدى المراهقين.

حتى المحاولات الذاتية غير الناضجة لتحليل المُراهقِ لقُدراتهِ ذاتها تكون مصحوبةً أحيانًا بموجات من الثقة المُبالَغ بها بالنفس وأحياناً بالتردد وبشكوكٍ حول الذات. يؤدي هذا الافتقار إلى الثقة بالنفس في كثير من الأحيان بالمراهقين إلى أشكالٍ زائفةٍ من تأكيد الذات مثل: التباهي والانحلال وكسر قواعد السلوك، فقط لإثبات استقلالهم.

يكون احترام الذات لدى المراهق متناقضًا داخليًا في كثيرٍ من الأحيان: فهو ينظُرُ الى نفسه بوعي كشخصٍ مهم، ويؤمنُ بِنفسهِ وبِقدراتهِ وَيضعُ نفسهُ فوق الآخرين. ومع ذلك، وفي نفس الوقت، يكون المراهق في نزاعٍ داخليٍ مع الشكوك التي يُحاولُ إبعادها عن تفكيره. لكن انعدام الثقة المُضمَرِ في وعيهِ يظهرُ من خلالِ التجارب والاكتئاب والتقلب المزاجي والتراجع عن القيام بأنشطةٍ معينة وما إلى ذلك. ولا يفهم المراهق السبب وراء هذه الحالات؛ ولكنها تَظهرُ في حساسيته وفظاظته وخلافاته المتكررة مع البالغين.
في بعض الأحيان يتم التأكيد على أن هذه السمات وبعض السمات الأخرى (مثل، الرغبة في تأكيد الذات والشعور بالوحدة والانسحاب)، والتي تم وصفها بشكل متكرر وبقدر كبير من التفصيل في علم النفس التقليدي، هي سمات فقط للمراهقين الذين ينشأون في ظل ظروف المجتمع البرجوازي، أي أن لها أصلًا تاريخيًا ملموسًا.

ليس هناك شك في أن أسلوب الحياة والتعليم يترك بصماته على السمات الشخصية للفرد. وتجدرُ الإشارةُ أيضًا إلى أنه كلما كَبِرَ الطفل، كلما زادَ تأثيرُ تجربتهِ الفرديةِ عليه. وكل مراهقٍ يختلف عن الآخرين، حيث أن كل شخصية فريدة عن غيرها وغير قابلة للتكرار. ومع ذلك، وعلى هذا الأساس، من الصعب إنكار وجود خصائص نفسية محددة لكل فترة نمو، بما في ذلك مرحلة المراهقة. ويمكن العثور على مثل هذا الرأي في الأدب الخاص عندنا في الاتحاد السوفييتي وفي الأدب الأجنبي. ويستند هذا الرأي إلى أن العديد من الدراسات، وخاصة المعاصرة، أظهرت اختلافاتٍ كبيرة في سيكولوجية الأطفال وسيكولوجية المراهقين اعتمادا على ظروف تنشئتهم الاجتماعية(6). ومما لا شك فيه أن الاختلافات الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجنسية والسيرة الذاتية الملموسة تترك بصماتها على مضمون طبيعة أزمة فترة المراهقة. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أيضًا بعض الخصائص النفسية المشتركة بين جميع المراهقين، وهي خصائص تنتجها بُنى جديدة منبثقة عن منطق النمو العقلي تكون والتي تخص كل فترة عمرية. في الواقع، كل بنيةٍ نفسية تميز مرحلة جديدة نوعيا من التطور تعتمد على المراحل السابقة وهي شرطٌ أساسي لظهور مرحلةٍ لاحقة. إن إنكار ذلك يعني إنكار أن التطور الذهني هو حركة ذاتية لها قوانينها الخاصة.

في هذا السياق، ومن أجل تقديم فكرة أوضح عن السمات الشخصية النموذجية للمراهقين بشكل عام، دعونا نذكر بإيجاز دراستين مثيرتين للاهتمام، إحداهما أُجرِيَت في تسعينيات القرن التاسع عشر، والأخرى في ستينيات القرن العشرين.
قام سيدوف(7) بتنظيم ومقارنة البيانات التي جمعها هو وغيره من الباحثين الروس والأجانب وأظهر أن خصائص المراهق التي أدرجها تولستوي في نيكولينكا إرتينيفا (أ) تطابَقَت في معالمها الأساسية مع تلك الموصوفة في أعمال العديد من علماء النفس، على الرغم من أن موضوع دراستهم كان عن المراهقين الذين تشكلت شخصياتهم في ظروف اجتماعية مختلفة تماماً.

أمّا الدراسة الثانية والتي أجرَتها تاتيانافيكتوروفنا دراغونوفا Tatyana Viktorovna Dragunova(8)، تضمنت مقارنة السمات الشخصية لنيكولينكا مع السمات الشخصية للمراهقين السوفييت في الستينيات. حيث تم استخدام الطريقة التالية في هذه الدراسة. بعد أن قرأ المراهقون مجموعة خاصة من مقتطفات من رواية "الطفولة والمراهقة والشباب" لتولستوي، تم إجراء محادثة تجريبية معهم، حول بطل الرواية نيكولينكا (أي حول سلوكه وعلاقاته مع من حوله وتجاربه الذاتية) وتبيّن أنهم تذكروا بشكل خاص تلك الأشياء التي تشبههم، أمّا الأمور الأخرى -أي التي لا تشبههم- فقد كانت غريبةً عنهم بشكلٍ غير مفهوم وسببت لهم الحيرة أو حتى الرفض والاعتراض. وفي الختام تم طرح السؤال: هل يستطيع نيكولينكا تكوين صداقات مع شبابنا، وإذا لم يكن الأمر كذلك فما الذي يمنع ذلك؟

وقد تبين أن أكثر سمات المراهقة تحديداً في نيكولينكا تطابقت مع سمات مراهقينا، إلا أن بعضها كان غير نمطي، على الرغم من أنه كان لدى المراهقين السوفييت شيءٌ مماثل، إلا أنهم اختلفوا من حيث المحتوى ووسائل التعبير عنه. دعونا نوضح هذا بمثال، لم يفهم مراهقونا تمامًا تجربة نيكولينكا في الشعور بالوحدة باعتبارها تصورًا ثابتًا للحياة؛على الرغم من أن العديد منهم لاحظوا أنهم غالبًا ما يشعرون بالرغبة في البقاء بمفردهم والنظر إلى أنفسهم وتحليل الناس وما يحدث حولهم. إن هذه النتيجة تشير إلى أن جزءاً من منطق التطور العقلي للمراهقين هو أن التفكير يحدث كنوع خاص ومستقل من النشاط. ومع أنه، في ظل ظروف التعليم السوفييتي، الذي يتمثل المبدأ الأساسي فيه في التعليم الجماعي، فإن هذا النشاط لا يقود المراهقين إلى الانسحاب للبقاء وحدهم أو إلى الشعور بالوحدة.

ولكن، كما قلنا، إن السمات بين نيكولينكا والشباب السوفييتي مشتركة في معظمها، أي أنها كانت سمات نموذجية لهذه الفترة العمرية. وكقاعدة عامة، إن تلاميذ المدرسة إلى حد سن الحادي عشر عاماً، لا ينتبهونَ لتلك المواضعِ في قصة تولستوي التي يصف فيها موقف نيكولينكا تجاه نفسه؛ فلا يتذكروها أو حتى يلاحظوها. وقد كان من المستحيل حتى التحدث مع هؤلاء الأطفال حول تلك الأجزاء من الرواية: حيث أنهم شعروا بالملل وحولوا الحديث إلى الأحداث الأخرى التي حصلت في حياة نيكولينكا.

ولكن بحلول سن الثانية عشر، تبدأ هذه الصورة بالتغير. حيث يلاحِظُ الأطفالَ بشكلٍ متزايد تلك المواضع التي وِصفَت فيها سمات شخصية نيكولينكا وصفاته الأخلاقية وتجاربه. حتى دون أن يتم سؤالهم عن ذلك، هم أنفسهم بدأوا في مقارنة أنفسهم مع نيكولينكا ("أنا أيضًا، بدأت أفكر في نفسي")، والانخراط في تجارب نيكولينكا الشخصية والأفعال المرتبطة بها ("لقد كان متألمًا حقًا؛ هكذا يبدو لي الأمر غالباً"، "إنه أمر سيء عندما لا يثق بك أحد ومن الجيد أن كولينكا تمرَّد"؛ إلخ).

كانت ردود فعل مُراهقينا حادةً تماماً مثل نيكولينكا تجاه إنجازاتهم وإخفاقاتهم. وكانوا -عند الإنجاز- يميلون إلى نسبها بتفاخرٍ إلى قدراتهم الخاصة حصريًا، وعند الإخفاق شعروا بأنهم عديمي القيمة. إن النجاح مهما كان صغيرًا أو المديح، يمنح المراهق شعوراً بالابتهاج، وإن الفشل المؤقت، خاصة إذا كان مرهقاً من قبل الآخرين، يصيبه بالاكتئاب ويُفقِدُه ثِقَتهُ بنفسهِ ويجعلهُ خجولاً.

تُظهِر نتائج هذه الدراسات أن بعض السمات النفسية القائمة على تطور التفكير، والحاجة الناشئة إلى فهم الذات والقدرة على تلبية المطالب التي يضعها المرء على عاتقِ نفسه، أي تحقيق نمط حياة معين اختاره، هي سمات مشتركة بين جميع المراهقين بغض النظر عن الاختلافات في تنشئتهم الاجتماعية. لكن عدم القدرة على إشباع هذه الحاجات يؤدي إلى ظهور سلسلة كاملة من الخصائص النفسية الخاصة بأزمة المراهقة. ليست كلُّ سمات أزمة الفترة الانتقالية مرتبطة بعدم رضا المراهق، حيث أن التناقضات بين الاحتياجات وظروف الحياة، والتي تحد من إمكانيات المراهق في تحقيق هذه الاحتياجات، هو التناقض الذي يميز كل مرحلة من مراحل النمو، والذي يلعب أيضاً دورًا كبيرًا في النمو.

في الواقع، لا يزال المراهق تلميذا عادياً(9) حيث أن التعلم المدرسي والمدرسة نفسها والعلاقات مع الأصدقاء تشغل كل وقته تقريبًا وتشكل المحتوى الرئيسي للحياة. ومع ذلك، فإن الوضع الداخلي (أي النفسي*) للمراهق يتغير. هذا الموقف (أي وضعه كتلميذ مدرسة)، الذي دخل به الطفل إلى الحياة المدرسية والذي ميز ليس موقفه تجاه الدراسة فحسب، بل أيضًا نظام علاقاته برمته مع العالم المحيط به، يصبح في البداية هشًا بعض الشيء؛ وبعد ذلك، في نهاية المرحلة المدرسية المبكرة، يتوقف هذا الوضع (أي وضعه كتلميذ) تماماً عن لَعِبِ دورِ تحديد حياة الطفل العقلية وسلوكه؛ نتيجة الدراسة والنضج وتراكم التجارب الحياتية، وبالتالي يتقدم نُموه العقلي العام. مع بداية الأزمة، يبدأ تشكل اهتماماتٍ جديدةٍ وواسعةٍ وتَظهَرُ تَحوُّلاتٍ مختلفة وتتطور الرغبة في اتخاذ وضعٍ مختلفٍ وأكثر استقلاليةً وأكثر بلوغاً، ويرتبط هذا الوضع بالسلوك والسمات الشخصية التي تبدو للطفل غير قابلةٍ للتحقيق في الحياة المدرسية العادية. وبالطبع لن يتفق المراهقون مع فكرة أن الالتزام بالنظام المدرسي يميز ميول الطالب وينميها، ولن يعترفوا صراحةً بأن أوجه القصور لديهم تؤدي بهم إلى الاستقلال والجرأة. إنهم يعتقدون أن إظهار وصقل الصفات ذات القيمة بالنسبة لهم يتطلب نوعًا من الظروف الخاصة والصارمة.

إن التناقضات بين رغبات المراهق، المرتبطة بإدراك وتأكيد الذات من جهة، ووضعه كتلميذ مدرسة بشكل عام من جهةٍ أخرى، تنتج رغبة في الخروج عن قيود الحياة المدرسية اليومية والقيام بشيءٍ مختلف ومستقل وذا أهمية. على النقيض من تلميذ المدرسة الأصغر سناً، حيث يضع المراهق نُصبَ عينيه على المستقبل، على الرغم من أن هذا المستقبل لا يزال غامضًا جدًا بالنسبة له.

إن استحالة تغيير نمط حياته -المراهق- فعليًا يؤدي إلى ظهور أحلام اليقظة، والتي تُعتبر دائمًا ميزة أساسية للمراهقة في علم النفس. بالطبع، أحلام اليقظة لدى تلميذ المدرسة الحديثة وأحلام نيكولينكا إيرتينيفا، على سبيل المثال، لها محتويات مختلفة وتعابير محددة. لكنها تحتوي دائمًا على نوع من النمذجة لمُستقبلهِ الخاص، أو كما يقول علماء النفس الأجانب، أن المراهقين يلعبون أدوارًا مستقبلية في خيالهم. وبالتالي، فإن أحلام اليقظة، التي هي الصفة المرافقة للمراهقة، تؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها اللعب في مرحلة الطفولة ما قبل المدرسة؛ وكلاهما وسيلة لتحقيق تلك الميول العاطفية التي لا تجد أي تجسيدٍ لها في الحياة اليومية.

لكن هذهِ ليست سُوى وسيلةً واحدة للتعبير عن الذات في مرحلة المراهقة. في بعض الأحيان، يحاول المراهقون، الذين يعانون بشدة من الصراع بين رغباتهم وإمكانية إرضائها، العثور على نوعٍ جديدٍ من الحياة ليس فقط في خيالهم؛ وهذا يحول التطور الطبيعي الصحي للمراهق إلى مسارٍ مدمِّر. في هذه الحالات، يتخلى المراهقون عن الدراسة والمدرسة، ويتجولون في الحدائق والشوارع، ويبحثون عن صُحبة المتسربين من المدارس، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى أشكالٍ سُلوكيةٍ أنانية وغير اجتماعية. إن أزمة الفترة الانتقالية تحدث بسهولة أكبر إذا طور تلميذ المدرسة خلال هذه الفترة اهتمامات شخصية ثابتةً نسبيًا أو نوعًا من الدوافع السلوكية المستقرة.

تتميز الاهتمامات الشخصية، على عكس الاهتمامات العرَضيَّة (الظرفية)، بشراهتها: فكلما زاد إشباعها، كلما أصبح المراهق أكثر استقرارًا وحدّة. وتشمل هذه الاهتمامات، على سبيل المثال، الاهتمامات المعرفية والاحتياجات الجمالية، الخ... ويرتبط إشباع هذه الاهتمامات بالبحث النشط عن الشيء، أو صنعه، من أجل تلبية الرضا والاشباع. وهذا يدفع المراهق إلى طرح أهدافٍ جديدةٍ لنفسه، والتي غالبًا ما تتجاوز الموقف الذي يواجِهُهُ وحتى أنها قد تتجاوز حياته اليومية. تظهر الدراسات النفسية بوضوح في السنوات الأخيرة أن توجُّه الفردِ نَحوَ الأهدافِ البَعيدة يلعب دوراً بارزاً في تنمية شخصية مستقرةٍ وفي التنظيم الذاتي للفرد(10).

لفت عالم النفس الألماني-الأمريكي كورت ليفين Kurt Lewin الانتباه إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الأهداف بعيدة المدى في البنية النفسية لسلوك الفرد. في نظريته الطوبولوجية/المجالية(ب) للشخصية، أثبت أن الأهداف التي يطرحها الشخص لنفسه والنوايا التي يتعهد بتحقيقها، هي نوعٌ استثنائي من الحاجة (شبه الحاجة، كما أسماها) لا تختلف في أي شيء عن الاحتياجات الحقيقية في القوة والخصائص الديناميكية الأخرى، فكلما اتسعت "مساحة الحياة" للشخص، كلما كان الدور الذي تلعبه هذه الأهداف طويلة المدى أكثر أهمية. ان التوجّه القِيَمي للذات نحو هذه الأهداف المستقبلية بعيدة المدى، يُخضع الأهداف المتوسطة المدى بقصد السعي وراء الأهداف الأكبر -أي المستقبلية-، وهو بهذه الطريقة يُحدد سلوك وعواطف الفردِ وحالتهِ الأخلاقية.

وهكذا، فإن وجود اهتمامات شخصية مستقرة لدى المراهق يجعله موجهًا نحو الأهداف، وبالتالي أكثر تنظيمًا واتزانًا ومن ثم يكتسب الإرادة. ولم يكن عبثا أن قال فيجوتسكي، الذي اعترض على النظرة التقليدية لعلم النفس، إن المراهق لا يتميز بضعف قوة الإرادة، بل بضعف الأهداف.
وبطبيعة الحال، فإن التوجه نحو الهدف والسمات الشخصية الأخرى لا يمكن أن تنشأ إلا على أساس الاهتمامات غير المُشبعة. وقد تنشأ أيضًا بدوافع مستقرة أخرى تتطلب تكامل السلوك التنظيمي، مع الدوافع المرتبطة بنشاط العمل الاجتماعي أو مع ضرورة الحفاظ على الأسرة ودعم بعض الأقارب، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، أي دوافع واعية ومستقرة (كدوافع من الدرجة الثانية) تُغير التركيب الداخلي بأكمله للمراهق. حيث تصبح هذه الدوافع هي المهيمنة داخل بُنية المجال التحفيزي للمراهق، وبهذه الطريقة تُخْضِعُ جميعَ الاحتياجاتِ والتطلعات الأخرى لتلكَ الدوافع. وهذا بدوره يلغي التضارب بين الدوافع المضطربة التي تميز أزمة الفترة الانتقالية، ويجعل المراهق أكثر انسجاما داخليا.

وتتوج الفترة الانتقالية الحرجة بظهور بنية شخصية جديدة وفريدة، ويمكن أن نطلق عليها "معرفة الذات" Self-definition. حيث تتضمن معرفة الذات، فيما يتعلق بالوعي الذاتي للفرد، أن يصبح المرء واعيًا بذاته كعضو في المجتمع، ويحتل موقعاً جديداً مهماً من الناحية الاجتماعية.
وتتشكل معرفة الذات في المرحلة الثانية من المراهقة (16-17 سنة)، حيث تقترب سنوات الدراسة لدى الشاب/الفتاة من نهايتها ويواجه ضرورة حل مسألة مستقبله بطريقة أو بأخرى. من المؤكد أن معرفة الذات الحقيقية لا تكتمل في كثيرٍ من الأحيان عندما ينهي الشخص المدرسة، كما ثبت بشكل مقنع من خلال دراسة مفهوم الذات لدى خريجي المدارس وطلاب السنة الأولى والثانية من الجامعة التي أجراها قسم التربية في جامعة بورونيجسك تحت إشراف الدكتور في العلوم التربوية سيمون مويسيفيتش غودنيك Simon Moiseevich Godnik.
وتختلف "معرفة الذات" عن أحلام المراهق بشأن مستقبله، حيث أنها ترتكز على اهتمامات الشخص وتطلعاته الحقيقية والراسخة وليس بناءًا على الأحلام والأوهام؛ فهي تتطلب من المراهق أن يأخذ في الاعتبار قدراته الخاصة وظروفه الخارجية ونظرته إلى العالم المرتبطة باختياره لمهنته المستقبلية. وبطبيعة الحال، يبدأ تلميذ المدرسة الصغير بالفعل، وهو لا يزال في الصف الثامن، بالتفكير فيما سيكون عليه وما سيفعله في المستقبل. ومع ذلك، وكما أظهرت النتائج التجريبية، أن المراهقون يكونون غير مستعدين نفسيًا بعد لحل هذه المشكلة خلال هذه الفترة. في أغلب الأحيان يقوم المشكلة البالغين بحل هذه المُشكلة لهم، أو تُحلُّ خلال ظروف الحياة، ونادرا ما يحلها المراهقين أنفسهم، إما بشكل عشوائي أو عن طريق تقليد الآخرين. والاستثناءات الوحيدة هي التلاميذ الذين لديهم قدرات خاصة أو الذين تتطور لديهم اهتمامات شخصية مستقرة في وقت مبكر. ومع ذلك، فإن "معرفة الذات" الحقيقة هي تعريف الذات كبنية متكاملة مرتبطة ببنية الوضع الداخلي للبالغين (مفهوم الذات)، وهذا يحدث في وقت لاحقٍ إلى حد كبير وهي المرحلة النهائية الأخيرة من التطور الفردي لشخصية الطفل.

* * *
كشفت مقارنة نتائج تحليل جميع الفترات الحرجة (الأزمات) التي تميز مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي (أزمة سن السنة الواحدة والثلاث سنوات والسبع سنوات وأزمة المراهقة) عن أنماطٍ معينة. بدايةً، كشفنا عن مكانة الوعي ووظائفه في هذه العملية. إن الوعي هو نقطة محورية تتكامل فيها جميع البنى النفسية الجديدة، وبالتالي يُحدد شخصية الذات كنظام نفسي أعلى من حيث بنيته وخصائصه التنموية والفردية (فيغوتسكي). إن وظيفة الوعي التكاملية والتنظيمية لا تتحقق فقط من خلال التعميم الفكري ولكن أيضًا من خلال التعميم العاطفي. ومن هنا، فإن البُنى النظامية الجديدة التي تميز الشخصية (مثل، المشاعر الأخلاقية والقناعات والنظرة الفلسفية) تحتوي، كجزءٍ من بُنيتها، ليس فقط على مكونات فكرية، ولكن أيضًا على مكوناتٍ عاطفية؛ إنها تعطي هذه البُنى الجديدة قوةً محفزة.
إن جميع التأثيرات التي تدركها الذات يتوسطها الوعي وتحدد الوضع الداخلي للذات واستجابته الشاملة أيضًا. يتميز التطور النمائي للوعي بحقيقة أن عمليات الإدراك ووعي الفرد بنفسه باعتباره كلًا موحدًا ومتكاملًا قادرًا على تأكيد ذاته ويسعى إلى تحقيقها، وهنا يبدأ تأكيد الذات بلعب دورٍ أكبرٍ بشكلٍ متزايد. إن تطور الوعي يغير طبيعة العلاقات بين الذات ومحيطها. حيث أن الطفل حديث الولادة يعمل تحت تأثير الاحتياجات البيولوجية. في وقت لاحق يبدأ سلوك الطفل ونشاطه بأن يتحدد من خلال إدراك الأشياء في العالم الخارجي التي وجد فيها احتياجاته البيولوجية تجسيدا لها.. خلال هذه الفترة يكون الطفل تحت سيطرة الوضع المُعطى المباشر من الخارج.

ولكن بحلول السنة الثانية من الحياة، يتغير الوضع بشكل ملحوظ. خلال هذه الفترة تتشكل أول بنية جديدة للشخصية: الأفكار المحفزة، والتي يتم التعبير عنها في قدرة الطفل على التصرف وفقًا لدوافعه الداخلية. إن الأفكار المحفزة هي نتيجة التوليفة الأولى للمكونات الفكرية والعاطفية التي تساعد الطفل على تجاوز الموقف المباشر. تثير هذه الأفكار الرغبة في التصرف وفق دوافعه الداخلية التي تدفع الطفل إلى التمرد عندما يواجه نشاطه مقاومةً في بيئته. وبالطبع فإن هذا التمرد عفوي وليس مقصوداً؛ ولكنها شهادة على حقيقة أن الطفل قد دخل في طريق تكوين الشخصية وأنه قادر ليس فقط على رد الفعل وإنما أيضًا على إبداءِ أشكال سلوكٍ نشطة.

وفي المرحلة التالية (أزمة الثلاث سنوات) يميز الطفل نفسه كذاتٍ بين عالم الأشياء الذي يستطيع أن يفعل به ويغيره. حيث يصبح الطفل الآن واعيًا بذاته ويطالب بفرصٍ لإظهار نشاطه ("هذا أنا"). وهذا لا يمثل فقط خطوةً جديدةً نحو التغلب على الطبيعة الظرفية للسلوك، ولكنه أيضًا يثير لدى الطفل الرغبة في التصرف بشكل إيجابيٍ تجاه وضعه، وتحويله لإشباع احتياجاته ورغباته.

وفي المرحلة الثالثة (أزمة السبع سنوات) يصبح الطفل واعياً بذاته ككائنٍ اجتماعي وبمكانته في نظام العلاقات الاجتماعية المسموح له به. يمكن تسمية هذه الفترة بفترة ميلاد الأنا الاجتماعي. في هذه الفترة يبدأ الطفل في تطوير مفهوم الذات، وهو موقف داخلي، مما يولد الحاجة إلى تولي مكانةٍ جديد في الحياة وملء دورٍ جديدٍ مهمٍ اجتماعياً. في هذه المرحلة، كما هو الحال في جميع المراحل الأخرى، يحتج الطفل إذا لم تتغير ظروف حياته وبالتالي يتدخل هو بنفسه عبرَ سلوكه النشط.
أخيرًا، في المرحلة الأخيرة من التطور، يصبح المراهق واعيًا بذاته بالمعنى الدقيق للكلمة، أي يكتسب القدرة على توجيه وعيه نحو عملياته العقلية، بما في ذلك عالم الخبرات الذاتيةِ المعقد. هذا المستوى من تطور الوعي يولد حاجة المراهقين إلى الانغلاق على أنفسهم، والتعرف على أنفسهم كشخصيات فردية مختلفة عن الآخرين ومتوافقة مع النموذج المُختار من قبلهم. وهذا بدوره يؤدي إلى الرغبة في تأكيد الذات وتحقيق الذات والتثقيف الذاتي.

والبُنية الجديدة التي تظهر في نهاية هذه الفترة الانتقالية هو "معرفة الذات"، التي تتسم بفهم الفرد ليس فقط لذاته وقدراته وتطلعاته، بل أيضا لمكانته في المجتمع البشري وهدفه في الحياة.
إن جميع مراحل تطور شخصية الطفل التي أوجزناها هنا تشير إلى أنه كلما ارتفع مستوى تطور الشخصية، كلما كان الطفل أكثر حرية، وأن تكوين الشخصية لا يقتصر على تكيف الشخص مع متطلبات البيئة فحسب، بل يشمل أيضاً النشاط الإبداعي المستمر الذي يقوم به الشخص والموجه نحو إعادة تنظيم وإعادة بناء محيطه ونفسه.


* ليديا إليينيتشنا بوجوفيتش 1908-1981، عالمة نفس ماركسية وتلميذة لليف فيغوتيسكي.
دَرَسَت في جامعة موسكو وأجرَت أُولى تجاربها السيكولوجية حول المُحاكاة تحت إشراف فيغوتيسكي في الثلاثينيات. عَمِلَت كمُدرسة في مدرسة المصحة النفسية العصبية، ومن ثُم في أكاديمية التعليم الشيوعي في قسم السيكولوجيا الذي كان يرأسه فيغوتيسكي عام 1931. دافَعَت عام 1939 عن اطروحتها للدكتوراة حول مسائل استيعاب التهجئة. عَمِلَت في معهد الأبحاث السيكولوجية التربوية التابع لأكاديمية العلوم التربوية السوفييتية، وترأست منذ عام 1945 مُختبر سيكولوجيا تشكّل الشخصية الذي أنشأته، حتى عام 1975. كانت بوجوفيتش مُتخصصة في سيكولوجيا الطفل ومسائل نموه وتشكّل دوافعه. كَتَبَت بوجوفيتش عشرات المقالات والأبحاث وأجرت عدداً من التجارب السيكولوجية.



1) مجموعة مقالات ماركسية سوفييتية-الجزء الخامس، ترجمة مالك أبوعليا وتمارا العُمَري، نشر الكتروني. المقالات: مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي (1) ص298، مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي (2) ص311
2) A. N. Leont ev, [Activity, consciousness, and personality]. MOSCOW1,9 75. Pp. 172-73.
3) مجموعة مقالات ماركسية سوفييتية-الجزء الخامس، ترجمة مالك أبوعليا وتمارا العُمَري، نشر الكتروني. مقالة (مراحل تطور الشخصية في النمو الفردي ص318-319
4) ف. إنجلز، [ديالكتيك الطبيعة].
5 ) M. I. Nikitinskaya, [Psychological characteristics of ideals of adolescents and older schoolchildren]. Sovet. Peda- -gog., 1976, No. 11 Z. E. Grushanova, [Moral ideals and their role in the regulation of behavior of older schoolchildren]. Author s abstract of candidate s dissertation. Moscow, 1976.
6) I. S. Kon, [The psychology of youth]. Moscow, 1979.Pp. 9-19.
7) L. S. Sebov, [Psychology of youth]. Vestn. Vospitatelya,1897, NO, 6-7.
8) T. V. Dragunova, [Some psychological characteristics of the adolescent and a psychological analysis of the adolescent s evaluation of his/her deeds]. In [Problems of personality in schoolchildren]. Moscow, 196 1. Pp. 120- 219.
9) For more details see L. I. Bozhovich, [Stages in the formation of the personality in ontogeny]. Vop. Psikhol., 1979, No. 2.
10) B. E. Chudnovskii, [On the psychological nature of the stability of the personality]. Vop. Psikhol., 1978, No. 2.

أ‌) بطل رواية "الطفولة والمراهقة والشباب" لـ ليف تولستوي

ب‌) تعتبر النظرية المجالية للسلوك وحدةً كلية غير قابلة للتحليل، وان مبدأ تحليل السلوك الى وحداته البسيطة يفقده معناه ومضمونه ، فالكل سابق على الأجزاء وأنه من أجزائه ، ولذلك يرفض أصحاب النظرية مبدأ تحليل السلوك الذي يأخذ به أصحاب النظرية السلوكية. وتمثل رد فعل للنظريات الارتباطية، التي نادت بان التعلم يحدث كنتيجة لحدوث ارتباط بين مثيرات واستجابات وما ينتج عنها من تكوين عادات سلوكية؛ اما النظريات المجالية فإنها تؤكد اهمية الادراك والفهم في عملية التعلم، فقد يرى المجاليون ان التعلم يحدث كنتيجة لأدراك الكائن الحيوي (المتعلم) للعلاقات المتعددة الموجودة بين مكونات الموقف التعليمي، وهم بهذا لايؤكدون ارتباطات المثير والاستجابة ، بل يؤكدون اهمية الموقف الكلي او المجال وأهمية الدور الذي تقوم به عملية الادراك وعمليات التفكير العليا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقترح الهدنة.. إسرائيل تمهل حماس حتى مساء الأربعاء للرد


.. إسرائيل تهدد بمحاربة حزب الله في كل لبنان




.. جون كيربي: ننتظر رد حماس على مقترح الاتفاق وينبغي أن يكون نع


.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار




.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ