الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحب من المهد إلى اللحد : الحب الجنسي

مريم الحسن

2024 / 2 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الجزء الأول من هذا المقال, تتبعنا أثار بدايات ظهور الحب في حياتنا, فاهتدينا إلى نشأته الأولى و راقبنا مراحل نموه و تطوره و نضوجه الذي تفرع إلى أنواع متعددة, فبدأنا بتصنيف هذه الأنواع و توصيفها و تحدثنا عن ست أنواع هي : حب الأم, حب الأب, الحب البدائي, حب الذات, حب الغير, و الحب المنتمي, في هذا الجزء الثاني سنستكمل عملية التصنيف و التوصيف, وسنتحدث فيه عن نوع سابع للحب هو الحب الجنسي .

على عكس "حب الغير" و "الحب المنتمي" المتجهَين بطبيعتَيهما نحوالآخر, بغض النظر عن نوع أو جنس هذا الآخر, حيواناً كان أم طبيعة أو مكان, إنساناً ذكراً كان أم أنثى, الحب الجنسي هو أيضاً حب متجه نحو الآخر, إلا أنه يختلف عن النوعين السابقين بأن عماده الإنجذاب العاطفي المكثف,والطاغي في حضوره على الوجدان, و يختلف عنهما أيضاً بأن شرطه السليم هو تناقض جنس المتاحبَين, أي أن مساره لا يكون إلا من ذكر نحو أنثى, و من أنثى نحو ذكر., و من هنا جاءت تسميته بالجنسي. طبعاً نستثني هنا الشخصية الميالة إلى الشذوذ عن هذه القاعدة, تلك التي انصدم نموها في مرحلة ما باضطراب نفسي حاد, أو بسلوك تربوي نحوها, متطرف أو منحرف, أدى إلى خلل فيها أعجزذاتها عن تطوير هذا النوع من الحب بشكله السليم, و شوّش فيها سبل تعبيد مساره بشكله القويم, فنشزت عن القاعدة الطبيعية للأمور. ولهذا الشذوذ أسباب أخرى غير نفسية تبرره و تسمح بتفهمه, منها الخلل البيولوجي, أو الهرموني. ونحن هنا لسنا بصدد تفصيلها أو نقاشها لأنها ليست موضوع بحثنا, بل أتينا على ذكرها من باب ما يجب ذكره و لإتمام وضوح الصورة لا أكثر.

ما يميز "الحب الحنسي" عن باقي أنواع الحب هو أنه حب موجه بكثافة و مدفوع بانجذاب و برغبة ملحة للتعبير عن الإهتمام نحو شخص واحد فقط, قد يكون معروفاً للذات المحبة, لكن عادةً و في الأعم الأغلب, يكون غريباً عنها. مما سبق في بداية بحثنا, عرفنا أن "حب الأم" هو من النوع المطلق ,و هذا ما يميزه و يسمو به, بأنه حب حَوى كل أنواع الحب و متجه في كل الإتجاهات, نحو ذاتها و نحو الحياة و نحو العالم بكل ما فيه, كل ذلك من خلال حبها لطفلها. و في "حب الذات" ٍعرفنا الحب على أنه حب باتجاهين, نحو الذات أولاً لملئها بالحب و بالثقة, و من ثم نحو غيرها بعد أن امتلأت به, بغض النظر عن عدد المحبوبين أو نوعية الحب الممنوح,. كما عرفنا بأن "الحب المنتمي" هو حب لا يتحقق إلا بالوقت و بالتعود و بالتربية, و هو بطبيعته جمعي ومتجه إلى موضوع مشترك أو إلى مجموعة من الأشخاص ينتمون جميعاً إلى محيط واحد, و يتشاركون على الأقل ذات الأولويات و العادات.

أما الحب الجنسي فمختلف, رغم أنه يحوي نوعاً ما على بعض سمات أنواع الحب الأخرى. هذا إذا ما صح مصدراً, و صدق سلوكاً, ولم يكن وهماً خادعاً. لأن أغلب الناس تخلط بين "الحب الجنسي" و بين الاتصال الجنسي المدفوع برغبة بيولوجية قاهرة, تلك التي توتر الجسم و تشوش انتباهه و تدفع الفرد إلى تجاوز عوارضها إما عن طريق العادة السرية (الإستمناء), أو عن طريق إقامة علاقة جسدية عابرة مع شخص آخر بدافع الجنس فقط.

كُثر من يتبادلون الإنجذاب الجنسي, ممن يلتقون و يشعرون في لحظة إثارة بينهما بانجذاب قوي يحفز فيهما الرغبة الجنسية المتبادلة, قد يكون سبب هذه الرغبة واحدة من المثيرات الجنسية أو أكثر, فالإثارة الجنسية تتحفز لأسباب عديدة منها الواقعي و منها الوهمي, وهي تترجم سلوكاً بأشكال مختلفة منها ما هو سليم و يهدف إلى تنويع سبل الوصول إلى النشوة من خلال مختلف درجات التواصل الجنسي أو بتنويع الوضعيات الجنسية. و منها ما هو مرضي ناجم عن مرض نفسي أو عن اضطراب في الشخصية,مثلاً, كالميل للخضوع و التذلل في المازوخية, أو الميل للتسلط و حب التملك في السادية. أقوى أسباب الإثارة التي تطيل من عمر المتعة الجنسية و تفعل في من يمارسها رقة السلوك لإشباع النشوة, هي الإسباب المنبثقة من شعور الحب الحقيقي, أما أسرعها تحفيزاً للإثارة و أقصرها مدة في المتعة, و في عمر التجربة العاطفية ,لاسيما تلك التي تجري غالباً بين طرفين غير متعارفين,هي الأسباب الناجمة عن شعور قلق الإنفصال المقيم في اللاوعي, و الذي يتمظهر في الوعي بشعور خوف من الوحدة و تترجمه النفس إحساساً بالحرمان العاطفي. هذا القلق لا تتجازوه الذات إلا باندفاع عاطفي أو جنسي نحو ذات أخرى تحتضن قلق وحدتها, وتقهر باتحادها الجنسي معها مشاعر الإنفصال في لاوعيها, فتُفسر الذات الواهمة هذا النوع من الإتحاد الجنسي على أنه اتحاد حب

في حالة هذا الوهم الخادع, سيُفسّر الإنجذاب الجنسي على أنه " الحب الجنسي الحقيقي ", ذاك الذي يرافق الحب عادةً و يكون لإجل الحب و منه و فيه. فيلتقي الطرفان المنجذبان, قبل تعميق و تمتين تعارفهما و انفتاحهما الذاتي على بعضهما, في علاقة جنسية أو علاقة عاطفية هدفها اللاواعي تجاوز احساس الحرمان العاطفي و هدفها الواعي اشباع عطش الحب فيهما, لكن ماذا يحصل بعدها؟

بعد انتهاء العلاقة الحميمية يعي كلاهما أنهما لا يعرفان بعضهما بالشكل الكافي, و بأن مناطق الغموض في شخصية كل منهما لم يتم الكشف عنها بالقدر الذي يسمح للطرف الآخر بتقبلها أو برفضها. فيسعى كل واحد منهما إلى التعمق في اكتشاف الأخر لمعرفته أكثر, لسبر مناطق الغموض فيه و التعرف عليها. إذا فارقهم الحظ, سيصطدمان باختلاف طبائعهما و بعدم انسجامها و بالتالي بعدم انسجامهما كعاشقين, لينتهي انجذابهما, الذي اعتقداه حباً في البداية, إلى النفور فالفراق. أما إذا كان الحظ حليفهما, سيجدان اهتمامات مشتركة بينهما, و قد تنسجم طبائعهما, فيستمران بالعلاقة طالما استمر الإنجذاب الجنسي قائماً, وطالما بقي توافق الطباع بينهما حاصل ولم يتعثر بخبايا ما لم يُكتشف بعد. و حين يفتر الإنجذاب الجنسي, أو يظهر من خفاء شخصيتيهما ما يعكر صفاء انسجامهما و توافقهما, إما يفترقان, و إما يبدأ أحدهما أو كلاهما بخيانة الآخر, بالبحث عن حب بديل,في انجذاب جنسي بديل, مع شخص جديد و حظٍ جديد. فهل هذا هو مقصودنا من الحب الجنسي؟ بالطبع لا.

ما نقصده بالحب الجنسي هو الحب المدفوع نعم بالإنجذاب الجنسي, و المكثف, نحو شخص بعينه دون سواه, لكنه لا يصح إلا إذا كان مقروناً برغبة ملحّة لمعرفة تفاصيل اهتمامات هذا الشخص و ميوله و رغباته, وبشعور غامر بالمسؤولية, لا فقط نحوه, بل أيضاً نحو هذا الشعور بالحب المحمول له. و أيضاً هو لا يصح إلا إذا كان مصحوباً في ذات الوقت برغبة ذاتية عميقة للإنفتاح عليه, و للإنكشاف أمامه فكرياً و روحياً قبل التعري و التقارب الجسدي. فالهدف من الإنكشاف و التعري, قبل إشباع الإنجذاب الجنسي, هو سبر غموض الذات المقابلة و معرفة سر الإنجذاب نحوها,( وإن كان هذا الإنجذاب سيظل غير معروف بالكامل). و في ذات الوقت الحب الجنسي , هو وسيلة لإعادة اكتشاف الذات من خلال اكتشاف صفاتها الإنسانية نحو و في الجنس الآخر, المغاير لجنسها. يمكن اختصار وصف الحب الجنسي بأنه شعور بالسعادة يدفع من يشعر به للإندماج الكلي مع شخص بعينه دون سواه, و للإتحاد معه, بهدف دمج و مزج ذاتين في ذات ثالثة معنوية, هي ذات الحب الحاضرة بكل كثافتها من خلال قربهما و اجتماعهما معاً, والمتشكلة أولاً من انجذاب روح لروح, وثانياً من انجذاب و توافق فكر مع فكر, و ثالثاً من انسجام طبع مع طبع, و إن اختلفت بينهما الصفات و الميول الشخصية.

هذا النوع من الحب يمكن اعتباره غريزي و مكتسب في وقت واحد و هاتان الصفتان هما شرطه و حضورهما معاً في العلاقة يمنحها صفة الحب الجنسي. غريزي لأنه يستجيب لأمر الطبيعة في الحفاظ على النوع البشري و استمرار بقائه. ومن هنا أتت تسمية الحب الجنسي بين جنسين متماثلين بالشاذ لأنه يناقض غريزة الحفاظ على النوع البشري و يقوده إلى فنائه. فالحب المكثف و الإنجذاب العاطفي بين جنسين متماثلَين (بين ذكر و ذكر أو بين انثى و انثى) المتولد من التناغم الروحي أو الفكري و من انسجام الطباع بينهما, هو انجذاب طبيعي و حب سَوي لا يتنافى مع الطبيعة السوية للأمور و لا يمكن اعتباره شاذاً, فهذا ما نلاحظه في علاقات الصداقة المتينة و العميقة جداً حد الإتحاد الروحي, لأن الإنجذاب العاطفي المكثف بين اثنين من نفس الجنس يخلق بينهما شعوراً مستمراً بالسعادة و بالإرتياح و بالإطمئنان, و هو ما يدفع بهما إلى التلازم في مسار الحياة, و يحثهما على التزامهما بالمسؤولية اتجاه بعضهما و على إظهار الرعاية و الاحتواء النفسي لبعضهما البعض, غير أن هذا النوع من الحب المكثف يصبح شاذاً إذا ما تحوّل تمظهره إلى حب جنسي يُناقض في سلوكه المادي الميل الغريزي الذي تحتويه و تقوم عليه طبيعة الحب الجنسي.

و الحب الجنسي يُعتبر مكتسباً لأنه يلبي رغبة عميقة في اللاوعي تدفع الذات نحو إلتحامها بذات أخرى للإتحاد معها. هذه الرغبة اكتسبها الإنسان عند الولادة, لحظة انفصاله الأول عن أمه, بعد أن كان معها ذاتاً واحدة, حين كان جنيناً في رحمها, و استمرت لما بعد انفصاله الثاني عنها, حين الفطام, و نمت في سنواته الأولى حين وعى ذاته المنفصلة, واستقرت أخيراً متجذرة في لاوعيه بعد أن حكم عليه البلوغ بالإستقلال التام و بالإكتفاء الذاتي.إذن الدافع الخفي خلف الحب الجنسي هو دافع مشروط بغريزية فطرية و برغبة مكتسبة : غريزة فطرية في الحفاظ على النوع البشري, و رغبة دفينة في اللاوعي بإعادة الإلتحام الآمن مع ذات أخرى, والإلتحام الآمن لا يكون إلا مع ذات تأتمنها الذات على نفسها بكل ما تحتويه, بمثالبها قبل فضائلها, و الشعور بالأمان لايُمنح إلا بعد تعوّد و معرفة كافية, وهو رد شعوري من الذات على شعورٍ بالسعادة استثاره أو أشبعه فيها تواجدها القريب من ذات أخرى منسجمة معها فكراً و روحاً.

نفهم مما تقدم, أن اتحاد الذات بذات أخرى تحبها يلبي نداء ذاك الحنين الصارخ بها للعودة إلى مرحلة الأمان و السكن و الراحة, حيث كانت مشمولة برعاية ذاتٍ متحدة معها, مسؤولة عنها و مهتمة بتأمين راحتها, و ذلك من دون أي مردود مقابل تجنيه سوى شعور السعادة المتوالد فيها من خلال منح الحب و من تواجدها في قرب من تحب. الرغبة بالإندماج مع ذات أخرى يعني العودة إلى وطن السعادة الأول, إلى ذاك الحب غير المشروط الذي عرفته طفولة الإنسان المبكرة. هذا هو الحب الجنسي , وما العلاقة الجنسية فيه إلا سلوك و متعة متواصلة يجسّدان هذا الحب غير المشروط بكل صفاته لا سبباً له. ولا بد من الإشارة هنا و الـتأكيد على أن الحب الجنسي لا ينجح و لا يستمر إلا إذا كانت الرغبة بالإهتمام وبالإحتواء و الشعور بالمسؤولية فيه متبادلين بين الذاتين المتحدتين. كما أن الإهتمام و الإحتواء المسؤول لا يتحققان إلا بمعرفة الآخر معرفة كافية, أي بانفتاح و انكشاف الذاتين على بعضهما انفتاحاً تاماً في الوقت عينه, و بعد تقبل كل منهما لطباع و صفات الآخر و إن تناقضت طباع و صفات شخصيّتيهما.

كل هذه الشروط تقود فهمنا إلى أن الحب الجنسي ما هو إلا قرار التزام بالسعادة تتخذه الذات نحو ذات أخرى تشاركها نفس الإلتزام و نفس الشعور بالسعادة. إلتزام بالحب مدفوعاً بالحب. وهو التزام هدفه الأول و الرئيس عيش الحياة بسعادة و بسلام, و العودة بالذات إلى سعادة راحتها و أمانها و استقرارها النفسي. و هو أمر لا يتم إلا إذا بادر كلٌ من الحبيبَين, في ذات الوقت, إلى تبني نوع الحب الأول غير المشروط الذي تعلماه من حب الأم, أي المبادرة إلى منح الحب لأجل الحب قبل تلقيه, لأن هذا النوع من الحب سيُنعش فيهما حب الحياة, فيتقبلانها و يتقبلان وجودهما فيها, و هذا القبول للحياة سيُخمد, في لاوعي الذات المحبة, قلق صدمات انفصالاتها المتتالية التي عاشتها في دنيا الوجود, انفصالها الأول عن رحم الأم, انفصالها الثاني عن ذات الأم, وانفصالها الثالث حين استقلت بذاتها, و الرابع حين سألت سؤالها الوجودي الأول.

انطلاقاً من هذا السؤال الوجودي الأول سيبزغ فجر نوع ثامن من الحب هو الحب الإلهي, سنتعرف على هذا النوع الثامن بشكل مفصل في الجزء الثالث من هذا المقال فإلى اللقاء في الجزء القادم ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك