الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول رشوة في التاريخ

إسكندر شوق

2024 / 2 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ما مغزى أن يكون أول فاسد في التاريخ معلماً ؟! ما الدرس الذي يمكن أن يتعلمه أبناء هذا الجيل في أرض الرافدين حينما ينظرون إلى بلدهم و هو يتسلق سُلّم الريادة في توثيق أول حالة خيانة لشرف المهنة ؟ الوثيقة المكتشفة في مدينة نفّر السومرية يعود تاريخها إلى أكثر من 4000 سنة ، و قد سميت " أيام الدراسة " . تتكون من ألواح طينية محفوظة في متحف جامعة بنسلفانيا و متحف الشرق القديم في إسطنبول . ترجمها من اللغة السومرية أستاذ السومريات صموئيل نوح كريمر . و بذل جهداً كبيراً في جمعها و تصنيفها و إعدادها ، و نشرها في كتابه المعروف " من ألواح سومر " . لم تكن هذه الوثيقة مجرد سرد لحوادث يومية لتلميذ متذمر كان يعاني من قسوة المدرسة و نظامها الصعب ، بل هي بمثابة تقرير عن واقعة جرت أحداثها في زمن كان من المفترض أن يكون خالياً من عيوب و عاهات زمننا الحالي . كانت المدرسة السومرية غير متاحة لعامة الناس ، فهي محتكرة لأبناء الطبقات الدينية والأثرياء و أصحاب الجاه و النفوذ و السلطة . لا ينتظم في صفوفها سوى الصفوة من الذكور حصراً . و من دون شك فإن هؤلاء التلاميذ ممن يفخرون بعلويتهم على أبناء الطبقات الأخرى في المجتمع يرون في طبقتهم القدرة على شراء الذمم حتى لو كانت ذمّة معلم في مدرسة خاضعة للسلطة الأعلى في الدولة السومرية و هي المعبد . كان ذلك التلميذ المدلل يمر بيوم ثقيل في مدرسته ، لأنه " تلقى الضرب بالعصا من أكثر من شخص واحد من أعضاء هيئة التدريس بسبب ما ارتكبه من هفوات كالتكلم و القيام في الصف و الخروج من باي المدرسة " ( من ألواح سومر ص 58 ) . و شأن هذا التلميذ كشأن أي صبي مدلل سليل عائلة ترى نفسها فوق الآخرين ، لا يكترث لقواعد السلوك المرعية في المدارس آنذاك ، و لا يريد الإنصياع لضوابط و آليات تسيير أمور المدرسة في التعليم و التربية ، لأن كبرياءه يمنعه من ذلك . فنفد صبره و طلب من أبيه " أن يدعو المدرس إلى بيته و يسترضيه ببعض الهدايا " . ( من ألواح سومر ص 58 ) . وصفَ كريمر هذه الحادثة بأنها أول حالة " apple polishing " في تاريخ الإنسان . إذ لم يتردد هذا المعلم من قبول الرشوة من والد التلميذ الذي قدم له " الخمر و الطعام و الثياب الجديدة و أهداه هدية ثم وضع خاتماً في إصبعه " . ( من ألواح سومر ص 58 ـ ص 59 ) . لقد سال لعاب المعلم للهدايا و السخاء منقطع النظير الذي حظي به . " فقد طابت نفسه من الكرم و حسن الضيافة " . ( المصدر نفسه ص 59 ) . و تمنى للتلميذ أن يكون " قائداً بين أخوته و أن يصبح رئيساً على جميع أصدقائه و يبلغ أعلى الرتب بين طلاب المدرسة " ( السابق ص 59 ) . كان سهلاً علينا ، نحن الأحفاد ، أن نستقبل حكاية فساد قادمة من التاريخ لو كان بطلها صعلوكاً أو سياسياً أو تاجراً فاسداً أو أي وصفٍ آخر . لكن من السخرية و سوء الطالع أن يكون المعلم ، بكل ما تحمله هذه الوظيفة من دلالات أخلاقية و تربوية ، أول فاسد في التاريخ! إن قيمة المعلم ترتبط ، منطقياً ، ارتباطاً وثيقاً ببنية الأخلاق ، و انحدار هذه القيمة إلى الحضيض يعني أن ثمة خللاً في أصل المجتمع منذ بواكيره الأولى إلى اليوم . إذاً فقد كانت التربة هشة للغاية ، و قد زاد هشاشتها خضوع سلطة المدرسة إلى سلطة المعبد . فالمعبد محكوم بثوابت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهيمنته الروحية و المادية على منظومة الحكم الدنيوية و هو ضمن هذا المفهوم سلطة مطلقة لا تزاحمها أي سلطة أخرى . لذلك يرى المعبد نفسه غير خاضع لنواميس الدولة . و من هنا نشأ الخلل الذي تقاطعت فيه السلطتان الروحية و المادية . فبرزت من هذا التقاطع مظاهر الإختلاف و جدليات الثابت و المتحول في صناعة مجتمع محض . إن استحواذ الم. عبد على البيئة التعليمية و التربوية و استئثاره بمواردها كان سبباً مباشراً لانحطاط هذه البيئة . لقد جعل المدرسة محكومة بقيم غير مدنية تتنافى مع الهدف السامي من وجودها . و هذا الأمر أدى إلى إضعاف البناء الأخلاقي للمدرسة . فالخضوع لسلطة رجال الدين أفرغ المدرسة من مضمونها و جعلها منقادة لأهواء و غايات بعيدة كل البعد عن هويتها الأصلية . ضعفت ، إذاً ، وسائل البناء التربوي ، وانقطعت آليات الإتصال بين المنهج والغاية ، حتى وصل الأمر إلى تجريد المعلم من مضمون رسالته ، ففسد وفسدت معه القيم كلها . فصدارة مشهد الفساد في التاريخ لا تتفق مع مضمون حضارات وادي الرافدين . لكن الحادثة قد وقعت ، وشئنا أم أبينا فقد تم توثيقها . إن الحدث الجلل ليس في انزياح المعلم من ثوابته فحسب بل بتلقيه الإهانة من تلميذ في صفه بصدر رحب . فقبول الدعوة إلى بيت التلميذ وتلقي الرشوة هناك لهي دليل وهن أخلاقي لا يوازيه أي وهنٍ آخر . ويؤشر درجة انحطاط لا تُغتفر . يجب الإشارة إلى أن هذه الوثيقة ليست مجرد سطور قصة مكتوبة في لوح طيني معروض في متحف ، بل هي دليل إدانة لمجتمع أفسدته قيم الأمية والجهل وعبادة الأوهام . لا يكفينا تصنيف هذه الوثيقة ضمن سياق رسالتها الواضحة فحسب ، لكن يجب التعامل مع آثارها في التوعية على أنها شكل من أشكال الدراسة المنهجية في التحليل واستنباط النتائج . يجب أن نعطي الوثيقة التاريخية ما تستحقه من العناية لإعادة تشكيل وعينا وترميمه كاملاً . الأكيد أننا لن نجد أجوبة شافية لجميع استفهاماتنا ، لكن وضع المرض تحت قيد العناية أفضل من إهماله كلياً . فالإستثمار في التاريخ لن يقتصر على عرض المادة التاريخية في متحف ما ، بل باختلافنا مع تلك المادة لكي نتمكن من فهمها جيداً . إن إخراج الأثر من علبته يعني طرح الغايات الجمالية لهذا الأثر جانباً ودراسته في ضوء مشكلاتنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والتربوية .فدراسة الأثر ليست إعادة اكتشاف فحسب ، بل هي مرحلة انتقالية من العلبة إلى ميدان التحليل والإستنباط ووضع النتائج واقتراح الحلول . إن مؤشر دراسة الأثر الذي بين أيدينا سيصل إلى ذروة معناه فيما لو استطعنا تعليله ، والفائدة التي نجنيها هي مقدمة لدراسة الخلل في أبواب كثيرة من حياة المجتمع .مجتمعنا بدائي ! يرتبط بإرث متسلسل من القيم البالية . حياة جاهلية ، أوهام ، فكر مسلوب الإرادة ، غربة حقيقية عالم يقفز بالحداثة قفزاً .انكفاء ، بلادة في تفسير الضواهر الجديدة وعدم القدرة على التكيف معها . هو باختصار مجتمع مشلول . لا يدرك حلولاً لمعضلته إلا من خلال الفساد . كل شيء فاسد في نظره ، ولابد من الانخراط في هذا المستنقع حتى لو تطلب الأمر الذوبان في عاصفة الانحطاط من دون خجل . هذا هو التاريخ . قال كلمته . في هذه الأرض ومنها خرج أول الفاسدين . وسُطّرت قصة أول رشوة في التاريخ . وبقدر ما للمعلم من قداسة على مر الأزمان والعصور فهو ، لسوء طالعه ، قد أسقطه التاريخ . هنا وهنت سيادة الموجّه وتراجعت قيم الكلمة التي هي رأسمال الموجّه ولم يبق لها معنى في نظر التلميذ وعائلته ومجتمعه . لكن هل تُسجّل الحادثة التاريخية بوصفها مجرد عضة تتأرجح في تأثيرها بين الشك وبطلان نتائجها ؟ ثمة من ينظر إلى الحادثة على أنها سطور أكلها الزمن في لوح طين طمر دهوراً تحت الأرض وعندما ظهر فلن يبقى لمضمونه قيمة تذكر . وآخرون يسلمون الماضي للشك ، وفي نهاية المطاف تنعدم الضرورة لهذا الأثر . ثمة مدارس دينية وفكرية متطرفة لا ترى في الأثر سوى أنه مجرد مادة وثنية جاءت من زمن وثني ، ولهذا السبب تنعدم جدواها و يُحكم عليها بالرجم . وثمة مدارس فكرية أخرى لا ترى ضرورة في تحميل المادة الأثرية أكثر مما هي عليه . فهي تعتقد أن الأثر يجب أن يبقى أثراً مجرداً من مضمونه ، لا يصلح إلا للعرض في فاترينات المتاحف . تشير المصادر إلى أن قدم الفساد في وادي الرافدين بقدم نواميسه الأولى . وتذكر المدونات الموثوق بها والوثائق المكتوبة في زمن حكم أسرة أورناشة في مدينة لكش سنة 2520 ق م تردي الحالة الإقتصادية في زمن حكم هذه الأسرة بسبب الهيمنة المطلقة لرجال الدين على مقدرات الدولة . فتمتع الكهنة بامتيازات كبيرة جعلتهم متخمين وأثرياء . فاتسعت الهوّة بين طبقة المحرومين وطبقة رجال الدين وموظفي الدولة الكبار . وازدادت الرسوم والضرائب بشكل فاحش يصعب معه ردم الهوة أو السيطرة على امور الدولة . فانهارت الدولة التي نخرها الفساد وتلاشت قدرتها في إقامة موازين العدل وفرص التكافوء بين طبقات الشعب .وعلى الرغم منظهور رد فعل قوي من قبل المصلح السومري أوروكاجينا الذي عالج مواطن الخلل والضعف في الدولة إلا ان الدولة بقيت تعاني من انهيار بنيوي وشرخ اجتماعي عميق أدى في نهاية المطاف إلى القضاء على دولة مدينة لكش إلى الأبد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيسان إسماعيل ومحمود ماهر.. تفاصيل وأسرار قصة حبهما وبكاء مف


.. إسرائيل تتوغل في جباليا شمالا.. وتوسع هجماتها في رفح جنوبا |




.. واشنطن: هناك فجوة بين نوايا إسرائيل بشأن رفح والنتيجة | #راد


.. الكويت ومجلس الأمة.. هل أسيء -ممارسة الديمقراطية-؟ | #رادار




.. -تكوين- مؤسسة مصرية متهمة -بهدم ثوابت الإسلام-..ما القصة؟ |