الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليمن التاريخ والهوية الحلقة 2-4

قادري أحمد حيدر

2024 / 2 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قادري احمد حيدر





اليمن: التاريخ والهُوية





الإهداء :
إلى الصديق الاستاذ المهندس/ محمود إبراهيم صغيري.
مثقفاً وشاعراً وباحثاً وفلكياً، صديق أحبه وأحترمه واعتز بصداقته الشخصية.. إنسان على قدر علمه، على قدر بساطته الإنسانية في تجلياتها التهامية السموحة الأليفة، هو ابن الفضاء الثقافي المدني المتسامح الآتي من الساحل، والسهل المنبسط المفتوح على فضاءات الحياة والإنسان .. يمني الهوى والهوية.

إليه: مع عزيز محبتي وتقديري.


( ٢ - ٤ )




* - اليمنيون وبناء الدول والممالك في التاريخ السياسي القديم.




التاريخ في كليته (مجموعة) سيرة ذاتية/ موضوعية تنظم حياة الأفراد والجماعات، مسيرة تجمع في سرديتها بين المنطقي والعقلاني، والتاريخي، ولا يمكننا اختصارها في جملة خبرية من هناك أو هناك أو في سيرة هذا الملك أو تلك المملكة/ الدولة، فهو (التاريخ) في كل مرحلة من مراحل حركته، وتطوره بنية ذاتية، فكرية سياسية اجتماعية اقتصادية، ولكل مرحلة من مراحل تنزيله، أسباب خاصة بكل حالة على حدة، تفسره وتحلله. هذا ما تقوله سرديات التاريخ في تحولاته المختلفة العابرة، والعاصفة، وكل مرحلة تحتاج إلى عصف ذهني/ تاريخي يصاحبها، ومن هنا تبرز صعوبة بل استحالة قراءة التاريخ بأثر رجعي وفقاً لمقولات أيديولوجية/ ذهنية –لاحقة- نكونها نحن عن أنفسنا وعن واقعنا، وعن التاريخ، وكأنها البديل للتاريخ، الذي كان، وكلما تقادم الزمن بنا مع صفحات التاريخ لتلك الدولة أو الدول كانت المهمة أكثر صعوبة ، وهو ما يستدعي من قارئ للتاريخ بمستواه العام، ومستواه الاختصاصي قدراً من الموضوعية والعقلانية في التعاطي مع ذلك التاريخ.

فاليمنيون من الشعوب الأولى المبكرة في التاريخ الذين ارتبط اسمهم ببناء الممالك والدول، إلى جانب دول ما بين النهرين، ومصر والشام ". وتعود أول إشارة إلى العرب إلى السنة السادسة من حكم "سلمنز" أو "شلمنصر" الثالث ملك الآشوريين الموافق سنة 853 ق.م. ففي معركة "قرقر" واجه هذا الملك تحالفاً فيه "جندبو" العربي ومعه ألف جمل –واليمنيون أول من استخدم الجمل كما في النقوش- الباحث- ويتضح أن للمفردة "عرب" استخدامين، حيث تطلق للدلالة على: أشخاص، أو جماعة لغتهم العربية، أشخاص أو جماعة تسكن شبه الجزيرة العربية (1).

وحول هذا الموضوع رؤى تاريخية مختلفة في المصادر، و في الكتابات الآشورية إشارة واضحة لذكر اليمن، وملك اليمن، فقد أشار ملوك آشور في نقوشهم إلى ملك سبأ كدليل على قدم هذه الدولة وعلى نشاطها وعلاقتها بالعالم الخارجي 715 ق.م (2).

وهنا من المفيد الإشارة إلى أنه "من الغريب أن نكتشف أن النقوش اليمنية لا تشير إلى العرب إلاَّ ابتداء من القرن الأول الميلادي بعد حوالي 900 سنة من أقدم ذكر آشوري لهم، ولا يعود سبب هذا النقصان إلى فقر التوثيق الغزير نسبياً بخاصة في المملكة المعينية(3) بل يجب البحث بالأحرى في نموذجية النقوش: نصوص، نذور، ومراسيم احتفاء بمنشأ ...إلخ، وكلها لا تشير إلى العالم الخارجي " (4) .

قد لا تجيب أو تقدم لنا النقوش المكتشفة والمصادر الاخبارية التحقيب التاريخي لقيام وظهور الدولة في اليمن القديم بصورة واضحة ودقيقة. فبعد أن كانت المصادر التاريخية القديمة تضع الدولة المعينية من أقدم الدول، جاءت الكتابات الاستشراقية، وحتى بعض النقوش اليمنية "نقش النصر" لتقول غير ذلك، ولا يرد فيها ذكر للدولة المعينية، كأقدمية في تاريخ بناء الدولة.

"فنحن نعرف من خلال النقوش أن دولاً مثل أوسان وقتبان وحضرموت كانت موجودة جنباً إلى جنب مع دولة سبأ في القرن الثامن قبل الميلادي، وهي الفترة التي تعود إليها أقدم النقوش المكتشفة حول البداية التأسيسية الزمنية التي تحدثنا عن الدول اليمنية القديمة، ويمكن أن نقول من خلال شواهد استئناس الجمل الذي ارتبط به طريق البخور القديم، بأن البدايات الأولى لطريق البخور تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وطريق دولي مثل هذا لا يمكن أن تنظمه وتنسق التجارة عليه إلا كيانات سياسية معتبرة (دول)، وذلك يجعلنا نقول : إن الدولة في اليمن القديم يعود ظهورها على الأقل إلى تلك الفترة، وليس إلى القرن الثامن أو أواخر القرن التاسع قبل الميلاد حسب قول العديد من الباحثين الأوروبيين " (5) .

ودون الدخول في تفاصيل سياسية ومادية/ اقتصادية وتاريخية، حول نشوء الدول في التاريخ القديم (الحضارات القديمة)(6). يمكننا القول وفقاً للاستخلاصات من الكتابات التاريخية: إن الِملكية (بكسر الميم)، والتأسيس لها في تشريعات وأنظمة وقوانين، ثم بداية الاستقرار الزراعي، وتنظيم مِلكية الأرض الزراعية، ولذلك "فقد ظهرت الملكية في اليمن القديم في جوانب الحياة كافة ، وكانت من أهم المواضيع التي تناولتها النقوش المسندية، والخشبية (الزبور) بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ضمن مواضيع أخرى من ذلك، فالحروب، وما ينتج عنها من امتلاك وتقسيم للأراضي وما تحمله على أرضها من محاصيل أو أفراد، والتي تم الاستيلاءعليها بعد انتصار مملكة على أخرى، وإعادة تقسيمها لأكثر من مرة، بالإضافة إلى ما ذكرته النقوش من تشريعات قانونية سنها اليمنيون للحفاظ على تلك الملكيات –العامة والخاصة- وعدم التعدي عليها، وفرض العقوبات على ذلك" (7)، كلها تدل على حضور الدولة ، والذي لا يقل عن معنى وجود الدول في العالم القديم. .

ومن قراءاتي المتواضعة للعديد من نتاج أو أبحاث المختصين اليمنيين والعرب، والأجانب أرجح ما يذهب إليه البروفيسور/ عبدالله أبو الغيث، في الإشارة السابقة من بحثه التي تم إيرادها في موضوعنا هذا، وهو ما صار اليوم متداولاً ومؤكداً. بأن دولة سبأ - وكذلك أوسان وقتبان - من الدول الأقدم في التاريخ وهو ما تقوله شواهد بناء وعمران السد، (مأرب)، الذي تؤكد جميع المصادر أنه من أقدم البنى العمرانية المرتبطة بتنظيم الري، والحياة الزراعية المستقرة، هذا العمران الذي لا تشيده، سوى دولة حقيقية قائمة في حقيقتها كبنية مادية/ مؤسسية/ أي كدولة، وكما سبقت الإشارة إلى أنه تعاصرت مع دولة سبأ دول يمنية عديدة انتشرت في كل الأرض اليمنية، فيما نطلق عليه اليوم في المسمى السياسي، شمال وجنوب، على اختلاف الباحثين في تقدير بداية تأسيس مملكة سبأ واتحادها السياسي بقيام حكم المكاربة السبئيين ، لما اكتنفه من غموض في تفاصيله، وبدايته التاريخية ونهايته، فمنهم من أعاده إلى القرن العاشر، أو القرن التاسع ق.م، وغيرهم جعل تاريخ حكم المكرب الأول في حوالي نهاية الخامس ق.م، والقرن الثاني، أما "ملاكر" فقد قدر بداية ونهاية فترة حكم المكاربة بحوالي "800-650 ق.م" (8).

* - ظاهرة تسمية الملك، والمكرب، والمملكة علامة على قيام الدولة:


لقد تلقب الملوك اليمنيون ، في الممالك، والدول اليمنية القديمة، باسم المكرب، وباسم الملك، لقرون طويلة، وهو ما يعني أننا أمام حكام لدول وممالك مستوفية لاركان وشروط بناء ووجود الدولة، في ذلك الحين.. الدولة بكل تمظهراتها، وملحقاتها، ( مؤسساتها)، : القصر، والدواوين، والجيش، والبيروقراطية، التي تعكس وتجسد أهم ابعاد حضور ووجود الدولة.. الدولة المعبرة عن نظام اجتماعي / سياسي، في صورة هذه القبيلة( الشعب)، أو اتحادات القبائل، في وحدتها، وتحالفها، أو صراعها، على طريق امتلاك السلطة والثروة.. وحول تداخل أو أسبقية أحدهما على الآخر (الملك/ أو المكرب)، فإن ما تحكيه النقوش اليمنية القديمة هو القول الفصل في ذلك. أي أسبقية المكرب، وهناك من يقول: إن لقب مكرب وملك قد ترافقا زمنياً وفي تقديري إن، ظاهرة ارتباط وتوحد الملك والمكرب في أحدهما إنما كان دليل على الجمع بين السلطتين الزمنية ، والدينية، وهو ما يشير إليه في أبحاث مميزة المستشرق الروسي (لوندين) حول تاريخ حضارة اليمن القديم، وحول دولة مكربي سبأ في أكثر من موضع في كتاباته التاريخية الرائدة حول دور دول اليمن القديم(9).

لقد أطلق على أوائل حكام سبأ لقب مكرب مع الاختلاف في تفسير كلمة "مكرب": فمنهم من يرى أنه "المقرب" من الإله ومنهم من يرى أنهم أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب حين كانوا يجمعون بين السلطة الدينية والزمنية، وكذلك الإشارات العميقة الموسعة للمستشرق الروسي (لوندين)، كما سبقت الإشارة.

إن علاقات (القوة/ التغلب)، أي علاقات السيطرة والهيمنة بين هذه الدول في التاريخ السياسي، أي سيطرة وهيمنة دولة على الأخرى، أو حتى اقتسام النفوذ السياسي مع هذه الدولة أو تلك الدول، كانت تحكمه توازنات علاقات القوة فيما بينهم. هذا ما يقوله التاريخ السياسي في ذلك الحين، ولذلك حكمت علاقة سبأ بحضرموت ، وحمير "الدولة الفتية" في ذلك التاريخ هذه القانونية من السيطرة حتى اقتسام النفوذ السياسي. فليست دولة سبأ –كما تقول د. اسهمان سعيد الجرو- من كانت تتطلع إلى حضرموت ، بل إن حضرموت كانت تتطلع إلى الهضبة الغربية وهو ما أدخلها في مشكلات كبيرة مع سبأ وحمير، مما سبب لها متاعب لا حصر لها ولاعد" (10). حتى وصلت حالة التحالفات السياسية في فترة لاحقة إلى تحالف سبأ وحضرموت مع الحبشة ضد التوسع الريداني (اليمني)، وهو ما تحكيه جميع المصادر التاريخية، ولعل أهمها النقوش اليمنية ، وهو ما جعل للحبشة بعد ذلك موطئ قدم في تهامة اليمن.(11) .


إن حالة الوحدة السياسية ، والتحالفات المؤقتة (الصراع والوحدة والتكامل) بين دول اليمن القديم – فيما بينها وكذا مع غيرها من الدول الأخرى- هو ما تشير إليه معظم المصادر التاريخية، أي أن تاريخ الوحدة بالحرب والتغلب، هو ما كان يفسر ظاهرة الاتصال والتقارب والتوحد السياسي، في صورة العلاقة الصراعية أو الاتحادية أو التحالفية القديمة بين سبأ وحضرموت، منذ عهد المكاربة. وبين غيرهما من الدول في ذلك التاريخ .. وإلا كيف نفهم ونفسر تحالف سبأ وحضرموت مع الحبشة ضد التوسع الريداني لاحقاً (12) .فعل سبيل المثال "تعرضت دولة قتبان لغزو حضرمي في بداية القرن الأول الميلادي، واحرقت عاصمتها "تمنع"، ولكن الوجود القتباني لم ينته، فقد ذكرهم بطليموس الجغرافي (...) وهناك فترات خضعت دولة حمير لدولة قتبان، فقد كان يطلق عليهم أولاد "عم" وعم إله قتبان الرئيسي، ولكن هذه القبائل استقلت في فترات ضعف قتبان"(13). وهذه الوقائع والحيثيات السياسية والاجتماعية تحكي قضية وحدة العلاقة بين أبناء اليمن، في صيغ الوحدة والصراع، على قاعدة التغلب بالقوة، الحرب، وهي القانونية التاريخية التي حكمت علاقات العالم القديم، بما فيه علاقة اليمن القديم ببعضه البعض.

وجميعها مظاهر وظواهر عرفتها دول اليمن القديم، -وغيرها- بما فيه التعاون والتحالف مع بعض الخارج ضد الداخل اليمني (الأحباش). (14).

وحول نظام المكاربة فإن حضرموت عرفت نظام المكاربة ،كما عرفته دولة قتبان( أي النظام المكربي)،(15)، وهو ما يدل على حالة التكامل والتشابه في بنية النظام السياسي،تشير إلى حالة من الوحدة الثقافية الحضارية فيما بين دول اليمن القديم،الوحدة في إطار الصراع،الذي تهيمن علية ظاهرة أو طابع التغلب بالقوة،وهي القانونية الموضوعية، التي حكمت وتحكمت بانظمة ودول العالم القديم كله .

وفي نقش "النصر" الذي يعود إلى مطلع القرن السابع ق.م. فيه إشارة واضحة إلى دولة "أوسان" وسقوطها، ونقرأ في النقش المذكور أن دولة أوسان امتدت من أراضي شبوة الحالية حتى أراضي محافظة (تعز) (المعافر) غرباًً. "ويحدثنا كتاب "دليل البحر الأريتري"، الذي تم تأليفه في القرن الثالث الميلادي بأن سواحل شرق أفريقيا (في تنزانيا وكينيا الحاليتين) كانت تسمى بالساحل الأوساني، ما يدل على أن دولة أوسان قبل سقوطها كانت قد تمكنت من مد نفوذها إلى هناك، حيث ظل هذا الساحل يحمل اسمها بعد سقوطها بحوالي ألف عام". (16) .

ومن المهم هنا الإشارة إلى تبادل وحدة الألقاب بين ممالك اليمن القديم بصرف النظر عن الدواعي لذلك (سياسياً أو غيره)، فقد عرفت سبأ لقب ومسمى الملك والمكرب، وهناك من يرى من خلال النقوش أن دولة حضرموت عرفت نظام المكاربة، وهناك من يرى أن لقب مكرب ظهر في دولة قتبان في نفس الفترة. (17).


* - دول اليمن القديم والتشريعات والقوانين والنظم:


يعد ظهور التشريعات والقوانين الناظمة لحياة الدول، والممالك اليمنية القديمة من العلامات المميزة لتلك الدول، وهو ما تقوله المصادر التاريخية فيها ، والنقوش اليمنية في ذلك الحين. وحول ذلك قدمت العديد من الرسائل الاكاديمية/ الماجستير / والدكتوراه، التي تفصل بعمق أكبر حول النظم التشريعية، والقوانين الناظمة لحياة الدول والممالك اليمنية القديمة بصورة تذهلنا اليوم فيها الدقة وموضوعة العدالة فيها، والأهم دستورية وقانونية تلك القوانين والتشريعات التي كانت سارية، وناظمة لحياة الأفراد والمجتمع والدول في التجارة، والزراعة، والاقتصاد، وفي العمران،وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية( العلاقات الاسرية، والزوجية)، وكذا في أشكال تنظيم، نظم، الجبايات القانونية المنظمة التي تحدد علاقات الدولة بالناس وبمعاشهم واقتصادهم، فضلاً عن قوننة، وتنظيم اصول الملكية، العامة، والخاصة، في صورة تشريعات ونظم إدارية ومالية وقانونية قل نظيرها اليوم في حياة بعض دولنا الحديثة والمعاصرة (18) ، فقد عرف اليمن القديم النظم والتشريعات القانونية المنظمة لحياة المجتمع،والدولة،كما عرف نظام تقسيم وتوزيع السلطات حتى في وجود الملك.(19).

والأهم هنا هو: دور وحضور الجيش المنظم،" الرسمي" للدولة، الجيش، بزيه ولبسه الرسمي، وأسلحته المختلفة وفروعه القتالية الملتحقة بالجيش (القوات المسلحة)، المعبرة عن المملكة ودولة الملك، في ذلك الوقت المبكر من تاريخ العالم القديم. ونجد كل تلك التفاصيل الدقيقة حاضرة في جيش/ جيوش دول اليمن القديم: قواته محددة، بعتاده، وعدده من الواحدت العسكرية فيه، ودرجاته،ونظام الاجور للجنود، وللقيادات المختلفة فيه، وكذا نظام الرتب العسكرية المشكلة لقوام الجيش، وصناعة الأسلحة للجيش، المعنية بتزويد جيش الدولة بكل ما تحتاجه، وكلها علائم على طبيعة الدولة / الدول مكتملة الأركان في تاريخ اليمن القديم، والذي ساد كل أرض ممالك دول اليمن من الجبل إلى الساحل، من سبأ إلى أوسان إلى قتبان إلى حضرموت، إلى حمير (20).

"وبناء على بعض المكتشفات يعتقد بأن البدايات الأولى لاستيطان الإنسان في جنوب جزيرة العرب اليمن القديم كانت في مشارق اليمن، حيثما قامت دولة حضرموت بعد ذلك، ومع ذلك فنحن نجهل البدايات الأولى لنشوء هذه الدولة (...) ويحسب لدولة حضرموت أن اسمها من بين كل أسماء الدول القديمة ظل مستمراً عبر عصور التاريخ اللاحقه لسقوط دولتهم إلى يوم الناس هذا : مع تغيير في المساحة الجغرافية التي كان يطلق عليها بطبيعة الحال". (21).

وهذا يذكرنا باسم اليمن الذي مهما تعددت تسمياته المكانية الجغرافية (الممالك والدول)، - كما سيأتي في الفقرة الرابعة من موضوعنا هذا - بقي اسم اليمن حاضراً ومنتشراً وموحداً للجميع.سقطت الحدود وتمزقت السياسات شمالاً، وجنوبا، وشرقا، وغرباً، وبقي اسم اليمن، وهنا تكمن وحدة اليمنيين من صعدة، للمهرة إلى حضرموت، إلى صنعاء، إلى عدن، إلى شبوة، وأبين وتهامة الساحل، وتهامة السراة، وسقطرى ويافع إلى المعافر ، (تعز). هؤلاء هم اليمنيون بناة الدول في تاريخ اليمن القديم والإسلامي، وهو ما يجب ان نستنجد بأنفسنا / ذواتنا لاستعادة ذلك المجد وفق شروط العصر وليس الاستنجاد بالخارج وفق منطق التغلب القديم،/ الوحدة بالحرب، بل في استعادة روح الوحدة السياسية السلمية التعددية الديمقراطية، وفقاً لاختيارات الناس السياسية الشعبية الحرة، وليس بعقلية الوحدة والحرب والضم والإلحاق، وعودة "الفرع" للأصل، مأساتنا السياسية المعاصرة التي لا نزال نجر أذيالها السلبية المدمرة معنا، ونحن ندخل العقد الثالث من الألفية الثالثة.

* - الدولة والدستور / والنظام السياسي في حضارة اليمن القديم:


عرف اليمنيون نشأة الدولة وقيامها وفق / أصول نظام الملك/ والمكرب والمملكة/ الدولة، وظاهرة بناء القصور الملكية، والمعابد، والسدود، وكله دليل على تاريخ بناء الدولة في تاريخ اليمن القديم. وقد انتظمت هذه الدول من السبئية إلى القتبانية والأوسانية والحضرمية والحميرية أنظمة حكم سياسية قامت عليها تلكم الدولة/ الدول ..أنظمة حكم عرفت القوانين،والتشريعات المنظمة لحياة المجتمع والدولة،واقرت،وسنت فيها دساتير( دستور قتبا ن)(22).

فالنظام الدستوري / القانوني في صورة "م س و د" (المُسَود)(23)، كان سلطة نيابية وانتخابية من القبائل / اتحاد القبائل يدير وينظم أمور الدولة والحكم وكان "المُسوَد" : بمثابة سلطة عليا يقف على رأسها الملك، الذي به ومن خلاله تنظم وتنتظم أمور الحكم/ الدولة وهو القائد العام للجيش (الخميس / القوات المسلحة)، تمر القرارات والقوانين والنظم التي يصدرها مجلس الحكم (المُسوَد) عبر توقيعه النهائي عليها لتصبح معتمدة،( حالة من نظام توزيع السلطات) وهو ذات النظام السياسي الدستوري القانوني الذي عرفته شعوب العالم المتحضرة في العالم القديم/ وكذا الشعوب والدول في العصور اللاحقة، وهنا نقرأ ونفهم معنى نشأة الدولة، والدستور الناظم لها في حياة اليمنيين في حضارة اليمن القديم، حتى كانت لحظة القطع العبثية والعدمية مع الربع الأخير من القرن الرابع الهجري الذي عدنا معه القهقرى، عن كل ما كان في تاريخ بناء الدولة في حياة اليمنيين .. في صورة كل ما نراه يجري في المجال السياسي العام في حياتنا اليوم وكأننا في حالة قطيعة عدمية وعبثية مع ما كان في تاريخ الدول( قطعاً باستثناء الدول: الصليحية، والرسولية، والطاهرية)، في حياة اليمنيين قبل قرون سحيقة في القدم ، التي كانت الدولة فيها، هو العنوان البارز لحضارة اليمن القديم.




الهوامش :

1- كريستيان روبان :/ مجلة دراسات يمنية / صنعاء العدد رقم (27) يناير، فبراير، مارس 1987م، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني/ صنعاء ترجمة د. علي محمد زيد ، ص85.

2-نبيل عبدالوهاب عبدالغني السروري : "الحياة العسكرية في دولة سبأ/ دراسة من خلال نقوش محرم بلقيس"، رسالة ماجستير جامعة صنعاء، ط(1)، 2004م، ص16. وفي كتاب "الطواف في البحر الأحمر"، إشارة لكرب إيل، وللملك الشرعي لقبيلة سبأ، ويدعى "صديق الأباطر" ولأنها على صلة دائمة بهم عن طريق السفراء والهدايا المرسلة)، أنظر: مؤلف مجهول، تعليق وترجمة، حسين علي الحبيشي، ونجيب عبدالرحمن الشميري الهيئةالعامة، صنعاء/ ط(2)، 2008م، وكذا نقلاً عن كتاب "الطواف في البحر الأحمر" ودور اليمن البحري، مركز عبادي للدراسات، ص16، حيث تشير كذلك إلى هذا المعنى د.اسمهان سعيد الجرو (التاريخ السياسي لجنوب الجزيرة العربية، اليمن القديم)، مؤسسة الخدمات والدراسات الجامعة الأردن، ط1996م، ص14.

3-ذلك أن معظم النقوش اليمنية القديمة سبئية وهي كثيرة تغطي التاريخ السبئي.

4- كريستيان روبان : مجلة دراسات يمنية / صنعاء العدد رقم (27) يناير، فبراير، مارس 1987م، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني/ صنعاء ترجمة د. علي محمد زيد ، ص87، وانظر كذلك حول هذا المعنى د. اسمهان سعيد الجرو "التاريخ السياسي لجنوب شبه الجزيرة/ مصدر سابق"، ص248 مشيرة إلى أنها نقوش نذرية.

5-يشير د. يوسف محمد عبدالله: في "أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، بحوث ومقالات" دار الفكر المعاصر / بيروت، دار الفكر دمشق ط(2) 1990م، إلى أن دولة معين ليست من الدول القديمة في تاريخ اليمن القديم "وأن ما يعرف من معلومات نقشية عن ازدهار دولة معين لا تتعدى القرن الرابع قبل الميلاد، وبأن أكثر ما نعرفه عن حضارة تلك الدولة إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد" ،ص213-214.6- تعتبر د.نورة عبدالله العلي النعيم "أن الفترة من القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الثالث الميلادي، هي بداية تشكل النظم السياسية والدولة، وأنها من أزهى فترات تطور النظم السياسية، وتشكلت فيها دول مستقرة ذات كيان سياسي مستقل خاصة في جنوبها الغربي، وأهمها: معين وحضرموت وقتبان وسبأ بدوريها السبئي، والحميري، وقد شغلت هذه الدول مدة طويلة في تاريخ الجزيرة" د. نورة عبدالله علي النعيم (الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية، في الفترة من القرن الثالث قبل الميلاد، وحتى القرن الثالث الميلادي) دار الشواف للنشر والتوزيع السعودية ، ط(1)، 1992م، ص11+12.

7- أ. د عبدالله أبو الغيث:، بحث في النت" (خلاصات استقرائية حول تاريخ الدول اليمنية القديمة ، ص(1).

8 -د.ليبيا عبدالله ناجي دماج: "الملكية في اليمن القديم/ دراسة تطبيقية على دولة سبأ"، ص ي، من مقدمة المؤلفة/ لرسالتها للدكتوارة / جامعة صنعاء/ 2017م، ورقم الصفحة أوردته بالحروف كما هو في الأصل، وهناك تفاصيل عميقة ووافية شافية حول قضية الملكية، وارتباطها بالدولة واستقرارها في متن رسالة الباحثة تؤكد على علاقة الاستقرار بالدولة، ونظام الملكية والتشريعات في هذا الاتجاه، وهو ما نجده كذلك في رسالة د.نورة النعيم"

9- د. ليبيا عبدالله ناجي دماج:
" "الملكية في اليمن القديم/ دراسة تطبيقية على دولة سبأ" مصدر سابق، ص11، والحديث حول الدولة اليمنية القديمة سبأ أو غيرها وعلاقتها بالزراعة والملكية، والاستقرار دليل على قدم بناء اليمنيين للدولة في تاريخ الحضارة العالمية القديمة ومن أهم ملامح هذه الدول الحضارية القديمة هو حضور البعد الطبقي فيها، شأنها شأن حضارات الرومان والإغريق إلخ وهو ما يشير إليه بوضوح المستشرق الروسي "لوندين" في كتابه "دولة مكربي سبأ".

10-أنظر د. اسمهان سعيد الجرو: "التاريخ السياسي لشبه الجزيرة العربية"، مصدر سابق، ص89.

11- د. أسمهان سعيد الجرو: (التاريخ السياسي لجنوب شبه الجزيرة العربية اليمن القديم) مؤسسة حمادة للخدمات والدراسات الجامعية / الأردن ، ط(1)، 1996م، ص112-113.

12- أنظر حول هذا المعنى " د. محمد عبدالقادر بافقيه: (مجلة دراسات يمنية/ إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمني/ صنعاء، العددان رقم (25/ 26)، لسنة 1986م، ص90 وكذلك د. اسمهان سعيد الجرو "( نفس المصدر السابق)ط(1)، 1996م، ص113-115.

13-د.نورة عبدالله العلي النعيم : (الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي)،دار الشواف للنشر والتوزيع / السعودية، الرياض مصدر ، ص35-39.

14-د. أسمهان سعيد الجرو: "نفس المصدر السابق، ص111-115".

15- د. نورة عبدالله النعيم :( الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية بين القرن الثالث قبل الميلاد،وحتى القرن الثالث للميلاد)ص34-35-36

16- يشير د. جواد علي: إلى ذلك في أكثر من موضع في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. أسمهان سعيد الجرو التاريخ السياسي لجنوب شبه الجزيرة العربية، اليمن القديم" ، ص180، نفس المصدر، وكذلك د. نورة عبدالله العلي النعيم (الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية)،ص31.

17 -أ د.عبدالله أبو الغيث : / مصدر سابق خلاصات استعراضية حول تاريخ الدول اليمنية القديمة)، ص4. وللدكتور عبدالله أبوالغيث رأي قد يخالف فيه العديد من الكتابات التاريخية، حيث يرى أن لقب ملك أقدم من لقب مكرب .. وأن المكرب كان أكبر من ملك، وكان لايتخذه إلا حاكم الدولة الأول في اليمن القديم، ولذلك لقب الملك هو الأقدم من مكرب لكن هذه المعلومة لا زالت بحاجة لإبرازها. وهي في الأصل للباحث الفرنسي كريستيان روبان، وليست لي، -كما قالها بالحرف لي د.عبدالله أبو الغيث- ستجد تفاصيلها - والحديث له- في روبان (المنشور ضمن كتاب (اليمن : في بلاد ملكة سبأ) والفرق بين هذه النظرية الجديدة والنظرية القديمة، أن النظرية القديمة تعتبر أن المكرب هو الحاكم الذي يجمع بين السلطتين السياسية والدينية، بينما النظرية الجديدة تتعامل معه على أنه (الموحد) الذي تتمتع دوله بهيمنة على بقية الدول، وفي البداية "أي اللقب" حمله حكام سبأ ثم انتقل إلى حكام قتبان وبعدها إلى حكام دول حضرموت، ولأنه، الرأي الجديد ولا يزال يشق طريقه بين الباحثين المتخصصين، وما تزال الرؤية القديمة هي السائدة أو المنتشرة .. والايضاح الوارد هنا في هذا الهامش هو للدكتور/ عبدالله أبوالغيث.

18 - أنظر حول ذلك رسالة دكتوارة نورة النعيم:
( التشريعات في جنوب الجزيرة العربية، حتى نهاية دولة حمير)، مكتبة الملك فهد الوطنية/ الرياض ط. 2000،ص 16-17-37-38، فرسالة الدكتورة مكرسةعن وحول، تشريعات اليمن القديم.

19- د.نورة النعيم: ( التشريعات في جنوب..)ص 90، فالتشريعات والقوانين التي يوردها الكتاب،تقول بنظام توزيع السلطات،وإلى أن الملك،هو القائد الأعلى للجيش،وهو من يصدق على القوانين والمراسيم في النهاية لتصبح معتمدة .

20- يمكن العودة إلى الكتابات التالية: د. يوسف محمد الله : (أوراق في تاريخ اليمن وآثاره بحوث ومقالات)، ط(2)، 1990م، ص95، حيث يورد أيضاً نصاً وافياً عميقاً حول اليمنيين والحرب جاء فيه "كان اليمنيون كغيرهم يلجأون إلى الحروب لأسباب عديدة منها حب التوسع والغزو أو الرغبة في كسب أمجاد، أو الأسباب دفاعية أو شخصية وانتقامية ويسجلون بعد عودتهم من تلك الحروب نقوشاً نذرية تقدم إلى الآلهة، يحمدونها على أن عادوا سالمين غانمين (...) وتعتبر النقوش الكثيرة التي عثر عليها في مدخل معبد أوام "محرم بلقيس" في مأرب مادة خصبة لمعرفة فن الحرب في اليمن القديم، حيث يمكن أن يعرف منها تشكيلات الجيش وفيالقه وأسلحته"، نفس المصدر، يوسف محمد عبدالله، ص58، وأنظر كذلك رسالة ماجستير نبيل عبدالوهاب عبدالغني السروري، مصدر سابق، وهي رسالة ماجستير مكرسة ومخصصة حول دور الجيش، الذي اتخذ في الكتابات النقشية والمصادر الكلاسيكية مسمى مفردة "الخميس"،ومن أنه جيش( محترف)، انظر عبدالوهاب عبدالغني، ص38-39، وحول عملية نظام التجنيد في الجيش، ص66، وحول التجهيزات العسكرية، وكيف تتم، ومنها، الزي العسكري، انظر، ص 105، وحول نفس القضايا المشار اليها، حول الجيش وطبيعته، وطرق تنظيمه في دول اليمن القديم، يمكن العودة، لكتاب، صالح احمد الحارثي( جيش اليمن قبل الاسلام)، ط، 1991 م، مطابع دائرة الصحافة والطباعة والنشر، ص 47-48 إلى ص57، وحول الزي العسكري للجيش الرسمي، انظر ص64، نفس المصدر.

21- أ-د عبدالله أبو الغيث:، نفس المصدرص6

-22 انظر دستور" دولة قتبان"، د. نورة النعيم: ( التشريعات في جنوب غرب...) ص 150-156

-23 د. نورة النعيم :( التشريعات في جنوب...) ص 123-124.
وفي الكتاب عرض، ومناقشة معمقة لمفهوم( المسود).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل - حماس: أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق


.. فرنسا: لا هواتف قبل سن الـ11 ولا أجهزة ذكية قبل الـ13.. ما ر




.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة