الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هدم تخاريف البربر (1): تبييض المستعمر الغاشم لتاريخ شمال افريقيا

محمد مقنع

2024 / 3 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تزوير التاريخ وتحريف الحقائق هو أداة قديمة استخدمتها القوى الإمبريالية لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم. واحدة من هذه المناطق التي تعرضت لهذا التزوير الصبياني المفضوح هي شمال أفريقيا، حيث قامت القوى الغربية بتبييض تاريخها، تهميش سكانها الأصليين السود، ومنح السلطة للمصفرين بقايا الرقيق المخصي.
رغم أن جميع المؤرخين الإغريق والرومان اجمعوا على أن سكان المنطقة كالمور الأفري النوميديين الغرمنت والمصريين القدماء كانوا سود، إلا أن القوى الغاشمة تصر على تجاهل هذه الحقائق وتقديم صورة مغايرة تمامًا للوثائق التاريخية. ففي سبيل فرض الهيمنة البيضاء، قامت بتحريف الأحداث التاريخية وإسناد إنجازات سود المنطقة لشتات من الشعوب اللقيطة.
في فترة الاستعمار، لم تكن المحاولات محصورة فقط في السيطرة العسكرية السياسية والاقتصادية، بل امتدت أيضًا إلى المجال الثقافي والتاريخي. تأتي هذه المساعي كجزء من استراتيجية وضعتها لإقصاء الافارقة السود وتجاهل إسهاماتهم الثقافية والحضارية في صياغة التاريخ الإنساني، وابراز البيض كمصدر للتقدم والثقافة والحضارة.
في الأدب القديم اليوناني والروماني، تم تصوير المور بشكل متكرر على أنهم ذوو بشرة سوداء وشعر مجعد، حيث استعملت نعوت ك (nigri): اسود، و (retorto crine): مجعدي الشعر الخ لوصفهم، بل وحتى عبارات ك (incocti corpora Mauri, adustus corpora Maurus) التي تعني المور محروقو الجسد، الأشد من اثيوبي الاغريقية (محروقو الوجه). وهذه الاوصاف تعكس الفكرة السائدة في تلك الحقبة حول الشعوب الشمال الإفريقية القديمة.

قال الشاعر الروماني ديسيموس يونيوس يوفيناليوس، في كتاب الهجائيات:
"النبيذ الذي قدم لك لم يكن هو نفسه، لديك مياه مختلفة. لابد ان خادما غيتولي، او يد موري اسود نحيف اعطتك الكاس..."
Decii Junii Juvenalis Et Persii Flacci Satyrae:
Non eadem vobis poni modo vina querebar: Vos aliam potatis aquam: tibi pocula curfor Getulus dabit, aut nigri manus offea Mauri…

وخط الكاتب الروماني ماركوس فاليريوس مارتيال في الايبيغرامس:
ذلك الموري، الذي يتمشى بشعر مجعد ملتوي، يدعي بأنه من نسل سانترا الطباخ.
Marcus Valerius Martialis, Epigrams‎
Hic qui retorto crine Maurus incedit subolem fatetur esse se coci Santrae

بينما جاء في كتاب يوهانيس للمؤرخ اللاتيني كوريبوس:
كان وجه المورية السوداء مرعبا، وعينيها متوهجة تنبعث منها ألسنة اللهب.
The Iohannis, Flavius Cresconius Corippus
Maura videbatur faciès nigrosque colore horrida et obduclis conlorquens lumina flammis

في حين قال الشاعر والسياسي الروماني سيليوس اتاليكوس في ملحمة بونيكا التي تؤرخ لأحداث الحرب البونيقية الثانية꞉
في بالانتيس، كان الإيطاليون يقاتلون بشجاعة ضد العدو المشتت والفار، عندما خرج فجأة تنجر الموري الرهيب بقوة مخيفة بين الأعداء المسلحين. كان جسده أسود اللون، وكانت الخيول ذات القرون العالية تجر عربته الشامخة، متناغمة تمامًا مع العجلات المخيفة من التصميم الجديد. ولم يكتفِ بذلك، بل تزين بالأجنحة المنتصبة المشابهة للريش، وغطى نفسه بثوب أسود، مثلما يغطي الظلام ملك الليل عندما هرب مع العذراء المختطفة من هنايا...
SILIUS ITALICUS PUNICA LIBER SEPTIMUS:
Iamque in palantis ac uersos terga feroces pugnabant Itali, subitus cum mole pauenda terrificis Maurus prorumpit Tunger in armis. nigra uiro membra, et furui iuga celsa trahebant cornipedes, totusque nouae formidinis arte concolor aequabat liuentia currus equorum terga: nec erectis similes imponere cristis cessarat pennas, aterque tegebat amictus: ceu quondam aeternae regnator noctis, ad imos cum fugeret thalamos Hennaea uirgine rapta, egit nigrantem Stygia caligine currum....

ودون في الكتاب الثاني꞉
قطعان من الحيوانات البرية مطاردة من طرف الصيادين، واكواخ منحوتة تشع، ليس ببعيد تقوم شقيقة الموري (المحروق) السوداء والعنيفة بتهدئة اللبؤات بلغتها الام...
SILIUS ITALICUS - PUNICA LIBER SECUNDUS:
Agitata ferarum agmina uenatu et caelata mapalia fulgent, nec procul usta cutem nigri soror horrida Mauri adsuetas mulcet patrio sermone leaenas....

واضاف في الكتاب السابع عشر꞉
سيفاكس كان يسبق مركبتة، محمولا على كرسي عال، عيناه منحنيتان للأرض وعنقه مليء بالسلاسل الذهبية. ونرى بعد الملك الاسير، حانون المهزوم في اسبانيا، نخبة الشباب الفينيقي، قادة المقدونيين، ثم المور محروقو الجسد، الرحل، والغرمنتيون...
SILIUS ITALICUS PUNICA LIBER DECIMUS SEPTIMUS:
Ante Syphax feretro residens captiua premebat lumina, et auratae seruabant colla catenae, hic Hannon clarique genus Phoenissa iuuenta et Macetum primi atque incocti corpora Mauri, tum Nomades notusque sacro, cum lustrat harenas, Hammoni Garamas et semper naufraga Syrtis....

واورد في الكتاب الثامن꞉
بينما يقتسم معي الغرمنتي والموري محروق الجسد إيطاليا؟
SILIUS ITALICUS - PUNICA, Liber Octavus:
Dum mecum Garamas et adustus corpora Maurus diuidit Italiam?

صور سلاح الفرسان الموري بقيادة لوسيوس كويتوس على عمود تراجان تؤكد زنجيتهم، اذ يظهرون بشعر مجعد ملتوي، فك بارز، عيون واسعة، أنف افطس، وشفاه ممتلئة الخ.


من خلال تحليل الأدلة المقدمة في النصوص التاريخية، يتبين بشكل واضح اجماع كل المؤرخون والادباء القدماء على وصف المور بالسود. ومع ذلك يصر اشباه الأكاديميين الغربيين المدلسين وكلابهم الاوباش في شمال افريقيا على انهم بيض.
كذلك استخدم الغربيون اليونان وروما القديمة لدعم أجندتهم العنصرية، حيث يصرون على أن مؤسسي الحضارتين كانوا من البيض، وأن عرقهم كان عاملاً رئيسيًا في عظمتهم. رغم ان الرومان والاغريق كانوا يمقتونهم، وانهم كانوا السبب الرئيسي في انهيار تلك الحضارة العظيمة. فقد كان نهب روما عام 455 ميلادية بمثابة لحظة محورية في التاريخ عندما قام الوندال، بزعامة جينسيريك، بغزو المدينة. نهب البرابرة الجرمان المدينة لمدة أسبوعين، مما تسبب في دمار واسع النطاق. أربكت هذه الحادثة، التي جاءت بعد نهب القوط الغربيين في عام 410، العالم بأسره، وأشارت إلى قرب انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية.
اليونانيون لم يصنفوا أنفسهم في يوم من الايام كبيض، بل كانوا يحتقرون البيض ويعتبرون الرجال ذوي البشرة الفاتحة (λευκόχρως) ضعفاء ومخنثين. يقول أرسطو: "الشعوب السوداء كالمصريين والاثيوبيين جبانة، والذين بشرتهم بيضاء هم أيضًا جبناء: الدليل هم النساء. يجب أن يكون لون البشرة النموذجي للشجاع في المنتصف بين الاثنين (أي الاسمر)."
Aristotle, Physiognomics
Οἱ ἄγαν μέλανες δειλοί. ἀναφέρεται ἐπὶ τοὺς Αἰγυπτίους, Αἰθίοπας. οἱ δὲ λευκοὶ ἄγαν δειλοί. ἀναφέρεται ἐπὶ τὰς γυναῖκας. τὸ δὲ πρὸς ἀνδρείαν συντελοῦν χρῶμα μέσον δεῖ τούτων εἶναι

وبالمثل، يصف زينوفون أسرى الحرب الفرس البيض بأنهم مخنثين وغير معتادين على الكدح لأنهم كانوا يركبون العربات دائمًا. ويذكر أن الجنود اليونانيين نتيجة لذلك اعتقدوا بأن الحرب معهم ستكون كالقتال ضد النساء، اذ كتب:
"ومرة أخرى، ومع الاعتقاد بأن احتقار الأعداء يزيد من حماسة قتالهم، أصدر أجيلاوس أوامر لرسله بعرض الغزاة الباربريين الذين أُسروا على يد فِرَق المُهاجمين اليونانية للبيع بدون ملابس. وبهذا النحو، وجد الجنود أن هؤلاء الرجال كانوا ببشرة بيضاء لأنهم لم يكونوا يخلعون ملابسهم، وناعمين وغير مُستعدين للحرب لأنهم كانوا دائمًا يركبون في عربات، وتوصلوا إلى استنتاج أن الحرب لن تكون مُختلفة بأي شكل من الأشكال عن القتال ضد النساء."
Xenophon, Hellenica, Book 3, chapter 4
And again, believing that to feel contempt for one s enemies infuses a certain courage for the fight, Agesilaus gave orders to his heralds that the barbarians who were captured by the Greek raiding parties should be exposed for sale naked. Thus the soldiers, seeing that these men were white-skinned because they never were without their clothing, and soft and unused to toil because they always rode in carriages, came to the conclusion that the war would be in no way different from having to fight with women.
في مقال نُشر في موقع ايبيراليرجيك، أثارت الأستاذة في التاريخ بجامعة آيوا، سارة بوند، جدلاً واسعاً بعد إشارتها إلى حقيقة أن العديد من التماثيل اليونانية والرومانية التي نراها بيضاء اللون اليوم، كانت في الأصل ملونة. اذ تعرضت لموجة من الانتقادات اللاذعة، وصلت حد تهديدها بالقتل من قبل جماعات يمينية متطرفة، نتيجة لجرأتها في الإشارة إلى كيفية تأثير السياسات العنصرية على تصورات بعض الأشخاص تجاه تلك التماثيل.
تحت عنوان "لماذا نحتاج إلى البدء في رؤية العالم الكلاسيكي بألوانه"، يناقش النص العنصرية والبياض كبنى اجتماعية. وفقًا لـ بوند، لم يصنف الإغريق والرومان أنفسهم في العصور القديمة "كبيض"، وان التكنولوجيا الحديثة كشفت حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن: كل التماثيل والنقوش والمنحوتات التي أُنشِئَت في العالم الغربي القديم (اليونان وروما) كانت في الواقع مُصبوغة. كان الرخام مادة ثمينة للحرفيين الإغريق والرومان، لكنه كان يُعتَبَر خيش (canva)، وليس المنتج النهائي للنحت. كان يتم اختياره بعناية ثم يُصبَغ بألوان كالذهبي الأحمر الأخضر الأسود الأبيض والبني، الخ.
فكرة تجسيد الإغريق والرومان بأنهم بيض البشرة متأصلة بشكل عميق في المجتمع الغربي. كما تشير دونا زوكربيرغ في كتابها "ليس كل الرجال البيض ميتون" (Not All Dead White Men: Classics and Misogyny in the Digital Age)، تم تعزيز هذا الاعتقاد بقوة من قِبَلِ الجماعات اليمينية المتطرفة، التي تعتبر نفسها الوريثة الشرعية للإغريق والرومان القدماء.
إن تزوير التاريخ وفرض الهيمنة البيضاء على شمال أفريقيا لهو جزء من استراتيجية الاستعمار والاستعباد التي اتبعتها القوى الإمبريالية. ومن المهم فهم هذه السياقات التاريخية لفهم التحديات التي تواجه المنطقة اليوم، وضرورة مقاومة الفكر الاستعماري والعنصري من أجل بناء مستقبل عادل ومتساوٍ للجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا