الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجود بين الوهم والحقيقة

ثائر أبوصالح

2024 / 3 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد اثبتت الفيزياء الكونية أننا نعيش في كون تتحكم فيه الطاقة، وأن نسبة المادة مقارنة بالطاقة تكاد لا تذكر، حيث تشير القياسات التي أجراها المسبار WMAP لأشعة الخلفية الميكرونية الكونية إلى أن الكون يتكون بنسبة 74% من طاقة مظلمة، ونحو 22% مادة مظلمة، ونحو 4% مادة عادية مرئية. أي أن كل ما نراه وما لا نراه من كواكب ونجوم ومجرات وعناقيد مجرية لا تتجاوز نسبتها ال 4% من هذا الكون الفسيح المتمدد. ولو كنا نملك نظراً ثاقباً لكنا سنرى المادة أيضا حية متحركة ومهتزة. فهل ما نراه هو وهم وليس حقيقة؟

علماء الفيزياء الكمية، ومن خلال تجربة " الشق المزدوج " توصلوا أيضاً؛ الى أن الإلكترون عندما نراقبه يسلك سلوك جسيم، وعندما لا يُراقب يسلك سلوكاً موجياً، وقد احتار العلماء في تفسير هذه الظاهرة، وبدأوا بالاجتهاد في هذا المضمار؛ فجاء ما عُرف بتفسير كوبنهاجن على يد كل من نيلز بور وفيرنر هايزنبرج وماكس بورن وغيرهم في السنوات 1924-1928م والذي يقول؛ أن عملية القياس تؤثر على سلوك النظام الكمي؛ بمعنى أن عملية القياس تسبب ما يعرف بـانهيار الدالة الموجية،أي أنه تكون الدالة الموجية للجملة الفيزيائية قبل القياس عبارة عن مزيج من الحالات التي من الممكن أن نحصل عليها بعد القياس، وهذا ما يدعى بحالة التراكب، فعندما نقيس ستظهر فقط احدى النتائج الممكنة وهذا ما يدعى بانهيار الدالة الموجية.

استناداً الى هذا التفسير يمكننا القول إن المادة تكون موجودة عندما ننظر اليها وتنعدم عندما نشيح بنظرنا عنها. أي أن سلوك الإلكترون الحقيقي هو السلوك الموجي، ولكن عندما نراقبه تنهار الدالة الموجية ويبقى سلوك الجسيم الذي يشكل انعكاساً مظهرياً للحقيقة الموجية، وهذا الفهم يذكرنا ب "نظرية المُثل" عند افلاطون التي بدأت على يد بارميندس ثم فيثاغورس؛ حيث يعتبر افلاطون أن العالم الذي نلمسه ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي، ولكنه يشبه، أو مستنسخ من العالم الحقيقي. أما العالم الحقيقي فتوجد فيه كل الاشياء الحقيقية التي تتصف بالكمال ولها مثيلاتها المشابهة لها أو المستنسخة عنها في عالمنا المحسوس. هذا العالم، أي العالم الحقيقي، مستقل عن كل شيء وغير مـتأثر بالتغيرات التي تحصل للعالم الذي نختبره عن طريق الحواس، أما عالمنا المحسوس فهو عالم متغير تحكمه عوامل الزمان والمكان.

يعتقد أفلاطون، كما ذكرنا سابقاً، أن هناك عالمًا مثاليًا يتجاوز العالم الظاهري الذي نراه ونعيشه. ويرى أن الأشياء الحقيقية ليست التي نراها بالعين المجردة، بل هي الأفكار والأشكال الأبدية التي تكمن خلف الظواهر المرئية، ويعطي مثالاً على ذلك عمل النحات؛ فعندما يريد أن يقوم بنحت أي لوحة فهي تبدأ بفكرة، ويرى اللوحة كاملة في فكره قبل أن تنقل الى مادة الرخام، فالفكرة مستقلة عن أية مادة ولا تتأثر بها، أما الرخام يبقى رخاماً حتى تنطبع عليه الفكرة فيصبح لوحة، ويستطيع النحات تغيير المادة التي تنطبع عليها الفكرة دون أن تتأثر الفكرة، فيمكن أن تطبع على مادة أخرى غير الرخام.

اذاً؛ ووفقاً لأفلاطون عالمنا ليس عالماً حقيقياً، لكنه عالم طبعت عليه فكرة الحقيقة كلوح الرخام الذي طبعت عليه فكرة النحات فحولته الى لوحة. لذلك يقول افلاطون ان معرفتنا عن الحقيقة هي بمستوى معرفة الجالسين في كهف امام النار ويرون ظلال اشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، وبما أن عالمنا ليس حقيقياً يجب علينا أن نبحث عن الحقيقة وأهمها الحقيقة المطلقة والأفكار الأبدية. فوفقًا لأفلاطون، تعتبر الأفكار الأبدية النماذج العليا والأكثر حقيقة للأشياء فمثلاً هناك فكرة مثالية للجمال، وفكرة مثالية للخير وهكذا، أما ما نراه في عالمنا الظاهري فهو يشكل مجرد أنماط محدودة ونُسخاً غير مثالية لهذه الأفكار المطلقة.

عندما نقول أن العالم المادي عالم وهمي، هذا لا يعني أنه غير موجود، وإنما المقصود؛ أننا كبشر لا نستطيع رؤية هذا العالم على حقيقته، وانما نرى وهم ما تمليه علينا حواسنا القاصرة وعقلنا الجزئي، فحقيقة العالم المادي المسقط عن العالم الجوهري هو عالم متقن ودقيق جداً، يكتشف حقيقته العلم بشكل تراكمي، فيقول علماء الفيزياء أن هذا الكون دقيق جداً، حيث أن أي تغيير بسيط في الثوابت الفيزيائية للمادة، سيؤدي إلى تغيير جذري في الكون، ويجعل من قيام الحياة كما نعرفها الآن أمراً مستحيلاً. يقول العالم الفيزيائي المعروف ستيفن هوكينغ في كتابه الشهير "تاريخ موجز للزمان من الانفجار الكبير حتى الثقوب السوداء" أن قوانين العلم كما نعرفها الآن، تتضمن الكثير من الأرقام الاساسية مثل حجم الشحنة الكهربائية للإلكترون، والنسبة بين كتلة البروتون إلى الإلكترون.... الحقيقة المدهشة ان هذه الارقام تبدو وكأنها قد ضبطت بحيث يمكن أن تتطور الحياة".

يقول افلاطون في كتابه "طيماوس" حول قضية العلاقة بين الفكرة والواقع المرئي؛ أن الشيء المتمم ليس من جنس الفاعل، وذلك أن الفاعل للشيء غير مشابه لمفعوله، فأما تمامه قد يجوز أن يشبه ما هو تمامه. لتوضيح الفكرة فإن المهندس قبل أن يرسم مخططاً للبيت الذي يريد تشييده فإن صورة البيت ترتسم بشكل كامل في مخيلته، هذه الصورة تشبه المهندس، لأنها ارتسمت من تأثيرات منه، أما من يقوم بإنشاء البناء، أي الفاعل، فهو ينفذ ما يطلب منه وهو لا يشبه المهندس، لذلك وبما أن الأنسان هو قمة الخلق الإلهي ومن أجله وجد كل شيء في هذا الكون، لأنه هو المؤهل الوحيد بين المخلوقات لحمل الرسالة الإلهية، فإن فكرة الإله عن الإنسان تشبه الخالق، أم قوانين الطبيعة التي تجسد فكرة الإله فهي لا تشبهه.

لذلك يقول افلاطون ان الربوبية موجودة في جزء من اجزاء العالم؛ أي الإنسان الحي الناطق العاقل يشبه الإله بما فيه من الفضل والشرف والعفاف، وهو يشبه العقل بما فيه من علم الغيب والتفكر، ويشبه النفس بما فيه من الحياة والحركة، ويشبه الهيولى أي المادة بما فيه من الجسم الثقيل الراسب القابل للصور الوضعية، لذلك البشر في هذه الحياة هم انعكاس ونسخ عن الفكرة الإلهية للإنسان الفاضل العارف، وهو نور كامل خرجت منه كل المخلوقات كما خرجت الأعداد من الرقم واحد، فبدون الواحد لا يوجد أعداد، وكل الأعداد هي مضاعفات للرقم واحد.

من هنا واستناداً لأفلاطون يمكننا أن نستنتج أن مسيرة الإنسان يجب أن تكون باتجاه الكمال، أي نحو النموذج الإلهي للإنسان، وهذا ما ذهب اليه افلاطون في بناء جمهوريته، ومن ثم اقتدى به لاحقاً الفارابي في " المدينة الفاضلة". فالإنسان يمتلك القدرة، إذا أراد، على العودة الى عالمه الحقيقي؛ إذا ما التزم بمبدأ الفضيلة الذي خطه ارسطو من بعد افلاطون، وفقاً لمبدأ الاعتدال "لا إفراط ولا تفريط" لأن الفضيلة تكمن في الوسط بين رذيلتين كالكرم الذي يتوسط البخل والتبذير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك