الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحب من المهد إلى اللحد : الحب الإلهي

مريم الحسن

2024 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


توضيح:

ألفت عناية القارئ الكريم إلى أن هذا المقال بمختلف أقسامه و أجزائه تم تناوله من منظور علم النفس الحيادي. و نحن حين نصف علم النفس بالحيادي, فذلك لأن أخلاقيات هذا العلم تحتّم على كل من يتخصص فيه أو يكتب في مجاله أن يتناول الموضوعات و الظواهر المبحوثة فيه بحيادية تامة, من دون أي نقد, أو موقف مسبق متبنٍ أو رافض لها. فالوظيفة الأساسية لعلم النفس النظري هي بناء النظريات النفسية. وهو حين يأخذ شكل النقد, فإنه يتوجه به فقط لمناقشة النظريات النفسية المطروحة في ميدانه, و ذلك إما لتأكيدها أو تطويرها بنظرية مقابلة, إما لدحضها بنظرية مغايرة. لكن حين يتناول المواضيع و الظواهر الإنسانية لبحثها, فهدف علم النفس النظري هو التوصيف فقط, لفهم الموضوع المبحوث بعمق أكثر, لا سيما من جانبه النفسي, و بأسلوب حيادي بعيد كل البعد عن أي عقيدة عاطفية مسبقة, و ذلك اعتماداً منه على النظريات النفسية التي انبنى عليها فقط لا غير. و بما أن موضوع هذا الجزء من المقال هو موضوع حساس يلامس وجدان معظمنا, فكان لا بد لنا من أن نبادر إلى هذا التوضيح لنؤكد على حياديتنا المطلقة قبل تناول مبحثه, فاقتضى التوضيح.


الحب الإلهي

ثاني أكبر غربة عرفها الإنسان, بعد غربة خروجه من رحم أمه, هي غربة وعيه لحتمية فنائه. عندما التقى الموت و تعرف على جبروت حضوره, لحظة ما آلمه بصفعة فراق الأحبة, حينما رده إلى شعور قلق الإنفصال الأول, وعندما أعاده إلى حالة توتر الذات المتروكة بلا جواب, لاسيما حينما رمى به في مجاهل أرض الأسئلة, تلك التي فيها حاولت مخاوفه تلمس وجه أهوال ذاك المجهول غير القابل للتطويع. في هذه الغربة الثانية وعى الإنسان حقيقة وجوده بأنه ليس فقط حياة, بل مساراً بقُطبين, بدايته الولادة و نهايته الموت, و بأن حياته ما هي إلا المدة بينهما. فسأل سؤاله التفكّري الأول : لماذا؟ و بعده سؤاله الثاني : من أنا؟ من ثم سؤاله الثالث : أين أنا؟ فالرابع : من أين أتيت؟ و الخامس : إلى أين ؟ ثم أتبعها بسادسها الفلسفي : هل الموت هو نهاية كل شيء؟ كأنني ما وُلدت و لا عشت و لا احببت و لا بنيت؟

من هذه الأسئلة, تفتق وعي الإنسان البدائي (البشري) عن وعي أرقى (إنساني) تبرعم فيه منطق السببية, ومنه انبثق في يقين لاوعيه وعي وليد, اتجه نحو مفهوم الحتمية. حتمية نهاية الحياة بالموت, و حتمية وجود مدة بينهما, هي فترة وجود الحياة و عمرها. و حتمية وجود غاية غامضة من الوجود, هو لا يعرفها, أو عاجز عن إدراكها. إذن من يعرفها؟ من يعرف جواب سؤال "لماذا" الوجودي؟ لا بد من موجود آخر, موجود أعرف من الإنسان و اكبر منه, أقوى منه ومن كل المخلوقات في محيطه. لا بد من موجود يعرف السبب و الغاية.و بما أن هذا الموجود يعرف السبب و الغاية, فلا بد أن يكون هو واجدها أو خالقها. وبما أنه هو خالق الوجود و موجوداته, فلا بد أن يكون هو الأقوى والأكبر. فولدت فكرة وجود الخالق الأعرف والأقوى. فاتخذ الإنسان البدائي هذه الفكرة, في مختلف نشاطات حياته, راعياً أكبر له, راعي أكبر و أقوى من أي راعي أسرة أو عشيرة, و بما أن راعي الأسرة أو العشيرة هو ربّها, فلا بد من أن يكون هذا الراعي الأكبر هو الرب الأكبر الذي يرعى أسرته و عشيرته أيضاً, يرعاها من كل مجهول, و ضد كل عدو, و يسبغ عليها الرضا بوفرة الصيد و إثمار النباتات و دوام الأمان. ولأنه يعيش في أسرة تابعة لعشيرة منفصلة عن باقي العشائر المنافسة لها, أو على عداوة معها, كان لا بد من أن تتخذ كل عشيرة ربّاً يشبهها, ربّاً يرضى عن عاداتها و عن تقاليدها, يؤيدها في تنافساتها مع باقي العشائر و يحميها منها, و من قوى الطبيعة و وحوشها, ربّ خاص بها وحدها, تتميز به و تنافس به الجميع.

غير أن المشكلة مع هذا الرب الأكبر, الخاص في بداية انبثاق الفكرة الإلهية و المشترك لاحقاً بعد تطورها, انه غير مرئي, فكان لا بد من ترميزه و تجسيده لمخاطبته, لإظهار ولاء الطاعة له, لاستجلاب عطف محبته, و الأهم لاسترضاء غضبه. كان لا بد من ابتكار رمز يدلل عليه و يجسده مرئياً حاضراً في مجتمع البشر. فبدأت عملية ترميز فكرة الرب بالطواطم, في عصر اكتشاف النار, بعد أن شبّهه الإنسان بأقوى مخلوقات الطبيعة و أذكاها, أو بأحبها إليه, فرمز إليه بصور الحيوانات و أعطاه صفاتها, فرسمها على جدران الكهوف و ارتدى وجوهها أقنعة تدلل عليه. و بما أن الحيوانات متنوعة و كثيرة, تعددت أرباب الإنسان بتعدد صفات و مميزات كل حيوان. بعد هذه المرحلة البدائية, تحوّل الطوطم إلى وثن, في حقبة اكتشاف الزراعة وصناعة الأدوات, و في هذه الحقبة وعى الإنسان عظمة قوة الطبيعة, ببطشها و عطائها, و أدرك أنها أقوى من اي حيوان عرفه, بدليل أن الحيوان أيضاً يهابها و يعيش تحت رحمة غضبها و رضاها, فأعطى أربابه صفات الطبيعة, وبدأ بتشيكلها على هيئة مجسمات ترمز إلى أحوالها المختلفة.

عندما تطور ذكاء الإنسان أكثر و بالتالي وعيه, و بدأ باكتشاف المعادن, و ببناء الحضارات و إعمارها, بمختلف أنواع المعارف و الفنون و المهارات الصناعية, التفت إلى السماء و راقب حركة أفلاكها, فجذبه غموضها و انتظام ظهورها و اختفائها, وتأثير حركة تنقلها على الطبيعة ,و كأن حركة ظهورها و اختفائها و تنقلاتها لغة علوية تخاطبه السماء من خلالها, فربط بينها و بين آلهته. و من ثم في فترة لاحقة وعى ارتقاء نوعه و جمال خلقته و تمام بنيانه, فأصبغ على أربابه صفات جماله هو, و كمال جسمه الإنساني, و ألحق به ايضاً سمات مشاعره المتقلبة, فرسمه و نحته على صورته بأوضاع تجسّد مختلف حالاته النفسية و الفكرية, و في بعض الثقافات اندمجت فكرة الرب بالإنسان و اتحدت فيه متجسدة بصورة الحاكم المطلق. و مع استمرار تطور معارف الإنسان, لا سيما بعد ازدهارها بأدوات المنطق و التفكر الفلسفي, بدأت الرسالات التوحيدية بالظهور, بفكرتها القائمة على أن الإله هو واحد غير متعدد, و بأنه ذات مفارقة لا تشبه غيرها, فاتخذ الرب صفته الحالية التي نعرفه عليها اليوم, و تنوعت رؤيتنا و عباداتنا له بتنوع الديانات و تنوع تصوراتها عنه, والأهم, باختلاف درجات الوعي بين الأفراد و نضوج الوعي الجمعي بين مختلف الثقافات, المتأثرين حكماً بمستوى و نوع الحرية المسموح بها في كل ثقافة. إذ ما من تفكر راقٍ, و واعد, يلامس وجه الحقيقة من دون حرية, كما أن ما من حب صادق, كثيف العمق و ناضج التوجه, من دون حرية. و كما يقول فيكتور هوغو "حرية المعتقد وحرية الحب هما وجها عُملة حرية الضمير". و حرية الضمير وسيلة الإنسانية وشرطها لنضوج وعيها و ارتقائه و بالتالي لتقدمها.

مما سبق عرفنا كيف نشأت فكرة الإله و سببها, و كيف تخيله الإنسان و تصوره, و كيف تطور مفهومه في مخيال معتقاداته, ماذا عن حبه؟ ما الغاية منه؟ و ما هو الحب الإلهي؟

يولد الإنسان بوعيٍ فارغٍ من أي معلومة, تماماً كالصفحة البيضاء. لكن هل يعني هذا أن حال ذاكرته عند ولادته مماثل لحال وعيه؟ فارغة من أي معلومة؟ الجواب لا. فذاكرة لاوعيه الفردي كانت قد خزنت معلومات أولية مستقاة من حواسه و أحوال أحاسيسه عندما كان جنيناً في رحم أمه, لا سيما في القسم الأخيرة من حمل أمه. كما أن العامل الوراثي الجيني يلعب دوراً مهماً في عملية مد اللاوعي بالمعلومات, إذا تنتقل المعلومة المخزنة في الجينات إلى ذاكرته لتترك منها أثراً فيها, ليتفرع بذلك عن ذاكرة "اللاوعي الفردي" ذاكرة فرعية أخرى, هي أيضاً لاواعية, غير أن اختصاصها يقتصر فقط على تواصل "اللاوعي الفردي" مع "اللاوعي الجمعي البشري" , فما هو اللاوعي الجمعي البشري؟

اللاوعي الجمعي البشري هو لاوعي متجاوز للأجيال, يمتد بمحتواه عميقاً إلى زمن تواجدنا الأول في دنيا الوجود, زمن أسلافنا. فهو يحوي تاريخ مجمل تجارب وجودنا البشري, وفيه تتخزن كل معلومة (تجربة) ساهمت في تطورنا و نسيناها, أو تجاوزها الوعي الإنساني بإهمالها إثناء رحلة تطوره ونضوجه الممتدة إلى آلاف السنين. المعلومة في اللاوعي الجمعي تنتقل منه إلينا عن طريق تواصله مع فرع ذاكرتنا اللاواعية المتخصصة بالتواصل معه, من هذه الأخيرة تعود لتنتقل إلى ذاكرة لاوعينا الفردي و تتخزن فيه على شكل أنماط و ميول أو شذرات من معلومات مرمزة. و قد بات معلوماً أن لذاكرة اللاوعي الفردي دور مهم و مؤثر في التوجهات و الميول الشخصية, وعلى المشاعر, و في انماط السلوك, فهي تتدخل بشكل غير مباشر في عملية تشكل الشخصية الفردية و تساهم في بنائها. كما أن لها سلطة فاعلة على الوعي المدرِك, إذ غالباً ما تتحكم به و توجهه, لا سيما في تلك القرارات التي تتطغى فيها مشاعر الفرد على عقله.

لماذا الحديث عن اللاوعي الجمعي؟ و ما علاقته بالحب؟ وبالحب الإلهي؟ الجواب هو الميول الإنسانية, أو التوجهات الغريزية المفطور عليها الإنسان. فالإنسان نعم يولد بوعي غير مدرِك, خام و خالٍ من أي معلومة, و من أي فهم أو معنى لأي إحساس يحسه أو يشعر به, لا سيما في مرحلة ما قبل فطامه, لكنه في الوقت عينه يولد بميول غريزية مخزَنة في لاوعيه توجهه, وتساعده على التأقلم والتطور وتعينه على التفاعل و الاندماج مع محيط وطنه الجديد,أي الحياة. في بداية مقالنا قمنا بتشبيه إحدى هذه الميول الفطرية بالبذرة. حين تحدثنا عن نشوء الحب, و كيف تبرعم من بذرته الخام, و كيف نمى أولاً بالرعاية و بالإهتمام, و كيف تطور و نضج بالتربية,لا سيما تربية الأم و الأب. و نحن تحدثنا أيضاً عن حب الأم و حب الأب, من منظور الطفل, وكيف أن الطفل يميز بين نوعيهما, على أن حب الأم هو استحقاق له مسلم به و غير مشروط , مقارنةً بحب الأب الذي يراه الطفل على أنه حب مكتسب مشروط بإثبات جدارته لإبيه الذي يكافئه بإظهار السعادة و منح الرضا في كل مرة يتعلم فيها الطفل شيئاً جديداً أو يتقنه.

إذن الحب مَيل فطري في الإنسان, فالإنسان يولد ليُحِب و ليُحَب, وليستمر نسل نوعه في هذا الوجود عن طريق الحب. هذا الميل الفطري للحب , كباقي الميول الأخرى, كالحرية مثلاً, انتقل إلى الإنسان عن طريق اتصال لاوعيه الفردي باللاوعي الجمعي البشري. فلولا ميل الإنسان للحب لما ساد باقي المخلوقات و لما ارتقى عنها, فالأمر ليس مقتصراً فقط على ميزة العقل, و لولا الحب لما أنشأ العائلة و الأسرة و لا المجتمعات.و لما بنى الثقافات و لما عَمَر الأرض بالحضارات. لأن نفس الإنسان مزيج اثنين :عقل و روح, مترابطين مع بعضهما في حوار دياليكتيكي مستمر, و متأثرَين ببعضهما بفعل تواصلهما الدائم. بعقله الذي تغذى على فضول الإكتشاف و السعي للمعرفة, و على منطق السببة المتولدة من الملاحظة و التفكر, ساد الإنسان الأرض و سيطر على مخلوقاتها و ثرواتها. وبروحه, التي غذاها بالحب و بأنواعه المتفرعة عنه, و باقي المشاعر الوجدانية, بنى العائلات واالثقافات و الفنون, وأنشاً الروابط الإجتماعية, فقامت المدن و اتسعت الحضارات. بعين العقل و انجذاب الروح رأى الإنسان جمال الحياة, متمثلة بالطبيعة, فأحبها و أحب احتضانها له فقدّسها. ثم بحدس الروح و بتفكر العقل استشعر وجود ذات أعلى منه خالقة للطبيعته و مخلوقاتها, فهابها العقل وسعى لاسترضائها بإظهار الإمتنان, و عبّر عن خوفه منها وامتنانه لها بالتقديس, الذي ترجمه طقوساً و شعائراً تعبدية تنوعت و تطورت على مدار رحلة تطور وعيه. و من ثم, حين وعى الإنسان أكثر, ونضج تفكر عقله, ارتقت روحه و سمت إيماناً أنضج, فألهمها العقل أن اشكري معي و تعبدي, فأحبت, وعبدت خالقها بالحب. لأن الروج لا تنطق إلا من خلال المشاعر, و الحب هو لغتها الأثيرة.

التعبد شأنه شأن الحب و الحرية , هو ميل فطري في الإنسان. فالإنسان يميل إلى عبادة ما أحب, و العبادة في شكلها الروحي الصحيح لا السلوكي التقليدي ما هي إلا فيض الحب, فيضان من الحب كبير متجه بكل كيانه نحو موضوع بعينه دون سواه. لو لم يكتشف الإانسان فكرة الإله, ولو لم ينجذب نحوها بشدة بهدف اكتشاف سر غموضها ليعرفها أكثر, لو لم يتعلق بها بعد أن صارت هاجساً لتفكره, لو لم يتحوّل تعلقه و تفكره الشديد بها إلى حب فياض, ثم إلى تقديس, فعبادة, لكان الإنسان عبد أي شيئ أخر أحبه بشدة. و هو ما فعله واقعاً, ففي بدايات وجوده على الأرض, قبل اكتشافه لفكرة الإله الخالق, قدس الإنسان في الطبيعة كل ما رآه أهلاً للتقديس, ومن ثم عبده بعدما تعلق به بشدة. هكذا هو الإنسان, ميال بالفطرة للحب, و حبه إذا ما تعاظم تحوّل إلى تقديس و عبادة.

و بما أن بداية تعرف الإنسان على الحب كانت ضمن عائلة و في حضنين فيها مختلفين, واحدهما للأم و ثانيهما للأب, و بما أن وعيه للحب تم من خلال منظور فهمه هو لحب والديه. و بما أن منظور وعي الطفل ميّز بين حب الأم و حب الأب, على أن حب الأم هو حب غير مشروط و مستمر بالمنح مهما أخطأ الإنسان أو تعثر, مقارنةً مع حب الأب الذي فسره على أنه مكتسب بحسن الأفعال و مشروط بإثبات الجدارة, كان من الطبيعي أن يرافق هذا الفهم رحلة اكتشاف الإنسان للإله, و أن يحضر معناه في فهمه لفكرته, و في فهمه لكيفية حب الخالق لمخلوقاته, فكيف يفهم الإنسان حب الإله ؟

يمكننا تقسيم رحلة تطور فهم الإنسان لحب الإله إلى ثلاث مراحل : مرحلة الحب الأمومي, مرحلة الحب الأبوي, و مرحلة الحب المطلق, المتحد بذات المعبود. و تجدر الإشارة في هذا المجال, إلى أن تطور فهم الإنسان للحب الإلهي ليس محصوراً في نطاق تطور الأحداث التاريخية, أو متزامن بشكل حصري مع رحلة تطور النوع البشري عبر الزمن. فالوعي الإنساني الجمعي نعم ينضج على خط طول, إذ انه يتقدم طولياً بتقدم مسار الزمن, غير أن نضوج الوعي الفردي ينضج على خط عرض, حيث أنه يتوسع عرضاً داخل الوعي الجمعي نفسه, و هذا ما يُلاحظ في قفزات نضوج الوعي الفردية أو الإستثنائية (كالحكماء أو الأنبياء), المتقدمة داخل المجتمعات المستقرة على مستوى متأخر من نضج الوعي. فمستوى نضوج وعي أي مجتمع يُقاس بمستوى نضج وعي غالبية أفراده لا بمستوى وعي الأقلية الأنضج فيه, و إن تشاركت هاتان الفئتان الحقبة الزمنية نفسها.

المرحلة الأولى من فهم الإنسان للحب الإلهي سادت العصر الأول من الوعي الإنساني, لا سيما فترة ما قبل العمران , حين كان الإنسان يعيش حراً في حضن الطبيعة المفتوحة, وحين كانت مجتمعاته مقتصرة على العشائر الأسرية و القبائلية. في هذه المرحلة. اتخذ الإنسان الطبيعة أماً له, فهو ابنها الذي يعيش في أحضانها و يتغذي على خيراتها, باصطياد حيواناتها و بجمع ثمار نباتها و أشجارها. وحين أحبها الإنسان أحبها حب الوليد غير الواعي لأمه, أي أنه أحب عطاءها و رعايتها له,فقدسها و اسقط على حبها مفهومه عن حب الأم . و حين بدأ بالعبادة أعطى إلهه (أو آلهته) صفات الأمومة. ففي هذه المرحلة, كان حب الإله, من منظور الإنسان, غير مشروط و مستمراً من دون ضرورات اثبات جدارة, أي أنه كان من دون قوانين تُفرض على الإنسان ليتعلمها و ليطيعها. فالشعائر التعبدية في هذه المرحلة البدائية اقتصرت على الإحتفالات الممجدة للإله, و على التقرب منه بتقديم الهداية و القرابين, و على اتخاد اسمه أو رمزه الوثني شعاراً يرعى القبلية و يحيمها. كما أن غضبه في هذه المرحلة ما كان ليكون على القبيلة التي تعبده, بل لها, فهو لا يغضب إلا على أعدائها, و لعنته لا تصيب إلا من أراد بها شر.

في فترة لاحقة من هذه المرحلة, حين نضج وعي الإنسان أكثر وعرف الزراعة و الصناعة و العمارة, قام بتشييد المدن, فابتعد عن الطبيعة وانتقل إلى حضارة المدينة, و مع انتقاله إلى الحضارة المدنية, انتقل معه أيضاً هذا المفهوم الأمومي للحب الإلهي. غير أن الإلهة الأنثى ما عادت هي المتسيدة الوحيدة للمشهد الربوبي, لأن الإله المذكر ولج لوحة المعنى الربوبي من باب الحضارة التي عمرها الإنسان الذكر بسواعد مهاراته الحرفية و فتوحاته القتالية. فتقاسم الذكر مع الإنثى المعنى الإلهي و شاركها في الربوبية, و بدأ الإنسان بتجسيده أوثاناً و أعطاه أسماء مذكرة, و من ثم لاحقاً في عصر ابتكار الكتابة و انتشارها, روى الإنسان و كتب رواياته الدينية, و فيها حكى عن قصة لقاء الإله الأم بالإله الأب, و فصّل تفاصيل تزاوجهما و تناسل الألهة منهما. و شيئاً فشيئاً, مع تطور الحضارة و تقدمها, بدأ منظور فهم الإنسان للحب الإلهي بالتحول من الحب الأمومي إلى الحب الأبوي لا سيما في مرحلة ظهور الفلاسفة و الأنبياء, و من ثم في عصر ظهور الرسالات التوحيدية استقر هذا المفهوم على جانبه الأبوي فقط, فتسيد الحب الأبوي المشهد الربوبي, و بنى الإنسان علاقته الدينية مع إلهه اعتماداً على هذا المنظور و انطلاقاً منه.

في هذه المرحلة الثانية من تطور مفهوم الحب الإلهي في الوعي الإنساني, يُسقط المتعبد منظوره لحب الأب على منظوره لحب الإله, فيفهم العابد حب الإله على أنه حب مكتسب و مشروط, و غير ممنوح من دون طاعة مطلقة. فالعابد لا ينال رضا الإله و مكافآت ثوابه إلا إذا اتقن ممارسة شعائره الدينية. كما أن إنفاذه للأمر الإلهي, عن طريق تفانيه بتطبيق الشرائع الإلهية, يُعتبر العاصم الوحيد له من الغضب الإلهي ومن زوال النعم . لكن الإنسان الذي انبنى و تجذر في لاوعيه مفهومه الأول عن الحب الإلهي, أي في مرحلة بدايات التعبد, حين عرفه كحب أمومي غير مشروط, و ممنوح له على الدوام بغض النظر عن الأخطاء و المعاصي, هل سيتقبل بسهولة هذا النوع المشروط من الحب الإلهي؟ خاصة إذا ما تحوّلت مسألة تطبيق شرائعه إلى هوس و نفوذ, يضيّقان مساحة الحرية الفردية التي هي ميل فطري في الإنسان؟ أم أنه سيحن إلى السعادة المطلقة التي عرفها في حضن مفهومه الأمومي عن حب الإله؟ بالطبع لن يتقبل بسهولة, وبالطبع سيحن للمفهوم الأول. فماذا سيفعل؟. الجواب :سيتمرد.

تماماً كالحب و التعبد و الحرية, التمرد هو مَيلٌ فطري في الإنسان.و مثلهما أيضاً هو سلوك نفسي, و الهدف من تحوّل الميول الفطرية إلى مسلك نفسي هو حماية استقرار الذات من صراعاتها النفسية. و لتتوضح الفكرة أكثر, لا بد من تقديم لمحة موجزة عن كيفية عمل الجهاز النفسي. أولاً, لفهم دور هذه الميول في بناء الشخصية الفردية. و ثانياً, للتعرف عليها كسلوك نفسي مؤثر في عملية استقرار و توازن النفس البشرية. فلننعطف إذن إلى هذا التوضيح الموجز قبل استكمال حديثنا عن مراحل تطور فهم الإنسان للحب الإلهي

عندما يلج ضمير الإنسان منطقة التصارع النفسي, مثلاً بين مفروضات العقل عليه و تنقاض ردود مشاعره عليها, أو بين شعورَين متناقضَين, يهب جهاز مناعته النفسي لحمايته. ولتدخّل جهاز المناعة النفسي علامات, تماماً كعلامة ارتفاع الحرارة عند تدخل جهاز المناعة العضوي. فمثلاً, من علامات تدخل جهاز المناعة النفسي ظهور عوارض الأمراض النفسية. فالمرض النفسي في مراحله الأولى قبل تجذره و استقراره كمرض, ما هو إلا محاولة ذاتية من النفس لإصلاح ذاتها, و الهدف منه تجاوز منطقة صراعها الداخلي للعودة بها إلى منطقة استقرارها, و العوارض النفسية الأولية ما هي إلا علامات تدلل على محاولات الذات للإصلاح. إذا نجحت مهمتها, زال العارض و معه خطورة انزلاق الذات إلى المرض النفسي. أما إذا فشلت الذات في مهمة إصلاح ذاتها, و باستعادة توازنها بخروجها من منطقة الصراع , فإن العارض النفسي سيستقر وسيستتبع بعوارض نفسية أخرى غيره. وبتراكم العوارض و بطول مدة تواجد الذات في منطقة الصراع, من دون حلول ترميمية أو إصلاحية, يتأصل الصراع النفسي فيها و يتحول إلى خلل على شكل عُقد أو أمراض نفسية, و هو ما يستدعي حينئذ التدخل الخارجي باستشارة المتخصصين في هذا المجال.

هذا في حالة الصراعات النفسية المؤدية إلى أمراض, أما في الصراعات النفسية غير المؤدية إلى أمرض (أو الصحية إذا جاز التعبير), لا سيما في مرحلة النمو و بناء الشخصية, الجهاز المناعي النفسي أيضاً يتدخل, لكن هذه المرة عن طريق استنجاده بالميول الموجودة فينا, و ذلك بتفعيل سلوكها و تنشيطه. إذا ما نشط مَيل فينا أكثر من غيره, فإنه يبرز ويتبدى كسِمة نافرة بين باقي السمات الأخرى في الشخصية, فتتصف الشخصية به و تتطبع بطبيعته و تتخذه عنواناً قائداً لها, و من ثم تتبرمج خطة حياتها اعتماداً عليه. فمثلاً نحن نلاجظ أن هناك شخصيات محبة أكثر من غيرها كأن الحب هو طبعها, و شخصيات شجاعة أكثر من غيرها و أخرى متمردة أو ثورية أكثر من غيرها و هكذا إلى آخر التصنيف. هذه الميول ليست حكراً على الشخصيات التي تبنتها واتصفت بها, بل هي موجودة في كل شخصية من الشخصيات الأخرى, غير أنها تبرز بوضوح اكبر في شخصية دون سواها بسبب تبني هذه الشخصية لها في مرحلة ما من مراحل نمو بنائها. لكنها تتفعل و تنشط أيضاً لدى ياقي الشخصيات, غير المتسمة بها, إذا ما وجدت هذه الشخصيات نفسها في وضع صراع نفسي يتطلب استحضار إحدى هذه الميول و تفعيلها. وهو ما حدث مع العابد الذي حنّ إلى مفهومه الأمومي عن حب الإلهي, فتمرد على مفهوم الحب الأبوي له.

هذا العابد المتمرد وجد نفسه في وضع صراع نفسي بين أن يتقبل منظور مجتمعه للحب الإلهي, الذي يراه مشابهاً للحب الأبوي و مشروطاً مثله, و بين أن يمارس تعبده من منظور فهمه هو لطبيعة الحب الإلهي. و ليس بالضرورة بفهمه له على أنه حب أمومي كما سنرى لاحقاً. في خضم هذا الصراع النفسي, تبدأ المرحلة الثالثة من فهم الإنسان للإله أو لنوع حبه بالتشكل و الظهور. في هذه المرحلة الثالثة يبدأ وعي العابد باستشعار قلق التغرب داخل الوعي الجمعي الذي يحتضنه, فينزح عن الوعي الجمعي نحو وعيه الفردي الذاتي. و بهذا النزوح تتولد في ذات العابد رغبة التأمل و التفكر, فيكونان, أي تأمل مشهد الواقع الخارجي و الواقع الذاتي و التفكّر فيهما, سلوك العابد النفسي نحو إعادة توازن المعاني في مفاهيم وعيه. ومن هذا السلوك ينبلج تفكر العابد الفردي و يظهر مستقلاً عن الفكر الجمعي.

التفكر الفردي قد يتمخض عن معنى جديد أو معتقد يخالف الإعتقاد الجمعي , فيستقل العابد به عن معتقد وعي مجتمعه, و به يتمرد عليه بموقف أو بسلوك يتخذه نحوه, و ذلك لإخراج نفسه من منطقة صراعها النفسي والعودة بها إلى منطقة استقرارها. فيكون موقفه إحدى المواقف التالية :(1) الارتكاس إلى الحنين, بالعودة إلى المفهوم الأمومي المُسقط على الحب الإلهي, فيتبناه العابد مفهوماً و يرفض نظيره الأبوي. (2) المزاوجة بين المفهومين , فيتبناهما معاً مفهوماً واحداً و يمارس تعبده انطلاقاً من هذا المنظار المزدوج لطبيعة الحب الإلهي. (3) رفض المفهومين معاً و نبذ الفكرة الإلهية من أصلها و الإنعتاق منها. (4) رفض المفهومين من دون نبذ الفكرة الإلهية و استكمال رحلة التأمل الذاتي و التفكر الفردي بحثاً عن مفهوم أعمق و أصوب و أقرب إلى الحقيقة من المفهومَين السابقين.

التمرد الذي عرفته هذه المرحلة الثالثة من تطور مفهوم الإنسان لحب الإله, نجد أثاره في التيارات الإلحادية, لكن أيضاً و الأهم في التيارات و الحركات الدينية المعارضة, لا سيما أولئك الذين وسموا التاريخ بثورات تمردهم. فمنهم من نجح في تمرده و حول ثورته إلى مذهب متفرع عن الدين نفسه. و منهم من فشل فاكتفى بالإنعزال داخل الطوائف المغلقة, اتقاء الاضطهاد و التنكيل بداعي تهم الهرطقة أو الزندقة, ومنهم من تمرّد من دون ثورة, ظل صامتاً و مارس تعبده صلاة تأملٍ عميقة, لكن متفكرة, تجّد بالعقل تفكراً و بالروح حباً, بحثاً عن معنى لهذه العلاقة بين الخالق و المخلوق, و عن نوع الحب الذي يحكمها, بعيداً عن أسبابه الأولى التي أوجدته, والتي انطلقت من فهم الإنسان له على أنه حب أمومي, و بعيداً عن منطق الثواب و العقاب القائم عليه مفهوم الحب الإلهي كحب أبوي.

مفهوم الحب الإلهي عند هذه الفئة الأخيرة من المتمردين, أي من تمرد صامتاً, هو عنوان المرحلة الثالثة التي اسمينها بالحب المطلق و المتحد بذات المعبود. فالتأمل المتفكر المتواصل عند هولاء, تحول مع الوقت إلى انجذاب من نوع خاص, بين العابد المتأمل و الفكرة المتأمَلة, و الإنجذاب المكثف نحو معرفة حقيقة التعبد و ماهية نوع حب الإله تحول إلى رغبة لاستكشافها من جديد, لمعرفتها أكثر, لكن بطريقة جديدة, تخالف وسائل المعرفة المتاحة للجميع أو المتعارف عليها, والقائمة على التعلم و التربية أو التوريث و التقليد, وذلك عن طريق الغنوص أو المعرفة الذاتية المدرَكة روحياً. فتحولت العلاقة بين العابد و المعبود إلى علاقة ثنائية خاصة, تجمع ذاتين اثنتين فقط, ومستقلة تماماً عن العلاقة الجماعية التي تربط كافة المتعبدين بذات المعبود, تحولت العبادة إلى ذاتين متحدتَين في علاقة حب لا تجمع سواهما و لا تقبل فيها طرفاً ثالث إلا الحب المطلق الذي صار وسيلة التواصل الروحي و المعرفي بينهما.

هذا التحول النوعي في شكل العلاقة بين العابد و المعبود أدى حكماً إلى تغير منظور فهم العابد لنوع الحب الحاكم للعلاقة التعبدية, فصار نوع الحب فيها أقرب إلى حب المحبوب منه إلى حب الإبن لأمه أو لأبيه. و بالتالي اتخد الإله في فهم العابد صفة الذات المعشوقة الجاذبة لجمع محبيها, أولئك المنتظرين بأن تتقبل الذات الإلهية حبهم بحب علوي مقابل يرفعهم فيتسمون به, ويُلحقهم ببلاط حضرتها ذواتاً ملتحمة بها, فتنتهي غربتهم و يخمد توتر أرواحهم, وبانتهاء الغربة يزول القلق الناجم عن وعي العابد لحقيقة انفصاله عن الذات الأعلى الواجدة له, و بتواحد ذات العابد مع ذات المعبود, يعود لذاته المنفصلة استقرارها فتعيش سعادتها اطمئناناً و سلاماً في دنيا الوجود و يقيناً بهما بعد الفناء. هذا النوع من العلاقات الثنائية يختلف عن باقي العلاقات الثنائية التي عرفها الإنسان وعن أنواع الحب التي تحكمها, لكن نوعه يتشابه نوعاً ما مع بعض الصفات التي نجدها في نوعين اثنين من الحب : هما حب الأم و الحب الجنسي الرومنسي.

وجه التشابه بين هذا النوع من الحب الإلهي و الحب الجنسي, هو أن العابد يمارس تعبده مدفوعاً بحب فياض يملأ كيانه و يأسر انشغال باله بجاذبية فيه مستمرة تقلق راحته و توتر كيانه إذا ما انشغل بأمر آخر سواها. كما أن حب العابد في هذا النوع من فهم الحب الإلهي ,غالباً ما يكون مقروناً برغبة مُلحة تدفع به للتواحد مع ذات المعبود, للانفتاح عليه بالحب انفتاحاً مطلقاً, ليقينٍ غامضٍ في ذات العابد أن المعبود أيضاً قابل للانفتاح عليه انفتاحاً معرفياً يكشف له غموض ما جهله عقله و غاب عن ادراكه الدنيوي, عن الغاية من الوجود, و عن كيفية اتحاد الناقص بالكامل, و عن الدرب الأقرب الذي ستقود روح ذاته إلى إعادة التحامها مع جذر أصلها الذي انبعثت منه . و طبعاً كل ما سبق لا يمكن تحقيقه إلا إذا تعبد العابد معبوده ببهدف الحب فقط لا لغاية أخرى سواه, لا خوفاً من عقاب و لا طمعاً بثواب. و هذا ما رأيناه في نوع الحب الذي يحكم علاقات العشق الحقيقي الصادق, إذا نرى أن المحب لا غاية له سوى قرب الحبيب و وصاله و تحقيق رضاه, عبر مبادرته بالحب غير المشروط بغاية أخرى سوى غاية الحب لذاته, و الذات العاشقة فيه تكون مدفوعة برغبة جياشة للإتحاد مع الذات المعشوقة, للانكشاف عليها بكلها لأنها صارت الذات الآمنة التي تأمنها على ذاتها بكل ما فيها من منفر أو جميل.

وبما أن المعبود غير مرئي و غير مدرك بالحواس, فلا سبيل للتعبير له عن الحب و الاتحاد معه سوى بتأمل تجلياته و بحب هذه التجليات جميعها دون استثناء, و كيفما تجلت, و بما أن المعبود هو خالق الوجود كله و هو صانعه و خالق كل مخلوقاته و موضوعاته, فلا برهان على الحب أثبت وأوضح من حب العابد لكل ما صنع و ما خلق محبوبه, فكل ما يصنعه المحبوب جميل و يشبهه. و بما أن الحب طريق العابد الأوحد للوصل إلى حب محبوبه و نيل رضاه بقبول اتحاده به, صار الحب دينه, فهو يحب محبوبه و يحب ذاته التي تحب محبوبه, و يحب كل ذات أخرى تحب محبوبه , و كل ذات ضلت عن حب محبوبه, يحب كل ما خلقه مخبوبه , لكأن الحب طهّر كيانه و حرره من أثقال أي مشاعر أخرى مناقضة لشعور الحب أو متنافرة معه. فصار حبه لمحبوبه المعبود لغة تخاطبه مع الآخرين, و أسلوب حياته قولاً و فعلاً , أي صار حباً مطلقاً غير مشروط, شابه حب الأم التي أحبت أطفال غيرها من خلال حبها لطفلها, لا بل يمكن القول أن هذا النوع من الحب المتعبد من خلال الحب ارتقى بنوعه لمرتبة أعلى من مرتبة حب الأم لوليدها, فصار أرفع مقامات الحب و أسمى درجاته على الأطلاق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فخر المطعم اليوناني.. هذه أسرار لفة الجيرو ! | يوروماكس


.. السليمانية.. قتلى ومصابين في الهجوم على حقل كورمور الغازي




.. طالب يؤدي الصلاة مكبل اليدين في كاليفورنيا


.. غارات إسرائيلية شمال وشرق مخيم النصيرات




.. نائب بالكونغرس ينضم للحراك الطلابي المؤيد لغزة